قبل الخروج الجماعي على الدولة
المفاعيل الإجتماعية والثقافية لفورة سوق الأسهم
تشهد الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في السنتين الماضيتين
تحولات دراماتيكية غير مسبوقة بفعل حمى سوق الاسهم التي
شهدت قفزات قياسية على وقع الارتفاع الكبير في أسعار النفط.
لقد تركت هذه التحولات انعكاساتها المباشرة على الوضع
السياسي، فقد بات سوق الاسهم الحلبة الأكثر ضجيجاً وتفاعلاً
في البلد، وتمظهرات ذلك عديدة يعكسها مشهد الحياة اليومية
للناس، فقد أصبح مؤشر السوق وحده الحائز على إهتمام قطاع
واسع من صغار المضاربين الذي يمثلون شريحة واسعة من المجتمع.
بل إن ريتم الحياة يسير بوتيرة صارمة فيما يشبه المس الذي
أصاب الجميع أو العدوى التي تكاد تطال أفراد المجتمع.
إن ثمة سباقاً محموماً نحو اقتناص فرص المضاربات المربحة
والسريعة التي تتطلب حضوراً لحظياً في السوق والانقطاع
شبه الكلي امام شاشات الاسهم في هلوسة جماعية منفلتة من
أي ضوابط. أمام هذه الحركة الهادرة في سوق الاسهم تتقطع
الروابط الاجتماعية وتضعف مشاعر الالتزام بالواجبات اليومية،
ويبدو المؤجل والمرحّل قراراً جماعياً عفوياً، طالما أن
ثمة مكاسب مادية مجانية قابلة للحصد السريع.
في المجالس الخاصة كما العامة وكذا البيوت والمحافل،
يتكدس أفراد تحت عنوان اللقاءات الاجتماعية الروتينية
ولكن تختفي في داخل كل فرد روح الجماعة وتنبري الفردية
المطلقة منتصبة في عيون أصحابها المنهوبة نحو الشاشة الصغيرة.
تتقطع الاحاديث الودية في المجالس والبيوت بصورة دائمة
وقد تتلاشى لساعات (وفي الخسائر يتبدد الود لأيام وربما
لأسابيع وشهور) طالما أن مؤشر السوق يتأرجح صعوداً وهبوطاً،
في انتظار لحظة البيع والشراء.
تتحول أوقات النهار الى محفل صمت ما لم يخرقها نوبات
بيع وشراء، فالكل أسير صنم واحد إسمه (المؤشر) الذي كاد
أحدهم لفرط ما حظي من تقديس أن يشتري أسهماً في (المؤشر)
نفسه إعتقاداً منه بأنه شركة مضمونة الربح!. يحتل السوق
إهتماماً طاغياً في المساحة الكلية للانشغال الذهني اليومي
لقطاع واسع من الناس، فقد فرض السوق قوانينه الخاصة التي
أملت تبديلاً جوهرياً في الروابط الاجتماعية داخل الاسرة
والمجتمع وحتى المنشأة. فبين من يخضع نفقات بيته تحت حساب
صارم مدرجاً ضمن عمليات المضاربة اليومية، ووضع قياسات
زمنية ومالية لعلاقة الاباء بالأبناء، وبين من يحيل من
أبنائه الى شهادات إكتتاب إضافية، أي مشاريع استثمارية
في سوق الاسهم، لتنتقل الى حالات التسيب في المدارس وسط
طاقم التدريس، والموظفين الحكوميين، وإستقالة عدد غير
قليل من هؤلاء من أعمالهم للانضمام الى ركب المضاربين
الذين يجدون في هذه السوق منجماً يزداد بريقاً يوماً بعد
آخر.
في أوقات النهار كل شيء يبدو مؤجلاً حتى إشعار آخر،
قبل أن تضع حرب المضاربات أوزارها، فالانثيالات الجماعية
المتعاظمة تدفع نحو التنصل من مسؤوليات فورية وفردية،
فقد باتت الذاكرة الجماعية مشغولة بصورة شبه كاملة بتحقيق
المكسب المهدد بالزوال.. إن الاحساس الجماعي بأن فرصة
الكسب الحالية قد لا تتكرر، ولابد من تكريس المال والجهد
والوقت لاقتناصها، تلفت الى موقف مضمر من الدولة، بوصفها
كياناً غير مستقر أو دائم.
ليس من باب المصادفة أن تكون سوق الاسهم السعودية ذات
طابع خاص بالقياس الى أسواق الاسهم في دول الخليج الاخرى
أو حتى في العالم. لا يشعر المرء في الدول الاخرى بوطأة
الحضور اليومي لثقافة السوق وضجيج المضاربين وهلوساتهم.
