(2 - 3)
زمـن الـسـجـن.. أزمـنـة لـلـحـريـة
علي الدميني
طيلة شهرين لم أرَ (أحمد ناهر)، ولكنه حضر كالمفاجأة
حين كان (سراح) يهددني باستخدام وسائل التعذيب للإعتراف
بالإنتماء للحزب وأنا ارفض ذلك، فدخل علينا وقال لي مصافحاً:
أهلاً بالرفيق (مبارك).
صُعقتُ ورأيت أن إيراد إسمي الحركي دليل على أنهم اعتقلوا
قيادات الحزب وخلاياه، فاعترفتُ وأنا ممتلئ بالغضب والسخرية
وانفجرت بالضحك وسألني المحقق: ما الذي أضحكك؟
قلتُ: لقد انحلّت عقدة مبارك الحمود، وأخبرتهم بتفاصيل
تشابه الإسمين، فضحك أحمد ناهر، وعلّق: مبارك الحمود قد
خرج الى أهله منذ مدّة وانحلّت عقدته، أما أنت فتحمّل
تبعات عقدتك يا رفيق مبارك!
حاولتُ مداراة وطأة الهزيمة واتجهت نحو الباب، وصاح
أحمد ناهر: إلى أين؟
قلت الى قلعتي الحصينة، الزنزانة وليالي الصمت.
قالي لي: اجلس فلم نكمل بعد.. وأخذ دفتر التحقيق من
(أبو منصور) وطلب مني تدوين أسباب انتمائي الى الحزب الشيوعي،
وما هي مطالبي.
جلستُ وتحدثت معه طويلاً، وأوضحت له خلفية انتمائي
للحزب وقلت: في ظروف انعدام حرية التعبير، وحرية تشكيل
الجمعيات المهنية والثقافية والسياسية، يجد الإنسان نفسه
محتاجاً لإطار يمده بدفء المعنى وحرية التعبير، ويعوّضه
عن فقد حواضن الأهل والعشيرة.
وقد بحثتُ عن ذلك منذ مدة طويلة، كما يبحث الغريق عن
طوق النجاة، وكنتُ مستعداً للإنخراط في أي تجمع أو حزب
سواء كان (الإخوان المسلمون) أو القوميين أو اليساريين..
فلم تكن (الأيديولوجيا) هي الأساس، وإنما المهم هو البرنامج
السياسي الذي يعبّر عن رأيي وخياراتي حيال الوطن ومستقبله.
وكانت الإشتراكية تحمل وعود العدالة الإجتماعية للطبقات
الفقيرة، وتبشر بمجتمع ينتفي فيه الظلم والإستبداد واستغلال
الإنسان لأخيه الإنسان، وأنا كشاعر رقيق الإحساس، كنتُ
أتألم كثيراً لظروف المحتاجين والمهمشين والمنسيين في
كل أرجاء الوطن، ممن لم يتوفر لهم المسكن ولم تصلهم الكهرباء،
ولا طريق الإسفلت ولا المستشفيات، بينما تنعم الطبقات
المتنفذة بكل خيرات البلاد دون حسيب أو رقيب، وقد علمت
من أحد أصدقائي الحميمين في عام 1975 أن هناك حزب شيوعي
في المملكة يسعى لتحقيق العدالة الإجتماعية لكل المواطنين
من خلال تطبيق الإشتراكية.
وقد تلكأت في الإنتماء إليه، لأن مسمى (الحزب الشيوعي)
لا يجد قبولاً عند المواطنين حتى المحرومين الذين يسعى
الحزب لإنصافهم. وبغض النظر عن المخاطر الأمنية، فإنني
رأيت أن الحزب وحتى في ظروف السماح له بالعمل العلني لن
يحظى ـ وفق هذه التسمية ـ بالجماهيرية الكافية، لإيصال
ممثليه الى مجلس الشعب. وقد قلّبتُ الأمر على وجوهه لمدّة
عامين، حتى تسنّى لي قراءة بعض الكتب المؤسسة للفكر الماركسي،
وعرفت أن الشيوعية هي إحدى المراحل التاريخية في سياق
تطور المجتمعات، التي ينعم فيها الناس بالحرية وتقاسم
الخيرات (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته) وعرفت أن الدعاية
الرأسمالية التي كانت تخشى على مكتسباتها من المدّ الإشتراكي
هي التي جعلت من الشيوعية بعبعاً مخيفاً يعادي القيم الدينية
والطبيعة البشرية.
كما أنني اطلعت على العديد من المقالات والكتب التي
تتحدث عن الإشتراكية في الإسلام، وتتكيء على حوادث ومرويات
يحفظها التاريخ، مثل الحديث المروي عن نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم، الذي يؤكد على (أن الناس شركاء في ثلاثة:
الماء والنار والكلأ)، كما أتذكر مواقف أبي ذر رضي الله
عنه وقوله: (عجبت لمن بات جائعاً، كيف لا يخرج على الناس
بسيفه)، واستعدتُ قول عمر رضي الله عنه: (لئن عشت الى
قابل، لآخذنّ من أغنيائهم وأردنّه على فقرائهم حتى لا
يبقى بين). وكان من أهم ما قرأته في هذا السياق بعض مقالات
المرحوم السباعي، زعيم الإخوان المسلمين في سوريا، والذي
أصّل لمعنى الإشتراكية في الإسلام، وتحالف مع الشيوعيين
من خلال البرلمان السوري، لإقرار سلسلة التطبيقات الإشتراكية
ـ زمن الوحدة مع مصر ـ التي تضمنت توزيع الأراضي المملوكة
للإقطاعيين على الفلاحين الفقراء الذين كانوا أشباه عبيد
ملحقين بأراض مملوكة لكبار الأثرياء.
كما تأثرت بآراء السباعي السياسية التي دعت الى التحالف
مع الإتحاد السوفيتي ضد الغرب الرأسمالي الذي عمل على
إقامة دولة اسرائيل مثل رمح في قلب الوطن العربي، ومما
سببه ذلك من كوارث تشريد الفلسطينيين من أراضيهم، والإستيلاء
على المقدسات الإسلامية.
وقد اسهمت كل هذه القراءات والقناعات في وصولي الى
التعرف على حقيقة مهمة، وهي أن الماركسية وحلمها الإشتراكي،
ليست ديناً، ولا تحارب الأديان، بل أنها تؤكد على حرية
العبادة لكل إنسان.
ولذا انتميت الى الحزب الشيوعي في السعودية، كوطني
مسلم، يسعى لتطوير بلاده، ورفع الظلم عن الطبقات الفقيرة،
فالغاية من إقامة الدولة ـ كما يقول افلاطون ـ تحقيق السعادة
للجميع، وليست لفئة معينة. وكان انموذج تطبيق آليات الإشتراكية
الذي أثبت ـ آنذاك ـ نجاحه، هو الأنموذج والمثال، حتى
لم يبق حزب عربي ـ بما في ذلك بعض الأحزاب الإسلامية ـ
إلا وقرأ فيه سبيلاً لتحرير الطبقات الفقيرة، من الإستغلال
والفساد واحتكار الثروات.
أما مطالبي، فقد تضمنها برنامج الحزب الذي تعرفونه،
ولكن أهمها حسب رأيي هو:
1 ـ ضمان التوزيع العادل للثروة وإلغاء الإحتكار، وإنصاف
الطبقات الفقيرة والمحرومة من خلال آليات تحقيق العدل
والعدالة الإجتماعية، فالجائع لا يمكن أن يكون مخلصاً
لوطنه، كما قال فولتير.
2 ـ إطلاق الحريات العامة، والهيئات السياسية، وإزالة
كافة أشكال التمييز بين المواطنين على أسس طائفية أو مناطقية،
والسماح لتنظيمات المجتمع المهنية والنقابية والسياسية
بالعمل العلني، وفتح الباب أمام الناس ليعبروا عن آرائهم
وتطلعاتهم بحرية كاملة، فلا وطن حر إلا بمواطنين أحرار.
3 ـ إقامة نظام ديمقراطي من خلال إقرار دستور دائم
للبلاد ـ في ظل مشروعية القيادة ـ يكفل حقوق المواطنين،
وينظم العلاقة بين الحاكم والشعب، ويكفل تطبيق آليات العدالة
الإجتماعية.
4 ـ إزلة القواعد العسكرية الأجنبية، وإقامة علاقات
متوازنة مع كافة الدول العظمى.
5 ـ تأميم شركة أرامكو وتحويل ملكيتها للدولة.
6 ـ تطوير القاعدة الإقتصادية والتنموية المستدامة،
وإيجاد المصادر البديلة لثروة النفط الناضبة.
7 ـ تطوير مناهج التعليم بما يتلاءم مع التطور المعرفي
والتكنولوجي في العالم، وتوفير الخدمات الصحية والإسكانية
للمواطنين، وإنشاء الطرق والسدود، والعمل على دعم القطاع
الزراعي، وقطاعات صيد الأسماك والتعدين والسياحة والآثار.
8 ـ منح المرأة حقوقها في التعليم والعمل، وحقها في
المشاركة في الحياة الإجتماعية والسياسية.
9 ـ تطوير المرافق والتسهيلات للحجاج والمعتمرين لتدعيم
علاقة المملكة بالعالم الإسلامي، ولما ينطوي عليه ذلك
من تنويع لمصادر الدخل الوطني.
تأمل (أبو ناصر) ما ذكرته، وقال: لا تنبع المشكلة من
مطالبكم، حيث سبقتكم الحكومة في توفير أغلبها، ولكن المشكلة
تكمن في أمرين: أولهما مسمى (الحزب) وثانيهما العمل السياسي
السري.
وسألته: أترى أن الحكومة ستسمح بالتعبير عن المطالبة
الوطنية بشكل علني؟! صمت قليلاً ولم يعلّق.
قلت له: أما بالنسبة لي فإنني أؤكد لك إنني وغيري لسنا
من هواة العمل السري، وما دفعنا إليه إلا مصادرتكم لحرية
الرأي وحق التعبير، وسوف أجرّب أسلوب العمل المطلبي العلني
في المستقبل، من خلال خطابات ترفع للقيادة أو مسيرات شعبية
تعبّر عن رأي المواطنين.
قال لي بلهجة ساخرة: حينما تخرج من السجن يصير خير!
كان المحققان فرحين باستكمال آخر الإعترافات، ولذا
لم يطلبا مني الإعتذار عن انتمائي السياسي، ولعلهما كانا
يريان في عقوبة السجن ما يكفي عن الإعتذار، وقد قال الشاعر:
(ومن يبكي حولاً كاملاً فقد اعتذر).
وحين أستعيد الان حواري مع أحمد ناهر، وأنا أكتب هذه
الكلمات، فإنني أرى في مسيرة نشاطي الثقافي والمطلبي،
بعد خروجنا من السجن في عام 1983م، تعبيرا عن قناعة عميقة
بضرورة وجدوى هذا النمط من النشاط، وألمس يقيناً راسخاً
في نجاعته، وأن لدي الإستعداد الصادق لتحمل تبعاته، اعتقالاً
أو منعاً من السفر أو الكتابة. ولذا فإنني استلهمتُ تجربة
الديوانيات الكويتية، التي عمل الناشطون السياسيون من
خلالها على كتابة العرائض الاحتجاجية ضد تعطيل وحلّ البرلمان
الكويتي، والتوقيع عليها من شرائح واسعة من المواطنين
الكويتيين لتأييد هذا الإحتجاج في عام 1988.
وفي ذلك المناخ بادرت بكتابة عريضة مطلبية شاملة غطت
الجوانب السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي
تعاني منها بلادنا، وقد عرضتها على عدد من المثقفين والمهتمين
بالشأن العام في العديد من المناطق، ولكن الغالبية رأت
أن الظرف غير مناسب لتقديمها للقيادة السياسية.
وقد شهد ذلك العام ظروف انحباس الأفق أمام النشاط الثقافي
والأدبي تحديداً خلال مرحلة (مجزرة الحداثة) التي قادها
التيار الديني المتشدد وساندتها الأجهزة الحكومية وخاصة
وزارة الإعلام، التي قامت بالتضييق على الملحقات الأدبية
بينما سمحت بنشر وتوزيع الكتب التي تهاجم التيار الأدبي
الحداثي، وتكفير رموزه الأدبية، واستعداء المجتمع ضده،
وإقصاء الفاعلين من مواقع عملهم، حيث حرم الدكتور (سعيد
السريحي) من نيل شهادة الدكتوراة من جامعة أم القرى، واضطر
الدكتور عبدالله الغذامي الى ترك عمله في جامعة عبدالعزيز
والإنتقال الى جامعة سعود بالرياض، وتم خلالها تحويل فوزية
ابو خالد من العمل كأستاذة جامعية في جامعة الملك سعود
الى كاتبة أرشيف الوارد والصادر.
وحين وجدتُ التوقيت مناسباً عقب احتلا ل النظام الصدامي
للكويت في أغسطس 1990م، عملتُ على تطوير تلك العريضة،
للتعبير عن مقاربة تداعيات الأزمة التي عايشتها بلادنا،
وطرحتها على الأصدقاء كبديل للخطاب الذي أعدته مجموعة
من المثقفين في جدة، لتقديمه لخادم الحرمين الشريفين الملك
فهد، ولكنهم رأوا ان المضي في توقيع العريض المعدّة في
الغربية أكثر ملاءمة، ولا سيما وأنها قد حظيت بإجماع عام
في أوساط المهتمين بالشأن الوطني في الغربية والوسطى،
ولذا عمدت الى إرسال (عريضتي) بالبريد العادي للقيادة،
ولم أعمل على تسريبها الى وسائل الإعلام الخارجي.
وما برح هاجس العمل المطلبي العلني يدفعني خلال كل
هذه السنين لممارسة نشاطي الثقافي على السطح، ولذا عملت
مع نخبة من رموز الثقافة في المملكة على تنفيذ مشروع مجلة
(النص الجديد) وإصدارها من بيروت كمنبر ثقافي يسعى لنشر
ثقافة التنوير، وفك اختناق الساحة الثقافية المحاصرة في
بلادنا، من قبل الخطاب الديني المتشدد. وقد رأيتُ مع غيري
في مشروع المجلة حلماً جنينياً لتكوين منبر مستقل للثقافة،
وإطاراً يمكن اعتباره نواة لاتحاد الأدباء والكتاب، حتى
تنضج ظروف الإعتراف به من الجهات الرسمية.
وبالرغم من نجاح المجلة إلا أنها ما لبثت أن تحولت
الى مشروع فردي، أفقدها وهج الطموحات الجمعية العريضة،
وأدى بها الى التوقف، حيث انشغلت عن تحريرها بالإنخراط
في النشاط الوطني المطلبي ضمن إطار المهتمين بالشأن العام،
الذين وجدت في عملهم جدية والتزاماً صادقاً، وهو ما لم
تتوفر عليه ـ للأسف ـ تجربة مجلة (النص الجديد).
وحين أضع تجربتي الحياتية على طاولة التأمل، أجدني
ميّالاً لاختبار الأفكار والأحلام من خلال تماسها مع ممكنات
الواقع، فلا أميل الى استرجاع نماذج الماضي لأسقطها على
عتبات الحاضر، مثلما لا تغويني جِدّة النظريات وبريقها،
لاجتلابها من المستقبل او من خارج المحيط المتخيّل.
وهكذا، تتشكل واقعيتي الإختيارية مشدودة بين حافتي
الحلم والواقع، ومركّزة على ما يتخلّق بين جدلهما من الممكنات.
لذلك، يستهويني العمل الوطني في صيغته العلنية، لأنه
يتنفس الهواء في حواره مع الواقع، ويمتلك خيارات التكيف
مع المسجدات، والمتغيرات، ولأنه يمشي في الشارع بعيداً
عن أوهام الأحلام المزروعة في الأذهان أو في الأقبية السريّة
المنعزلة.
ومازلتُ أكثر يقيناً بجدوى ذلك النوع من النشاط العلني
المنظّم، برغم ظروف الإعتقالات والإحباطات التي اصابت
المهتمين بالشأن العام في بلادنا، كما أنني ما زلتُ مقتنعاً
بأن تكلفة العمل الوطني العلني، في هذه المرحلة، أقلّ
تكلفة على المستوى الشخصي، وأكثر فائدة وجدوى ـ من سواها
ـ على صعيد الحراك الإجتماعي.
ولربما تشكّلت قناعاتي بهذا الشكل لأنني حظيتُ ببعض
الشهرة في الوسط الأدبي، وليس من اليسير عليّ التخلّي
عنها، وربما حدثت تلك القناعات كرد فعل على تبعات الإنخراط
في التجربة الحزبية السرية، جراء ما تشترطه من جسارة واصطبار
على تحمّل قسوة التحقيق والتعذيب وسواها من التداعيات.
كما يمكن القول بأن هذا الميل الى العلانية قد تبلور
في ذهني نتيجة لما اختزنته في الأعماق من أذى جراء ما
وعيته من أنين المعتقلين في سجون وزارة الداخلية الذين
ينحدرون بتنوعهم في ذلك العام من مختلف ألوان الطيف السياسي
ـ من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ـ والتي طالت في دائرتها
عدداً من المثقفين البعيدين عن تلك التنظيمات، مثلما طالت
معتقلين قدامى لشبهة انتسابهم لهذا الحزب أو ذاك، فهل
أنجزت أطياف سجون وزارة الداخلية وعنابر سجنها في عام
1982م كل هذا التأثير؟
أسئلة عديدة، وإجابات متعارضة، ولكنني ما زلتُ متمسكاً
بخيار العمل العلني والسلمي، والذي أطالب من خلاله بكفالة
حرية التعبير وتشكيل جمعيات المجتمع المدني، بما في ذلك
حرية تكوين الأحزاب!
كانت عنابر السجن تقع في الجزء الغربي من الدور الأول
لوزارة الداخلية في مبناها القديم، وقد شغلت الزنازين
الإنفرادية عنبرين يفصلهما ممر بسعة ثلاثة أمتار، يستخدم
(للتشميس والرياضة الإنفرادية). وقد أغلق عليها جميعاً
باب رمادي كئيب، يتفرع من البهو الرئيسي لمدخل الوزارة.
وحين يدلف الداخل من هذا الباب فإنه يمر عبر ممر متدرج
نحو الأسفل، ولا يزيد عرضه عن أربعة أمتار. وكان يقبع
فيه عند أول يوم لدخولي عجوزان نحيلان لا يكلاّن عن التأفف
والدعاء بالفرج القريب. وكنتُ أسلّم عليهما بعيني خلال
صعودي للتحقيق، ولكن البهو الصغير صار ممتلئاً في تلك
الليلة التي مثلت فيها أمام الفريق بن مسعود، حيث تمكنت
عيناي من التعرف على بعض الأشخاص الذين افترشوا المكان
الضيق الى جوار بعضهم، وكان أحدهم هو (حسن السنان) الذي
يعمل في كلية البترول منذ التحاقي بها عام 1968م. وأذكر
أنه قد اعتقل في عام 1969م، مع عدد كبير من موظفي الكلية
الذين كان بعضهم ينتمي لحزب البعث، أو جبهة تحرير الحجاز،
والبعض الآخر ينتمي (لجبهة التحرر الوطني).
سلّمتُ على حسن بعيني، واستعدتُ ذكرى كلية البترول
التي لا تُنسى.
وكما هو معروف فقد اُنشئت الكلية في عام 1962م، وافتتحها
المغفور له الملك فيصل، وحاربتها أرامكو (الأمريكية).
وقد أسسها المرحوم صالح أمبه لكي تكون أنموذجاً لحداثة
الصرح الأكاديمي والإجتماعي معاً، حيث حرصت على تدريب
الطالب على المشاركة في اتخاذ القرار من خلال الأندية
العلمية والفنية والثقافية والرياضية المستقلة عن تدخلات
إدارة الكلية، وعملت على تشكيل أول (رابطة للطلاب) في
بلادنا، يتم فيها إقرار مبدأ الإنتخابات وإسهام الطلاب
في تمويل أنشطتها من رواتبهم بإشتراك شهري، ويتم من خلال
ذلك تكليف مجلس إدارتها (الطلابي) بتسيير كافة أنشطتها
ورحلاتها ومشاركتها في الشأن العام.