بعد مأساة سوق المناخ التي كانت أشبه ما تكون بضربة تأديبية
مركّزة للمضاربين الوهمين والجشعين في الكويت عام 1982،
بتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أصبحت هناك
مسافة احترازية بين المضاربين وسوق الاسهم الكويتية، من
أجل درء التأثيرات النفسية والاقتصادية والذهنية التي
كانت مأساوية بجدارة. فبين حصد الارباح الذي يزيد في نهم
المضارب وبين التأثيرات النفسية والصحية تكمن حقيقة أخرى.
إن الحصاد النهائي يتمثل في حساب الربح أو الخسارة مع
خروج المضاربين بأجساد غير معلولة، حيث لا ضمانات مؤكدة
على أن الربح لا يترك بصمة السقم على جسد صاحبه.
للسوق السعودية فرادة تنطوي على مخاطر، فذيول السوق
تمتد الى مجمل النسيج الاجتماعي ومفاصل الحياة اليومية،
وتصبح في نهاية المطاف قلقاً مستحوذاً يندك في التكوينات
النفسية للأفراد والروابط الاجتماعية والثقافة السائدة
التي تلغي غيرها بطريقة تدميرية، بما يجعل أي قضية أخرى
وإن بدت ذات أهمية أكبر غير ذات جدوى بأن تحظى بالاهتمام.
من هنا يمكننا أن ندرك بأن كل شيء مؤجل الى حين، لأن طقوس
السوق باتت تملأ الاجندة اليومية للأفراد في عملية إختطاف
جماعية لا يعرف أحد وجهة المركبة ولا الخاطفون قد قرروا
أين ستكون نهاية المطاف.
يجهل أغلب المنغمسين في طاحونة المضاربات اليومية في
سوق الاسهم سر الارتفاع والانخفاض المفاجئين في قيمة الاسهم،
فلا حقائق رقمية تفصيلية وعقلانية تفسّر ذلك، سوى ما يطرأ
من نتف خبرية تزيد أو تنقص من وتيرة السوق، كما يجهل أيضاً
الغطاء الاقتصادي الذي يكفل بقاء السوق حياً وجاذباً.
ينجذب قطاع واسع للسوق دون إستعدادات احتياطية، في غياب
ثقافة توجيهية من قبل الحكومة وأرباب السوق لمنع أي إنعكسات
اجتماعية ونفسية خطيرة على المضاربين. كيف سيكون مصير
مئات العوائل التي يعولها أفراد تركوا وظائفهم والتحقوا
بركب المضاربين في سوق الاسهم في حال تعرض الاخيرة الى
ضربة قاصمة لاقدر الله.
ندرك تماماً بأن هناك نيّة مقصودة لابقاء السوق متوهجة
من أجل إبقاء سحرها على الضحايا الذين يراد منهم البقاء
أطول فترة ممكنة، فإنشغالهم المطلق بحركة المؤشر يجعل
الحكومة في مأمن، لأن الانطفاءة المفاجئة لشعلة السوق
تعني خروجاً جماعياً على الدولة، والحكومة تدرك ذلك تماماً.
ولهذا السبب، فإن ضخ كميات كبيرة من المال في سوق الاسهم
من أجل إستيعاب المزيد من المضاربين له مغزى محدد، بالرغم
من أن علاقة غزارة المال المتدفق مع المنتج ليست مطلوبة،
فليس نجاح الشركات ونشاطها التجاري بات يحدد قيمة السهم
بقدر ما تحدده الرساميل المتزايده حصصها لدى الشركات المدرجة
في سوق المضاربات، وهنا تبدو الخطورة بالغة.
بطبيعة الحال، ليس هناك حتى الآن ما يشير الى وجود
مفاجئات مستقبلية صادمة، مع الانفتاح التدريجي للسوق السعودية
امام الشركات والبنوك الاجنبية التي ستدخل تلقائياً ضمن
دورة المال المحلي، ولكن ليس هناك ضمانات مؤكدة على أن
حركة السوق تسير دائماً على خط تصاعدي مأمون، سيما وأن
سوق الاسهم مازالت وستبقى شديدة الصلة بالارتفاع الكبير
في أسعار النفط، وهي قضية يجب أن تكون حاضرة على الدوام
في أجندات الافراد والشركات والحكومة.
لن نفترض سيناريوهات متشائمة في ظل أوضاع تبعث على
التفاؤل ولارتباط ذلك بمصير عشرات الآلاف من العوائل التي
وجدت نفسها تحت تأثير أجواء جديدة، ولكن هناك مايدعو للحذر
الشديد بالنظر الى التداعيات القيمية والثقافية والاجتماعية
على قطاع واسع من المجتمع من جراء الامتصاص المذهل لكمية
المال والافراد داخل أتون دوامة السوق التي فرضت قيمها
على شؤون الحياة اليومية. بالرغم مما قيل عن مبالغات القصص
المروية عن إنعكاسات السوق على شؤون الحياة، فلا يمكن
إنكار جزء صحيح منها، وهو يكفي كمؤشر على التحولات الاجتماعية
الخطيرة المصاحبة لثقافة سوق الاسهم. فقد نشرت جريدة الحياة
في الخامس من فبراير نتفاً عن تأثيرات الاكتتابات على
شؤون المجتمع اليومية، منها أن شاباً تقدم لإحدى الأسر
في منطقة الباحة طالباً يد ابنتهم زوجة له، وجرى الاتفاق
مع والدها على أن يكون موعد الزواج متوافقاً مع إجازة
الربيع التي بدأت أخيراً. وفيما تشاغل الجميع في إنهاء
الاستعدادات والترتيبات الضرورية واللازمة لهذا الزواج،
تنبه الأب إلى أن زواج ابنته يترتب عليه إسقاطها من (كرت
العائلة)، ما يعني فقدان الفرصة لشراء أسهم إضافية في
العدد الكبير من الشركات المتوقع طرحها خلال العام الحالي،
وفقدان الفرصة أيضاً في رفع رصيده المالي وزيادة مدخراته
الشخصية.