وكنتُ قد التحقت بـ (كلية البترول والمعادن) للدراسة
في سبتمبر من عام 1968م، لأجد نفسي في محيط أكاديمي واجتماعي
جديد يشبه الصدمة لطالب قروي قادم من جبال الجنوب. وبالرغم
من أنني قضيتُ في جدة ثلاثة أعوام لإكمال دراسة المراحلة
الثانوية في مدارس الفلاح، التي كانت من أوائل المدارس
التي مولها الأهالي، وتحولت الى مدارس حكومية في عام 1966م،
إلا أنني كنتُ كمن دخل المدينة في آخر الليل وخرج منها
قبل أن يرى نور الصباح، حيث غدت الدراسة مدار حركتي اليومية،
فأخرج في الصباح من (العزبة) الى المدرسة، وأعود ظهراً
ولا أغادرها، منكبّاً على دراستي، حتى تخرّجت منها وكأنني
لم أغادر قريتي الجنوبية، محافظاً متزمتاً منطوياً على
ذاتي وقناعاتي كقنفذ صغير.
وفي الكلية وجدتني غريباً في بيئة اجتماعية منفتحة،
وضمن محيط عالي التنظيم والتحضر، تشكلت فيه الجماعات المختلفة
في كافة الحقول المعرفية والفنية والإجتماعية، ومنها جمعية
(نساء الكلية) التي ضمت مدرسات اللغة الإنجليزية، وزوجات
الأساتذة والموظفين الذين يقطنون سكن الحرم الجامعي. وقد
دعت (الجمعية النسائية) الطلاب والأساتذة والموظفين الى
حفل تعارف درجت على إقامته مطلع كل عام دراسي، وحين دخلت
الصالة الكبيرة التي اكتظت بهذه الوجوه المختلفة والأزياء
المتنوعة، أحسستُ بالغربة والتناقض وهزني الخوف من اختراق
السائد والمألوف، ووجدتني أتلعثم في الكلام، وأحني رأسي
نحو الأرض، عندما تولى بعض الزملاء القدامى في الكلية
من أعضاء الرابطة تعريفي على النساء. كنّ كثيرات، ومن
هؤلاء أستاذة اللغة الإنجليزية (مسز هل) وعايشة الفاسي،
زوجة عميد الكلية الدكتور صالح أمبه، ومليحة البريكي،
وسواهن، حتى بلّل العرق جبهتي، ووجدتني أخرج من الصالة
متسللاً بليل الى السكن، وأنا أستنكر هذا الجو الغريب.
كان الطلاب القدامى يتصرفون بشكل طبيعي، وكذلك الكثيرون
من الطلاب القادمين من المنطقة الغربية ومن المنطقة الشرقية،
أما أنا وبعض القادمين من الوسطى والشمالية، فقد كنا خارج
السرب، ونلوذ ببعضنا أمام هذا الطوفان العجيب. وبالرغم
من تحدّري من بيئة قروية، شغلت المرأة فيها موقعها الكامل
في الحياة، إلا أنني قد انطويت منذ الصغر على خجل مريع
ينتابني أمام النساء، وكنتُ أحسد كبار السن الذين كانوا
يشاركون النساء (النقر على الزير) في حفلات الزواج، وأذهب
الى زجر بعض الشباب الذين يطلّون من الأبواب والشبابيك
على النساء وهنّ يرقصن ويغنين في المناسبات السعيدة، وقد
بلغ خجلي من النساء درجة عالية من التشدد أو الهروب، حيث
كنتُ حين أراهن عائدات بقرب الماء أو (حزم) العشب، في
طرقات الجبال العالية، أفرّ الى طريق مغاير، أو موازٍ
لطريقهن!
هل كنتُ أكره المرأة الى هذا الحد أم أخشى سطوتها عليّ
بتلك الدرجة من الرهبة؟
في الحقيقة إنني كنتُ ومازلت أنطوي على مشاعر لا تحد
من الحب للمرأة والإستمتاع بأحاديث النساء، وكنتُ في طفولتي
أجلس لصق جدتي لأنصت لأحاديثهن وحكاياتهن. ولكن فقد الأم
المبكر ـ في الخامسة من عمري ـ أورثني احتياجاً مبكراً
وعميقاً لحنان المرأة، حتى دفعني للبحث عنه بكل السبل،
ولعلّ ذلك الخجل الكامن في أعماقي كان مجرد حجاب يستر
افتضاح مشاعري نحو الأنثى، فدفعني الى الهرب منها، ولعلّ
مصداقية ذلك قد اتضحت لي فيما بعد حيث قالت لي إحدى الشاعرات
في القاهرة إنه وبالرغم من ملامح البراءة والطفولة التي
تشع من وجهك إلا أن رغبات دفينة واضحة تتسرب بين ثنايا
تلك الملامح الطفولية!
مضت الأشهر العجلى في الكلية وانا أقاوم صراع المحافظ
القادم من القرية (بكرتونه) مع مخاض التفتح في (المحيط
الجديد) وأذكر أن الطلاب رتّبوا لرحلة سياحية الى الأحساء،
وحين ركبتُ (الباص) فتح أحد الطلاب الجالسين بجواري حقيبة
ملابس وأخرج منها مسجّلاً فارتفع صوت (الموسيقى) الغربية،
فلم أتمالك نفسي، ونزلت من الباص عائداً الى غرفتي.
ولكن أسوار المحافظة ما لبث أن تكسّرت رويداً رويداً،
حتى وجدتني في العام التالي أنضمّ الى نادي الموسيقى،
وأبدأ بتعلّم العزف على (الكمان). ورغم فشلي في التعلّم
إلا أن الخطوة كانت علامة على كسر جدران الممانعة والخروج
من قوقعة الإلف والأعتياد، وبداية دخول الى العالم الجديد
بكل تفاصيله الممتعة والجارحة أيضاً.
انكسرت حواجز الخجل تجاه المرأة وإزاء الآخرين، وعملتُ
موظف استقبال في سكن الطلاب حيث كانت الكلية قد انتهجت
سياسة تدريب الطلاب على العمل في أوقات فراغهم لتهيئتهم
للحياة العملية، ولإتاحة الفرصة أمامهم لتحسين الدخل الشهري.
وكنتُ أستقبل الزوار والمكالمات الخاصة بالطلاب، ومن خلال
تلك الإتصالات تعرفت على فتاة أمريكية في أرامكو واستفدت
من العلاقة معها في تطوير لغتي الإنجليزية، وتوقفتُ معها
أمام كلمة (Twin) حتى فهمت أنها تعني توأم.
لقد كانت (كاثي) توأماً لأخت أخرى، فتخيلتها ناحلة
الجسد، قصيرة في مثل طولي، ولكنني حين واعدتها للإلتقاء
أمام سينما أرامكو في الظهران، رأيتُ تمثالاً ضخماً لفتاة
تشبه المصارعين، وتذكرت المتنبي حين قال وكأنما يصفها:
ربحلّة، أسمر مقبلها سبحلّة أبيض مجردها (وربحلّة وسبحلّة
هي الجسيمة الطويلة العظيمة).
ضحكنا لهول المفاجأة، فهي الأخرى كانت تتخيّلني شاباً
عملاقاً تضع رأسها على صدره، وأدركت حينها سر تهرّب زميلي
منها، ومع ذلك استمرت العلاقة الهاتفية.
وفي اللقاء الثاني طلبت مني مرافقتها للمشي في فناء
يقع خلف مبنى السينما، وحين جلسنا على كرسي خشبي قديم،
أحنت وجهها إليّ لتقبلني، ولكنني لمحت عدداً من عمال الصيانة
السعوديين يقتربون من مكاننا فابتعدتُ عن شفتيها. خسرت
حلم حرارة أول قبلة في حياتي، وحين وصل العمال الى موقعنا
عرفت اثنين منهم كانا من جماعتنا. تلعثمت وسلمت عليهما،
وسألني أحدهم بخبث: انتبه لدراستك، ولا تغرك هذي (الشمروخة)
التي ما تركت شاباً إلا تعلّقت به!
لم أستطع النظر اليهما، وغادرت المكان دون أن أودّع
(كاثي) وقررت أن أقطع العلاقة بها.
وفي فصل الصيف لم أغادر مع الطلاب الى قريتي، وإنما
عملتُ في (سنترال) الكلية، وهنا تكسرت حواجز الخجل، وهطلت
أمطار المهاتفات مع بدء تشغيل شبكة الهاتف السعودي، وتنقلت
المشاعر من مدينة الى أخرى، واستقرت على حب خرافي محروم،
أشعل القلب بالشعر، ودوّن حروف العشق والسهر، وأدمن أغاني
(فيروز) وطال تأثيره قدرات التحصيل الدراسي، وعشتُ في
أول تجربة حب حقيقية مع (نهاد) تجاوزت حاجات الرغبات الجسدية،
الى مسارح الروح والتصوف ولذّة الألم والدموع.
طوانا الزمن في رحلته الطويلة، واحتفظنا منه بالذكريات
الدفينة التي لا تكفّ عن الحركة كلما عبرنا الأبواب القديمة،
وشممنا روائح الأحباب أو فاجأتنا الوجوه القديمة، ولكن
ما الذي جاء بـ (حسن السنان) الى هنا، وقد اعتقل في عام
1969م، وأمضى مع آخرين عدة سنوات في سجن جدة؟ وأذكر الآن
منهم عبد الرزاق البريكي، ومعيد مادة الكيمياء محمد سعيد
البريكي الذي كان يتهيّأ للسفر الى أمريكا لتحضير الماجستير
والدكتوراة. كان محمد سعيد مثقفاً ساخراً، لا يترك أمراً
دون تحويله الى مادة للسخرية والنكتة، وحين عاد من السجن
الى الكلية بعد عامين من اعتقاله، علّق على تجربة السجن
بالقول: لقد اشفقوا عليّ من وحشة الغربة في امريكا، فساعدوني
في تحضير الماجستير في جدّة!
أما أكثر ما أثار دهشة الطلاب في حملة تلك الإعتقالات
فقد تحلّق حول الدكتور صالح أمبه، عميد الكلية، حيث أنه
في أول محاضرة له ألقاها على الطلاب المستجدين عام 1968م،
قد ركز على ضرورة الإهتمام بالتحصيل الأكاديمي وعدم الخوض
في مسائل السياسة الشائكة، فهل كان دقيقاً فيما ذهب إليه،
أم انه كان ....، حاول إرجاء إمكانية الإعتقال؟
لقد فقدت (كلية البترول) بغياب أمبه أنموذجها الحضاري،
وما لبثت ثقافة الصحراء ومكوناتها القيمية المنغلقة أن
أحكمت حصارها للأنشطة الإجتماعية ولعمل المرأة وللحفلات
الترفيهية والسينما المختلطة، وانغلقت جمعية (نساء الكلية)
على نفسها بعد أن اعتقلت عائشة الفاسي زوجة المدير في
نفس الفترة، ولكن الأبواب المغلقة أدخلت السياسة من الشباك،
فبدأت بوادر التحزب السياسي والديني في الشيوع بين الطلاب
الذين انقسموا الى قسمين: ليبرالي يعبر عن الكثرة، وتيار
وطني قليل العدد، وآخر ديني ذي طبيعة (سنيّة) إذ لم يكن
الشارع الديني الشيعي السياسي آنذاك قد تبلور، حيث يتوزع
الشارع السياسي في مواقع الطائفة الشيعية بين التيارات
البعثية والقومية الأخرى واليسارية.
ومنذ عام 1971م، بدأ فكر الإخوان المسلمين يدبّ على
استحياء في الوسط الطلابي، واعتقد أنه لم يجد صدى كافياً
إزاء غلبة التوجه الليبرالي في صيغته الإجتماعية لا السياسية،
ولم يزاحم (الاخوان) إلا تيار (جماعة التبليغ) الذين استطاعوا
تشكيل قاعدة ملموسة لهم بين الطلاب، حيث بدأت بوادر تطويل
اللحية وتقصير الثوب، واعتزال الحياة الإجتماعية في مرافق
الكلية، وقد صاحب ذاك نشاط دعوي في ندوات مساجد سكن الطلاب
ومن خلال تنظيم الرحلات الى مسجد (النور) بالخبر.
وقد كنتُ بطبيعتي الحوارية صديقاً للجميع، فيجذبني
الليبراليون بتفتحهم على الحياة، و (التبليغيون) بسماتهم
وطيب معشرهم، ويعجبني (الإخوان) باهتمامهم بقضايا الأمة
الإسلامية وخياراتها المستقبلية، إلا أن عنف كتابات سيد
قطب ووصم المجتمعات الإسلامية بالجاهلية جعلني أقرب الى
جماعة التبليغ.
ولكن اهتماماتي الثقافية ولا سيما الإفتتان بتجربة
شعر التفعيلة، ثم تعرفي على الوسط الصحفي والأدبي خارج
الكلية، قد حدا بي الى الإنغماس في شؤون الوطن وبالقضايا
القومية والآفاق التقدمية، تصادياً مع ما تطرحه تلك الكتب
والنخب من أفكار، وكان للأستاذ محمد العلي دور المعلّم
في حسم خياراتي الثقافية والتقدمية، وينطبق عليه قول أحدهم
(المعلمون هم الذي يدرّسون حقائق مختلفة).
وقد ترسّخ طريق القطيعة مع (جماعة التبليغ) جراء تركيزهم
على الزهد في الدنيا وابتعادهم عن التعاطي مع القضايا
الوطنية والقومية وتأثيرهم على بعض الطلاب لترك الدراسة
والإنقطاع الى العبادة والدعوة. وكان الجهاد عندهم هو
ترك الوظيفة والإنتقال معهم من مسجد الى آخر من الثقبة
الى الخفجي.
وللحق فإن هذا المسلك كان ينكره عليهم حتى (الاخوان
المسلمون) أما الوسط الليبرالي فقد تندّر بهذا السلوك
وعمل على محاربته.
مضت سنوات الدراسة في الكلية بعد ذلك بهدوء لم تشعله
المظاهرات ولا أحزان موت عبد الناصر ولا صراع السياسية،
وكان آخر عهد طلابها بالمشاركة في الحركة الجماهيرية ما
اضطلعوا به من إسهام في مظاهرات نكسة حزيران عام 1967م
حيث صوت الطلاب بالأغلبية على مقترح المساهمة في المظاهرات
التي عمّت المنطقة الشرقية، وانضموا لتلك المظاهرة التاريخية
التي ساهمت القوى السياسية في تحريكها انطلاقاً من أرامكوا
بالظهران حتى مبنى القنصلية الأميركية، تعبيراً عن رفض
الموقف الأميركي المنحاز للعدو الإسرائيلي.
وقد اعتقلت المباحث عدداً من الطلاب الناشطين، ومنهم
بعض الطلبة الجزائريين الذين تمّ ترحيلهم الى بلادهم فيما
بعد، ورئيس الرابطة آنذاك (جاسم الأنصاري) الذي أطلق سراحه
بعد مدة.
ومنذ ذلك التاريخ، لم تتحرك المظاهرات أمام مبنى القنصلية
نتيجة للتغيرات الهائلة والسلبية في آن التي صبغت مظاهر
الحياة الإقتصادية والإجتماعية في المملكة كنتيجة لعوائد
الطفرة البترولية التي بدأت منذ عام 1974م، فقضت على الطبقة
العمالية الناشئة، وجرفت بطوفانها الأجيال الجديدة التي
ألفت الحياة الإستهلاكية، وانصرفت الى همومها المعيشية
دون اكتراث بمعنى الإنتماء للوطن وتحدياته الكبيرة، كما
أسهمت الثورة الإيرانية وبروز الحركات الإسلامية في استكمال
المهمة لتغييب الحس القومي من وجدان الجماهير.
بيد أن الطفرة ومنذ منتصف الثمانينات قد آلت الى ركود
واختناقات كنتيجة لفشل خطط التنمية الإقتصادية والبشرية
واستنزاف ثروات البلاد وتفشي ظواهر الفساد المالي والإداري،
وقد ساعد ذلك على تأزيم الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية
للمواطنين كما ساهم الركود الإقتصادي في تقلص حجم الطبقة
الوسطى، وتراكم الأزمات المعيشية في مجالات التعليم والسكن
والعمل، وبروز ظاهرة الفقر وجيوش العاطلين عن العمل، مما
ساعد على تعميق مشاعر الغضب والنقمة لدى شرائح واسعة من
المواطنين.
وفي أبريل من عام 2002م، كان الغضب على موعد مع التضامن
الشعبي مع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية في الأرض المحتلة،
فعمّت المظاهرات مدن صفوى والقطيف، ودعا الشيخ عبد الحميد
المبارك الى التظاهر أمام القنصلية الأميركية في الظهران
بعد صلاة الجمعة. وكانت القنصلية ـ لحسن الحظ أو لسوئه
ـ لا تبعد عن منزلنا أكثر من كيلومتر واحد، لذا كنت وفوزية
في الصف الأول من الجماهير التي زحفت بالآلاف الى موقع
القنصلية للتنديد باسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة.
وكانت المظاهرة شديدة العفوية، فلم ترفع لافتة واحدة،
ولا هتافاً محدداً، ولم تقدم خطاباً الى السفير الأميركي،
بل أنها لم تكن تعرف كيف تبدأ ولا كيف تنتهي. وهذا الشكل
العفوي ناتج لغياب التجربة والتنظيمات السياسية عن العمل
في وسط الجماهير، وقد حرص رجال الأمن على سد الطرق المؤدية
الى بوابة القنصلية ووقفوا في مواقعهم لمدة ساعة، غير
أن الحشود الهائلة القادمة من كل المدن قد استدعت الشرطة
الى قفل الطريق المؤدية الى الظهران، فاكتفى الآلاف فوق
الجسور وتحتها بالوقوف للفرجة على الجماهير المحيطة بحواجز
الأسلاك الممتدة حول القنصلية.
وفي لحظات عاجلة، باغتت الشرطة الجماهير فهجمت عليهم
بالهراوات للتخويف، وبدأت نذر الإشتباك بين الطرفين تفصح
عن قسوتها، لكنني بادرت مع عدد من المتظاهرين للتحدث الى
ضباط الشرطة قائلين لهم: إن هذه مظاهرة سلمية للتضامن
مع إخواننا الفلسطينيين الذين تدوسهم مجنزرات شارون وليست
ضد الحكومة، وأنه يجدر بكم أن تكونوا معنا لا أن تكونوا
علينا. تفهم بعضهم رأينا واعترض البعض بأن لديهم اوامر
شديدة بتفريق المظاهرة، فقلنا لهم دعوا رجال الطوارئ يقفون
في موقعهم، فيما نقوم بتشجيع الجماهير على العودة الى
الخلف، بعيداً عن سور القنصلية.
وبدأنا المهمة الصعبة، فحيناً يأخذنا الحماس فنرفع
اصواتنا بالشعارات مع المتظاهرين، وحيناً نحاول إقناع
الجماهير للتراجع الى الخلف.
ولكنها لم تكن مهمة سلهة، فقد تلقيت الضربات بالعصي
من الجنود باعتباري في مقدمة المتظاهرين، فيما تلقيت (الكفوف)
من بعض الجماهير الذين ظنوني من المباحث!
وبعد ساعتين من أداء الدور المزدوج وجدتني مرهقاً فاحتميت
بجدار تحت الجسر، غير أنني خشيت على (فوزية) من المعركة
التي بدأت، فأسرعت للوصول إليها ولكنها أصرّت على البقاء
وقالت: أخواتنا الفلسطينيات يواجهن المجنزرات بأجسادهن،
وسأحتمل ما يحدث لي، فاتركني.
هجم الجنود على بعض الشباب واقتادوهم الى سيارات الشرطة،
فركضت خلف أحدهم محاولاً تحرير الشاب من قبضته، فاستدعى
زملاءه للقبض عليّ.
اقتادوني الى جيب الشرطة، ولحظتها رأيت عميداً من شرطة
الدمام من أبناء قبيلتي، فاستثرت حميّته لإطلاقي من بين
يدي العسكر، ولكنه تجاهلني بكل برود!