وكان نتيجة هذا الاكتشاف أن قرر الأب تأجيل موعد الزواج
إلى إجازة عيد الفطر الذي يحل بعد عشرة أشهر، متذرعاً
بوجود ظروف خاصة ومادية اضطرته إلى اتخاذ هذا القرار.
فيما أبدت الفتاة تذمرها من قرار والدها، فحاولت أن تقنعه
أن ما يفعله أمر لا يجوز، ولا يزال العريس يبذل محاولات
جادة مع والد العروس لإثنائه عن قرار التأجيل، وأن يقبل
إتمام الزواج في موعده السابق، إلا أن والد العروس أجهض
كل المحاولات وأصر على موقفه على رغم أن العريس وصل به
الأمر إلى أن يعرض على والد العروس الموافقة على موعد
الزواج مقابل أن لا يسقط اسم ابنته إلا بعد انتهاء الاكتتابات،
وحين يريد هو ذلك لكن من دون جدوى.
رواية أخرى بحسب الصحيفة تفيد بأن زوجاً أجبر زوجته
على الحمل، رغم تحذير الاطباء لها بخطورة الانجاب على
حياتها الا بعد أربع سنوات على الاقل، ولكن الزوج بقي
مصرّاً على الانجاب، والسبب في ذلك يعود الى أنه سمع خبراً
بأن السوق ستشهد هذه السنة طرح إكتتابات في نحو 20 شركة
إستثمارية، وعليه قرر إستغلال إسم المولود في الاكتتابات
بغرض الربح.
وهناك قصص أخرى مماثلة تعكس ملامح تحول إجتماعي خطير،
ينذر بتبدّلات قيمية جوهرية، سترهن قطاعاً واسعاً من المجتمع
الى ما يمكن وصفه بالمنعرج المشوّه للتطور الاجتماعي بما
ينطوي على تمزقات وانحلالات بنيوية. والحديث هنا لا يدور
عن شريحة صغيرة في المجتمع، فهناك زيادة مضطردة في عدد
المضاربين أو المشتغلين في سوق الاسهم والمال، فهناك بحسب
بعض الارقام ما يربو عن ثلاثة ملايين محفظة بالسوق السعودية،
وهو وإن بدا طبيعياً في شبه غياب مجالات بديلة للاستثمار
الجاذب في السعودية بمدياته المتنوعة الصغيرة والمتوسطة
والبعيدة، بما يجعل سوق الاسهم الأكثر ربحية وجاذبية بالنسبة
لقطاع واسع، الا أن إنعكاساته الاجتماعية والثقافية تبدو
بالغة الخطورة.
إن العفوية في حركة السوق والقائمة على ردود الافعال
والانفعالات اللحظية تعكس مزاج السوق اليومية، كما تعكس
منسوب الوعي لدى المضاربين المأخوذين بمناخ التطور السريع
وغير المدرك لقيمة الاسهم السوقية وليست الواقعية. ومع
وجود فجوة معلوماتية، فإن خطورة الانكباب التام على سوق
الاسهم تكمن في كونها أصبحت تشكّل مصدر رزق وحيد لالآف
المواطنين الذين نظّموا حياتهم على أساس ما يجنونه في
هذه السوق، في أوضاع معيشية تزداد صعوبة بمرور الوقت،
مع إنخفاض حاد في متوسط دخل الفرد الذي يقل عن عن 800
دولار شهرياً، ومن هنا يمكن إدراك خطورة التبدلات غير
المحسوبة بإتقان في سوق الاسهم وانعكاساتها المباشرة على
الاوضاع المعيشية لملايين المستثمرين.
سيبدأ دون ريب فصل جديد في حال بدأ بريق السوق يخبو
أو يأخذ منحى آخر كالرتابة المملة أو التطورات الطفيفة
غير اللافتة، كما تجري عادة في أوضاع إقتصادية مستقرة،
مع إستبعاد إنتكاسة سوقية غير متوقعة في المدى القريب
على الاقل، حينئذ سينتقل الاكتتاب من الاقتصاد الى السياسة.
|