وضعوني في السيارة الى جوار ثلاثة شبان من المتظاهرين
الأقوياء، وحينها أطلّ عليّ (عريف) كان قد حضر حوارنا
مع الضابط فقلت له: أهذا جزاء من ساهم في أن تمضي المظاهرة
بدون احتكاك بينكم وبين الجماهير؟
حدّق في وجهي، ولعلّه تذكرني، فأخرجني من السيارة،
فشكرته ورجوته أن يطلق سراح الشباب، فقال لي: لا عليك،
سوف يطلق سراحهم من مبنى الشرطة، ومضى يتعقّب الآخرين.
كان النهار طويلاً، ولم أتناول أدويتي، فشعرت بالتعب،
ومضيت أبحث عن فوزية فوجدتها مع صديقتها في السيارة، وقلت
لها: أعتقد أننا قد أدينا الواجب، ولنعد الى البيت. وافقت،
ولكنها أخرجت كاميرا الفيديو، وبدأت في تصوير بقايا المظاهرة
الزاحفة نحو الخبر، وكانت فوزية تحمل هذه الكاميرا معها
دائماً، لتصوير أي حدث تراه مهماً، ولكنها لم تكمل تصوير
دقيقة واحدة حتى أحاط بنا رجال المباحث.
قذفونا بأسوأ كلمات السباب، وسحبوا الكاميرا، وطلبوا
مني بطاقة الأحوال ومرافقتهم الى المباحث، غير أن وجود
صديقة (فوزية) معنا أنقذ الموقف حين تحدثت واستعطفت أحد
الضباط، فأخلى سبيلنا، وأبلغني أنهم سيستدعوني لاحقاً.
وبعد أربعة ايام استدعتني مباحث الخبر، واستقبلني ضابط
مهذب. حاورني فيما حدث، وطلب مني التوقيع على تعهد بعدم
المشاركة في أية مظاهرة أخرى، والتعهد بعدم السماح لزوجتي
أو لأولادي بالمشاركة أيضاً!
توقفت مليّاً، وحاولت التملّص من التعهد، ولكن الضابط
اوضح لي أنه يعرف ماضيّ السياسي، وأنه لا بدّ من التوقيع،
أو الدخول الى السجن.
فكّرت في الأمر وسألت نفسي: هل من المصلحة أن أمتنع
عن التوقيع وأدخل السجن برفقة الشيخ الدكتور عبد الحميد
المبارك، والشيخ مهنا الحبيل أم أوقع، واستمر في مشروع
خطابات المطالب الإصلاحية التي كنا نتشاور مع الأصدقاء
في مختلف أرجاء البلاد حولها!
وقعت وأنا مرغم، ومازلت أحمل ذلّ هزيمة التوقيع حتى
اعتقلني النقيب سعيد الزهراني، وقادني الى مبنى المباحث
في سجن الدمام القديم لأقابل المسؤول (أبو محمد) الذي
أسلمني بعد الإستماع الى ما دار بيني وبين الأمير محمد
بن نايف الى المحقق.
قلت للمحقق: لم أعِدْ الأمير بعدم المشاركة في هذا
الإجتماع أو سواه، وإنما وعدته تحديداً بعدم المساهمة
في إعداد أو التوقيع على خطابات مطلبية جماعية لمدة معيّنة،
ومازلتُ ملتزماً بهذا الوعد ـ حتى الآن ـ ولو كنتُ وعدته
بشيء آخر لالتزمت به.
وبعد الإنتهاء من التحقيق عرض (المحقق) عليّ تعهداً
يتضمن من بين أمور أخرى، عدم عودتي لما بدر مني من إثارة
للفتن، وتحريض للمواطنين على الخروج على ولي الأمر، والإلتزام
بعدم كتابة أية بيان أو خطاب يزعزع الوحدة الوطنية أو
يشكك في الأسس التي قامت عليها الدولة.
توقفتُ طويلاً أمام التعهد، وقلّبت أمري ذات اليمين
وذات الشمال، وقلت للمحقق، سأكتب صيغة أخرى أتعهد فيها
بما تعهدتُ به للأمير دون الإشارة الى الماضي أو ما بدر
مني بحسب التعهد، فأنا لم أرتكب خطأ، ولم أسع الى فتنة
أو عصيان لولي الأمر كما زعمتم.
قال لا أملك حق تغيير حرف واحد في هذه الصيغة، ولكنني
تمسكت برأيي بعدم القدرة على التوقيع على هذا التعهد.
حاول إقناعي فلم استجب، وحينها قال بغضب للعسكري: خذه
الى السجن.
أخذني العسكري الى غرفة صغيرة ونظيفة، ومضاءة بأنوار
خافتة، وبها حمام بدون باب أو مروحة تهوية.
جلستُ على الكنبة، وأغلق الحارس الباب وجلس على كرسي
مقابل لي، وأخذ يحملق فيّ طوال الوقت. قلت له هل يمكن
أن تتكلم معي، فرد برأسه بإشارة (لا)!
كانت الساعة الثامنة، وجاءني العشاء (ساندويتش بيض)
وكوب من الشاي. ورغم حاجتي للأكل من أجل الدواء، إلا أنني
كنتُ في دوامة من التفكير المشتت الذي يبدأ ولا يصل الى
قرار وكأن المتنبي قال فيه:
وشرّق حتى ليس للشرق مشرقٌ
وغرّبَ حتى ليس للغرب مغربُ
وضعتُ الساندويتش بجانبي وبدأت أحملق في السقف.
كان الوقت يزحف كئيباً مثقلاً بالهموم، فقررت تقطيعه
بالمشي في الغرفة ما بين السرير العريض والحمام، ولكنه
يتمطى كليل امرئ القيس، فحاولت إشغال نفسي بتذكر بعض القصائد
ولكنني فشلت في التركيز.
هل أوقع وأعود الى حضن زوجتي والبيت والأولاد؟
هذه دولة قمعية في آخر الأمر، ولا يمكن للفرد وحيداً
مقاومتها، فهل أحني قامتي للريح حتى تعبر؟
ولكن ماذا أقول لزوجتي وأبنائي والعشرات الذين جمعت
تواقيعهم على الخطابات، وأنا ممتلئ بالثقة بأن مطالبنا
مشروعة وأنه لن يصب أحد جراءها بأذى؟
كيف تمضي حياتي وأنا كالطائر الحبيس، لا استطيع ممارسة
حقوقي في التعبير عن الواجب الوطني، ولا أملك الحق في
السفر الى الخارج، حتى تمر العاصفة؟
وفي حوالي الثانية عشرة ليلاً، جاء العريف وأخذني الى
المحقق.
أجلسني أمامه وقال: استطعت الحصول على موافقة بحذف
الإعتذار عن النشاط السابق، والتركيز فقط على المستقبل.
أخذت التعهد منه، وطلبت ورقة لصياغته بطريقة ترضي الطرفين.
أعددتُ المسودة وربطت التعهد بفترة زمنية محدودة واستبعدت
القسم.
سألني لماذا حذفت القسم، فأجبته: يكفيني أن أتعرض للجزاء
الصارم منكم، أما الحنث بيمين القسم فإنه سيحمّلني تهمة
(الحنث بالأيمان) وهذا ما لا أستطيعه.
وسألني، لماذا وضعت (لمدة محدودة). فقلت له: ذلك ما
وعدتُ به الأمير محمد، فلا يمكن أن يوقع الإنسان على تعهد
مفتوح الى الأبد!
قال: ومن يحدد معنى (محدودة)؟ فأوضحت له، إن المعنى
الشائع يعني مدة قصيرة، ثلاثة أشهر أو أربعة.
قال لا، ولكن نكتب (حتى أراجع سمو الأمير محمد).
فكرت في الأمر وعلّقت: يعني أروح للسجن بنفسي! ثم تذكرت
المنع من السفر، وقلت له، لا أوقع إلا برفع إسمي من قائمة
الممنوعين من السفر.
أجابني منفعلاً: هذا ليس من حقك لكي تفرضه علينا...
وقّع وبعد ذلك راجع الوزارة للمطالبة بالسماح لك بالسفر!
قلت له: هذا أمر صعب، ولا أستطيع التوقيع على التعهد
بدونه.
قام مغضباً وأمر العسكري بإعادتي الى السجن.
لم أمر بلحظة اختيار صعبة كهذه منذ مدة طويلة، فقد
مكنتني تجارب الحياة في الحزب والسجن والصحافة والبنك
من القدرة على تحليل المشاكل الى مكوناتها الرئيسية واتخاذ
القرار المناسب والحاسم أيضاً مهما كانت قسوته.
ولكني الليلة أمام اختبار جديد، لا يصفه إلا شطران
من بيتين متباعدين من قصيدة البردوني (وردة من سرج خيل
المتنبي) أو عنوان مقارب لذلك كنت أستحضرهما كلما واجهت
موقفاً مرتبكاً شبيهاً عن بعد بهذا الموقف:
من تلظّى دموعه كاد يعمى
أصعب الإختيارات إمّا وإمّا!
وفي الحقيقة ان المباحث قد دفعتني بنجاح الى هذا المأزق،
ذلك أنها حين تعتقل أصحاب الرأي وتزج بهم في السجن بدون
خيارات أخرى، تصبح معركة المعتقل مع السلطة وحسب، أما
حين تطرح أمامه إمكانية الخروج مقيداً، فإن الإنسان لم
يخلق للسجن، ولذا تمارس عليه حواسه ضغوطاً كبيرة للخروج.
وبذلك نقلت المباحث المعركة الى منطقة أخرى، يحتدم فيها
الصراع بين المعتقل وذاته، وقد تزيّن له رغباته وإغواء
مباهج حياته، أن المباحث قد ابقت باب الحرية أمامه مفتوحاً،
فلم يغلقه بعناده؟
وتذكرت ما قلت في قصيدة (البياض):
يا أخا الوجد قلبي قريضٌ
من شآبيب رحمةّ ورماحِ
تستبين الخطى فأعدو إليها
مثقلاً بالحديد والألواحِ
لم تخني بصيرتي غير أنّي
أتشهّى مباهجي وارتياحي
نعم.. فكلما صممت على رفض التعهد (خاتلتني مباهجي وارتياحي)
لدفعي للخروج!
كنتُ منذ خروجي من لقاء الأمير محمد، أتحسّسُ تحت نعومة
القفاز الحريري الذي امسكتني به مخالب حديدية تخترق العظم،
ولكنني رأيت في اسلوب اللقاء الحضاري، ووعده بتنظيم لقاءات
شهرية للمثقفين مع أحد أركان القيادة، باباً سيفضي مع
الوقت الى إعادة الأمور الى ما كانت عليه على الأقل.
كنتُ أتحاور مع الزملاء حول احتمالات الإعتقال، وكان
البعض يرى أن علينا احتمال تبعات نشاطنا الإصلاحي، فالحرية
لا توهب، ولا تهبط من السماء وإنما تصنعها تضحيات الناس.
وكنتُ اتفق مع هذا الرأي، ولكن الكثيرين يستبعدون الإعتقال،
وحصر إمكانية التضييق على دعاة الإصلاح السياسي بالمنع
من السفر، وكانوا ينطلقون في ذلك من تحليلات تبدو منطقية
جداً، وتذهب الى أن الخط الإصلاحي في القيادة يحتاج الى
الدعم الذي تقدمه له خطاباتنا للمضي في الإصلاح، كما أن
السقف الذي سمح لحرية التعبير عن المطالب في الصحف والإنترنت
وشاشات الفضائيات يخدم القيادة، لأنه يفتح مجالاً للحوار
والتنفيس إزاء الإختناقات التي يعيشها المواطنون. ويضيفون
أن هذا المناخ الذي أسماه البعض (ربيع الرياض) أو (ربيع
السعودية) يكاد أن يكون أفضل وسيلة دفاعية حيال الحملات
الإعلامية الغربية الموجهة ضد المملكة.
وحين طرحت على الأصدقاء في ديوانية (المنتدى المدني)
تفاصيل ما دار بيني وبين الأمير محمد بن نايف، فوجئ الكثيرون
وقالوا: إنه (ربيع براغ) إذن! الذي قضت عليه الدبابات
السوفياتية في تشيكوسولوفاكيا في عام 1968م.
وأضحكت المفارقة بعضهم حين قارنوا بين الدبابات وبين
القفازات الحريرية! وسأل أحدهم: ما هو الموقف من هذا الإلتزام،
ومن احتمالات تكراره مع الآخرين؟
وحيث لم أرد نشر الإحباط بينهم فيصابوا بعدواي، قلت:
لندع هذا الأمر كخيار فردي يواجهه كل واحد منا بحسب قناعاته
وظروفه! وكان هذا خطأي الثالث بعد الخطأين المشار إليهما
آنفاً. فلو أننا تحاورنا وخرجنا برؤية مشتركة لسلهت عليّ
الخيار الصعب الذي أواجهه وحيداً في السجن. ولو أن الرأي
قد مال الى رفض التعهد ودفع فاتورته، لحسمت موقفي منذ
البدء، ولكان الصديق ـ الوطني المعروف ـ نجيب الخنيزي،
الذي لم يحضر تلك الليلة معي الآن في سجن عليشة بالرياض!
استأذنني العسكري بالتدخين في الغرفة فوافقت ولكن ضباب
الدخان كاد يخنقني، فقررت عدم فتح علبة الدخان التي اشتريتها
بعد العشاء ووضعتها بجانبي، وقلت لن أدخن حتى تنجلي الأمور.
مضى الليل الذي لا يشبه إلا ذاته، ومضيتُ ساهراً أقلّب
دفتر الذكريات والمواجع، واستعدتُ مرارة تعهدي بعدم المشاركة
في المظاهرات، وتذكرت حزن أبي وتجرّعه هزيمة التعهد بعدم
المطالبة بالتعويض المالي عن أراضينا الزراعية التي تحولت
الى خط الإسفلت السريع.
وأورد هنا بعض تفاصيل موضوع والدي للترفيه عن القارئ
الذي أصابه الملل من هذه الدراما.
حين تم تعيين الأمير محمد بن سعود حاكماً لمنطقة الباحة
في عام 1989م، قام باستئجار منزل جميل يملكه أحد المواطنين
في قرية (الطرفين) بوادي العلي. وتبعد القرية عن المقر
الإداري للإمارة بمدينة الباحة بحوالي عشرة كيلومترات.
ولكن المسافة تتوزع بين الجبال والأودية والمنحنيات الخطرة
في طريق ضيقة وقديمة تصل بين الباحة وقرى وادي العلي وبني
ضبيان، بما لا يستطيع سموه تحمله. فبذل سموه جهوداً مضنية
لإقناع وزارة البلديات والشؤون القروية بشق طريق مزدوج
سريع يصل المنزل المستأجر بالإمارة دون أن يتجاوز الطريق
ذلك القصر بمتر واحد على الأقل (وبالمناسبة فإن هذا الطريق
هو المشروع الوحيد الذي جرى تنفيذه في المنطقة منذ تعيين
سموه أميراً للباحة وحتى اليوم!)، وقد أدى الأمر الى مرور
الطريق عبر الأراضي الزراعية ومنها أملاك والدي التي ورثها
أباً عن جد.
وسعى والدي من أجل هذا لاستخراج صك استحكام يثبت ملكيته
لهذه الأراضي الزراعية بهدف الحصول على التعويض المالي،
وقبل ذلك كان لا بد من حصر الورثة والحصول منهم على تنازل
عن مستحقاتهم في تلك الأراضي.
ولكم أن تتخيلوا عدد الأقرباء الذين يرتبطون بالنسب
الى عائلتنا، والمنتشرين في العديد من القرى. وقد كلفنا
الأمر دفع مبالغ كبيرة لكل هؤلاء الورثة الذين لا نعرف
الكثيرين منهم، لكي يتنازلوا عن حقوقهم مقابل ما دفعناه
لهم من أموال.
وبفضل الجهد الكبير الذي بذله والدي تم إنجاز تلك المهمة،
بعد أن دفعنا الأموال المطلوبة للأقرباء الأبعدين.
ولكن التعويض بقي معلقاً في الوزارة لسنوات طويلة وحتى
اليوم بحجة عدم كفاية المخصصات، واستمرّ والدي يراجع البلدية
بانتظام حتى ملّوا منه.
وفي إحدى زياراتي للباحة، ذهبت للسلام على الأمير،
وكان مدير مكتبه زميلاً تربطني به علاقة صحافية، فأخبرته
بمشكلة والدي مع التعويض المالي في البلدية، واتفقنا على
أن أكتب للأمير خطاباً لبقاً يتمنى عليه مساعدتنا في استكمال
إجراءات صرف التعويض المالي عن أراضينا الزراعية.
كتبتُ الخطاب في الدمام، وأرسلته لمدير مكتب الأمير،
وبعد ثلاثة أيام جاءني الخبر السعيد من والدي مقروناً
بالسباب والشتائم!
ماذا حدث يا أبي.. لقد توسطت لك عند الأمير.
- قال لي: (ليتهم رقدوا، وش سويت يا حبابي) (وهذا مثل
جنوبي يقصد: ليت الأب لم ينم مع زوجته في تلك الليلة التي
حملت بي فيها). لقد استدعتني الشرطة وطلبت مني التوقيع
على تعهد بعدم مراجعة البلدية للمطالبة بحقوقي، لأن المعاملة
قد رفعت للمركز في أبها منذ سنوات طويلة، وما عليّ إلا
الإنتظار وعدم إزعاج السلطات بالمطالبة بحقوقي. وقال لي
أبي، لقد رفضت التوقيع على التعهد، ولكنهم أدخلوني غرفة
التوقيف حتى مللت، فرضخت للأمر الواقع، وخرجت بالهزيمة
لأنك توسطت لي (لا بارك الله فيك، لا أنت ولا وساطتك)
ولو كانت الأرض لأحد الأمراء لاستلم قيمتها مضاعفة خلال
يومين.
خمسة عشر عاماً مضت ومازال والدي ينتظر التعويض المالي،
والأهم من ذلك أنه مازال يستشعر المهانة لأنه أخضع بقوة
من قمع الشرطة والنظام للتنازل عن حقه الطبيعي في المطالبة
باستلام قيمة أراضيه التي استولت عليها الدولة، وتذكرت
والدي في هذه الليلة جيداً، وتخيّلته يوصيني بعدم التنازل
عن حقوقي!
كنتُ اتوقع الإعتقال بعد لقائي بالأمير محمد، لا كنتيجة
لإخلالي بالإلتزام المشروط الذي وعدته به، ولكن لأنني
قد اتفقت مع بعض الأصدقاء المشاركين في تقديم طلب بالترخيص
لنشاط (اللجنة الأهلية لحقوق الإنسان) لوزارة العمل ومتابعته
لمدة عام كامل، بأننا سوف نسافر الى (جنيف) تلبية لدعوة
تلقيناها من لقاء عالمي لجمعيات حقوق الإنسان، ومن ثم
يتمّ إشهار اللجنة في ذلك المنتدى.
كنتُ أعرف أن هذا الإعلان قد يستدعي الإعتقال، ولذا
رأيتُ أنه من الأفضل لي أن استفيد من فرصة (ترشيد الموظفين)
بتشجيعهم على التقاعد المبكر، التي كان يقدمها البنك الأهلي
لبعض موظفيه القدامى، تخلّصاً منهم فحصلت على ذلك وحررت
نفسي مبكراً من تعب الوظيفة، لم تعد تشغلني الآن في سجن
الدمام.
كان الوقت قد قارب طلوع الفجر وكنت أقول لنفسي ما قاله
عبد الكريم كاصد: ما الشجاعة إن أسلمتنا الى الضعف، وما
الأمانة إذا اسلمتنا للوعود؟ وحينها اتخذت قراري بعدم
التوقيع على التعهد مهما كانت صيغته وليكن ما يكون!
تخفّفت من صراع الذات مع نفسها، وتهيّأت لاحتمال التبعات
فالظرف ملائم والريح مواتية، وقد نلت من دنياي الكثير،
عشقاً وحباً ووظيفة وشعراً وانتماءً ولم يبق إلا القليل،
فعلى بركة الله سأنام قرير العين.
نزعت ثيابي، ومن عادتي حين أنزعها في بيتي ألا أخرج
منه إلا صباح الغد مهما كانت الظروف. وهنا سأنزعها وقد
قررت عدم توقيع التعهد.
نمت وكأنما أزحت عن صدري كل اثقال الدنيا، ولكن العسكري
لم يمنحني متعة الإستغراق في النوم، لأنه كان سجيناً معي
في نفس الغرفة، وكان يطرق باب الحديد كل نصف ساعة ليطلب
من العسكري المناوب خارج الغرفة أمراً ما، وهكذا مضى الليل
الأول بدون نوم.
وفي حوالي العاشرة من صباح اليوم التالي الأربعاء 17/3/2004
استدعاني المحقق، فلبست ملابسي ووضعت العقال على الشماغ،
ومضيت مع العسكري الى مكتب التحقيق، وكانت ملامح الإرتياح
والرضى بادية على وجهي، قال المحقق: أراك مرتاحاً، فلعلك
نمت بشكل طيب.
فعلقت على كلماته بالموافقة رغم أن العسكري لم يمكنني
من ذلك. ابتسم قليلاً، وأدركتُ أنه ربما أوصى العسكري
بإقلاق منامي لكي يدفعني للتضايق من السجن والتوقيع على
التعهد. فتح دفتر التحقيق وقال: إنني أعرض عليك من موقع
التقدير وللمرة الأخيرة، أن توقع على التعهد بصيغته المعدّلة.
قلت له: اكتب هذا الكلام في الدفتر، فدوّنه وقدمه إلي.
وكتبت: إنني لا أستطيع التخلي عن حقي في التعبير عن
الرأي والمطالبة بالإصلاح السياسي، وهو حق كفلته لي الشريعة
الإسلامية، والنظام السياسي للحكم، ومواثيق حقوق الإنسان
التي وقعتها المملكة.
تمعّن في ما كتبته بغضب وقال: لقد اخترت البقاء في
السجن إذن؟
فأجبته: لستُ عاشقاً للسجون، ولا باحثاً عن البطولات،
ولكنني لا أستطيع توقيع هذا التعهد الذي يسلبني حريتي
وكرامتي وإنسانيتي. أما إذا قبلتم ما وعدت به الأمير محمد
شفوياً من تعهد محدد بفترة زمنية فإنني ألتزم بذلك دون
التوقيع على هذا التعهد.
قال: لقد جفّت الأقلام وطويت الصحف، وأقفل الدفتر ودعا
العسكري لإعادتي الى السجن. وعندما كنت أغادر باب مكتبه
سمعته يقول: (لسوف تلوم نفسك كثيراً، ولسوف تعود إليّ
ضارعاً لكي أوافق لك على التوقيع على التعهد).
كنتُ في منتصف الصالة المكتظة برجال المباحث، ولم يكن
أمامي من سبيل للرد سوى التشبّث بحقّي في إبداء الرأي
والمطالبة بالإصلاح السياسي، ومن ثم دفع ضريبته.
عدتُ الى كآبة الغرفة واطئة السقف، فوجدت بعض الصحف
على الكنبة، وحين هممتُ بتصفحها جاء العريف وأخذها من
أمامي قائلاً: الصحف ممنوعة عليك بأمر المحقق، فرضيت بالأمر،
ودخلت في دوامة الصمت والتأمل مغموراً بالكثير من الرضى
والمرارة أيضاً.
جاءني مدير السجن لتفقد أحوالي، وقد أدار معي حواراً
غير مباشر، حاول من خلاله إقناعي بضرورة إطاعة ولي الأمر
في السراء والضراء، حفظاً لكيان الأمة وأمنها الإجتماعي.
وقد عرضتُ عليه تفاصيل ما ورد في خطاباتنا المطلبية،
وأوضحت له أن تحقيقها كفيل بضمان حقوق الأمة ورضاها عن
الحاكم، والتفافها حول القيادة. وبيّنتُ له أننا قمنا
بعمل ثقافي وأمني لم تستطع تحقيقه كل الأجهزة الأمنية
حيث دعونا الى التمسك بثوابت الوحدة الوحدة الوطنية والإلتفاف
حول القيادة في ضوء مشروع الإصلاح، ولم ندع الى الخروج
على الدولة، أو نسعَ في إثارة الفتنة كما يدّعي التحقيق.
وحين لاحظ ألاّ فائدة من الحديث معي، طلب منّي جوالي المقفول
منذ أمس، ومضى.
وفي المساء جاءني عريف وطلب مني مفتاح سيارتي وكتابة
خطاب يفوضهم بتسليم السيارة الى ابني عادل. سررت لذلك،
فهذا تعامل نظامي وحضاري، وكان مصدر سعادتي يعود الى اطمئناني
على أن المباحث قد أبلغت عائلتي بوجودي لديهم!
وفي مساء الخميس استدعاني أبو محمد مدير المباحث في
سجن الدمام، ودار بيننا حوار طويل توّجه بتشجيعي على توقيع
التعهد، وأبلغني بأن زملائي الذين اعتقلوا معي قد عادوا
الى بيوتهم، أما موضوع السفر فيمكن معالجته مع الجهات
المختصة.
لم أكن أعرف أن هناك معتقلين في الدمام غيري، ولكن
إغراء الخروج دغدغ مشاعري من جديد بعد أن استثارها وجه
(ابو محمد) بابتسامته الدافئة، فبدت لي مخايل الحرية خارج
غرفة السقف الواطئ وكآبتها القاتلة. قلت له: يا أبا محمد،
والله أن الحرية مغرية، وأنني أعمل وغيري لاستكمال شروطها
الحقوقية والقانونية، وأن الخروج من السجن أشد إغراءً،
لكنني أود أن يعرف المسؤولون أن أوضاع بلادنا خطيرة، وأن
المخلصين للوطن وللقيادة، هم الذين بادروا الى وضع أصابعهم
على مكامن الإشكاليات والمشاركة بالرأي في حلها. وأنهم
لم يقفوا صامتين أو متفرجين وأن الدولة إذا لم تفتح باب
الأمل وتسمح على الأقل بالحديث العلني عن مطالب الإصلاح
السياسي واستحقاقاته، فإن الأفق المسدود لن يحل المشكلة،
وأنني قد اخترت السجن لا تحدياً للقيادة، ولكن حرصاً على
إيصال الرسالة بوضوح، بأنني أعتبر السجن أهون من الصمت
إزاء المركب الذي يهدده الإرهاب والتحديات الخارجية، والإختناقات
المعيشية للمواطنين.
إننا مهددون جميعاً بالغرق، وأتمنى أن يكون اختياري
للسجن بديلاً عن الصمت، علامة صادقة على أن المطالبة بالإصلاح
السياسي ليست ترفاً ثقافياً، ولا تمريناً على الكتابة،
ولا حباً في الظهور، وإنما هو واجب يحمله ضمير المثقف
الوطني، ويعلن من خلاله عن خطورة الأوضاع، وأن السجن أرحم
من التعهد وتكميم الأفواه.
إنني أخشى يا (أبا محمد) إن أنا قبلت بهذا التعهد أن
أذهب الى أحد الخيارات التالية: إما تأييد الإرهاب، وهذا
ما ترفضه كل قناعاتي، أو الإصابة بالإحباط والجنون، أو
أن أذهب الى خيار الإنتحار.
تبسّم (ابو محمد) وحاورني في كل ما تطرقت اليه، وحين
رأيته يحاصرني، قلت له: سأروي لك حلما حلمته ليلة البارحة:
رأيتني جالساً في إحدى قاعات جامعة الملك فهد للبترول
والمعادن، ووجدتي حول عدداً من خريجي المرحلة الثانوية
الحاصلية على درجات عالية ولم تستوعبهم مقاعد الدراسة
في الجامعة. وطلبوا مني مساعدتهم في كتابة خطاب الى سمو
ولي العهد الأمير عبد الله للشكوى من هذا الأمر، كما أصرّوا
على أن أوقع معهم على الخطاب. وفي خضم كتابة الخطاب، صحوت
مفجوعاً وأنا أردد (لم أتعهد بعدم كتابة أي خطاب الى القيادة؟).
يا أبا محمد، إن أنا خرجت من هنا بعد كتابة التعهد،
فإن الأوضاع والأزمات ستجبرني على الحديث في موضوع الإصلاح
السياسي، وستجبرني على المطالبة بإطلاق سراح سجناء الرأي،
وسوف يلقي النقيب سعيد الزهراني (وربعه) القبض عليّ ثانية،
فأسجل على نفسي الحنث بالقسم وخرق التعهدات.
ضحك أبو محمد وقلت له: إذاً دعوني عندكم، فذلك أسهل
لي ولكم. قال لي: فكر في الأمر، لأنني حريص على معالجته
هنا في (المباحث) قبل تحويله للإدعاء العام، لأن ذلك سيعقد
القضية!
وأجبته: لقد لبست (لامة) الحرب، وعلامتها عندي تبدأ
من نزع الثوب والعقال، ومقاومة رهبة الليلة الأولى في
السجن، وقد فعلت ذلك منذ ليلتين.
ابتسم على ألم، وسألني عن رغبتي في مشاهدة التلفاز
في غرفتي، فأجبته، بأنني أخشى أن اعتاد على مشاهدته، وأخاف
أن تحرموني منه لاحقاً فأصاب بالإحباط، ولكنني أطلب السماح
لي بقراءة الصحف.
وقف مودّعاً وأمر العسكري بتوفيرها لي ابتداء من صباح
الغد.
عدت الى موقعي وأنا أكثر ارتياحاً، غير أنني تأسفت
لعدم استفساري عن أسماء الزملاء الذين خرجوا من سجن المباحث
في الدمام، وخالجني ألم حاد بمخافة أن يفسر ـ بعضهم ـ
موقفي على أنه (مزايدة) على مواقفهم، ولكنني ارتحت قليلاً،
حين تذكرت ما قلته للأصدقاء في ديوانية (المنتدى المدني)
من أن الموقف من التعهد متروك لكل شخص بحسب ظروفه وحساباته،
ثم تأملت جدران الغرفة وانخرطت في ممارسة تماريني الرياضية
الليلية بالمشي بين السرير وباب الحمام.
يقول (رامبو) (ان الذاكرة هي الاخر) ـ بمعنى، الآخر
العدو ـ. ويقول مظفر النواب: (أن الواحد منا يحمل في الداخل
ضدّه)، وهذا ما وجدته معبأً في أدراج ذاكرتي المثقلة بآثار
الخوف من المباحث والرعب من المحقق.
وبالرغم من عدالة القضية التي أدافع عنها، ومن امتلاكي
كافة الحقائق التي تسندها، وبالرغم من القدرة على الرد
بوضوح وشجاعة على أسئلة المحقق ومقاومة ما ينطوي عليه
من خبث ومناورة، إلا أنني كنت (مضبوعاً) كمن سمّمه الضبع
بسطوة المحقق. ولذا التزمت طريق الدفاع والتبرير والإستناد
الى حقوق المواطنة التي تكفل لي حق التعبير السلمي عن
الرأي.
كنتُ مهذباً أكثر مما ينبغي، وكنتُ ألوم نفسي حين أعود
من التحقيق الى الغرفة، ولكنها (ذاكرة) السجن الأول، ما
برحت تطاردني وتحدّ من اندفاعي في التعبير عن الحقائق
وتسمية الأشياء بمسمياتها. لقد بقيت في حدود النص، نص
الخطابات المجاملة او الخائفة من استثارة الأجهزة الأمنية،
لأنها كُتبت في ظروف معينة تخشى معها اللغة من الذهاب
الى المعتقل. ولكنني الآن في المعتقل.. وعليّ أن أكون
أكثر صرامة ووضوحاً، ولأبدأ بغسل الذاكرة من (أبو ناصر)
و(أبو منصور).
إن القضية في تفاصيلها المطلبية تتقاطع مع برنامج الحزب،
لأن الأزمات المزمنة واحدة، ولكن أسلوب العمل العلني والسلمي
مختلف جداً! وما لم أتجاوز هلع التحقيق بمعاييره وأزمنته
القديمة، وأغسل ذاكرتي من (الوشم) الذي علِقَ بها في ذلك
الزمن البعيد، فسأظل قاصراً عن التعبير عن اللحظة الراهنة
واشتراطاتها المغايرة.
ورأيتُ أن عليّ التخلص نهائياً مما دوّنه (عبدالرحمن
مجيد الربيعي) في روايته (الوشم) عن الذاكرة الشقية التي
حمل أثقالها أحد السياسيين المعتقلين جراء ما تعرض له
من تعذيب اضطره للإعتراف على رفاقه. وأنا وإن كنتُ لا
أحمل وزر الإعتراف على أحد، لكوني عضواً قاعدياً، إلا
أن ذاكرتي مازلت موشومة بآثار معاناتي مع المحقق وأدواته
القمعية، ولذا سأتحرر من كل ذلك باستعادة نص شعري قلته
بعد ان هبطت من الدور الرابع الى زنزانة سجن وزارة الداخلية
في الدور الأرضي في عام 1982م، كما سأزيح غلالة التورية
عنه، لأتخلص منها والى الأبد!
أهبط من هلع (التحقيق) الى قاع الزنزانة
أتلمّس قلبي
هل لازال مكانه!
(وقد ورد النص في ديوان ((رياح المواقع)) بوضع كلمة
التدقيق مكان التحقيق، و((الجبانة)) في موضع ((الزنزانة))!!
ولكن شاكر الشيخ أحالها الى اغنية في جلسات الأصدقاء وقام
بتحريرها من تلك التورية البائسة).
وقد ختمت القصيدة بما يلي:
الآن أرى
الآن أرى
أبصر عادل مبتسماً تحضنه نجلاء
يا للأيام القادمة الخضراء
اسْكن قلبي للنوم
صباح العاشر من عاشوراء
(وهذا النص يؤكد على أنني كنتُ معتقلاً في تلك المناسبة
ـ العاشر من محرم ـ لأنه تم اعتقالي في أواخر ذي الحجة
1402هـ، وليس في 16/3/1403هـ كما ذهب الى ذلك الإدعاء
العام).
والآن.. أصبح عادل في الثالثة والعشرين من عمره طالباً
في المراحل النهائية في جامعة البترول، وقد سبقته نجلاء
بالتخرج والزواج والإنجاب، فأنا الآن جد ولي حفيدة وحفيد،
وربما شابه في عمره الآن، عمر عادل عندما اعتقلت لأول
مرة، كما أنني لم ارَ نجلاء إلا بعد مضي ثمانية أشهر على
وجود بالسجن حين ضممتها وطفليها صباح عيد الفطر، ولكنني
وطّنت نفسي منذ زمن بعيد على احترام خيارات أبنائي وقناعتهم،
وهذا هو المستقبل الذي رأيته في الأيام الخضراء!
أنهيتُ تماريني الرياضية، ووقفت أمام السرير العريض
الذي يفصله حاجز خشبي عن مكان الجلوس، واستعدت ما قاله
أحدهم (السرير بلا امرأة ربابة مقطوعة الأوتار). وكنتُ
أتحاشى النوم عليه مخافة الذكريات. فالجسد آلة عجيبة،
أما القلب فكان مسكوناً باحتمالات السجن الطويل، ولذا
عدتُ الى فراشي الملقى على الأرض بجاور الكنبة، وأسلمت
قلبي للنوم صباح الجمعة 18 مارس 2004م.
وحين صحوتُ كنتُ استشعر ارتياحاً كبيراً، فقد مضت عليّ
ثلاث ليال استطعت خلالها التكيف مع النوم، حيث أضع راسي
على المخدة في الثانية عشرة، وأبدا العد من واحد الى ما
شاء الله، وكنتُ اتذكر ابني خالد كلما بدأتُ بالعد، لأنه
جاءني متأخراً عن النوم ذات ليلة من ليالي امتحاناته حين
كان في الصف الرابع الإبتدائي، وشكى لي عدم قدرته على
النوم، فقلت له: فلتنس الإختبار، ولتركز على موضوع آخر،
واقترحت عليه أن يتذكر أسماء أصدقائه ومعارفه في المدرسة
والحارة حتى يأتيه النوم. ولكنه فاجأني في الصباح وعيناه
محمرتان من قلة النوم، فسألته لماذا لم تتبع خطتي لكي
يأتيك النوم، فقال: لقد تذكرت اسماء اصدقائي ونسيت اسم
أحدهم، فبقيت صاح أحاول تذكر اسمه، وما استطعت النوم (وش
هالأفكار يا بابا)، والله إنني لا أستطيع الذهاب الى الإمتحان
قبل معرفة اسم صديقي، ولم يخرجنا من هذه الورطة إلا أخوه
عادل الذي ساعده على تذكّر الأسم!
والآن أنام خارج جحيم الأسماء ولا يبقى إلا وجه (فوزية)
في خلفية الصورة، أوزّع عليه الأرقام حتى يأخذني ملك النوم
الى جنته في حوالي الثانية صباحاً.
(يا الله صباح خير) كانت الصحف أمامي محملة بأنباء
اعتقال وزارة الداخلية لعدد من المتورطين في الإساءة الى
الوحدة الوطنية وإثارة الفتنة والتشكيك في نظام الدولة
القائم على الشريعة الإسلامية!.
كل هذه التهم.... (حتة وحدة)!! على قول إخواننا المصريين.
وفي الحقيقة لم تكن أسئلة المحقق مثيرة بهذا الشكل،
ولربما كانت طبيعتها التساؤلية قد أخفت وضوح التهم المعلنة
والتي تستدعي توقيع أقسى العقوبات بمرتكبيها، وما دامت
تهمي خطيرة الى هذا الحد، فلماذا إذن يضيع المحقق وجهاز
المباحث وقتهم معي لإقناعي بالعودة الى دفء العائلة بمجرد
التوقيع على تعهد لا يشغل أكثر من نصف صفحة صغيرة؟
استطعت أن أتعرف على الأسماء الموقوفة بنفس التهم ومعظمهم
ممن انهمكوا في الحراك الإجتماعي المطلبي خلال العامين
الماضيين، ولكن بعض الأسماء لم تكن بنفس الدرجة من الإنشغال
بهذا الأمر، غير أن أكثر الأسماء لفتاً للإنتباه! هو اسم
(خالد الحميد)! فلم أكن أعرف هذا الأسم، فبرغم مشاركتي
في معظم البيانات والخطابات إلا أنني لا اتذكر وجوده في
أي قائمة من قوائم الموقعين، فمن يكون هذا الناشط الذي
انضمّ اخيراً لدعاة الإصلاح السياسي؟
تأملت الأسماء التي أعرفها جيداً وتملكتني فرحة مضيئة
ولم أتمالك نفسي من البكاء الذي لا يلمّ بالمرء في لحظات
كهذه إلا نادراً، وحمدتُ الله على انني اخترت الموقف الصائب.
مرّ النهار رهيباً، ولم أعد اشعر بكآبة السقف الواطئ
للغرفة الموصدة المنافذ، وأصبحت اشعر بأنني أتنفس هواء
الحرية بعذوبة الإنتشاء الذي يخطف الروح في ساعات الظهيرة.
لقد قلت للمحقق في صباح اليوم التالي: أشكرك لأنك حررتني
من القيد الذي كبلني به (لطف) الأمير محمد، ومن الإلتزام
الثقيل الذي لم يكن لي مفر من إعلانه، فأنا شاعر اتعامل
مع الكلمات، ويأسرني التعامل الإنساني ولذا أتنازل كثيراً
عن حقوقي لمن يعرف كيفية استخدام الكلمات واللمسات الإنسانية.
ولا أعرف لحظة عبرت فيها عن قناعاتي وموقفي إلا عندما
تجرحني كلمات الطرف الآخر، أو تشعرني بالمهانة، ولعل من
حسن حظي أن تمّ اعتقالي بتلك الطريقة القمعية المهينة،
وأن يكون التعهد قاسياً ومذلاٌّ بمثل ما ورد في عباراته
من إدانة لكي أستطيع التعبير عن الموقف الذي ينبغي اتخاذه.
كنتُ اراهن في حواري مع المحقق و (أبو محمد) على أمرين:
أولهما إقناعهما بالتزامي بالتعهد الشفهي الذي قطعته على
نفسي أمام الأمير، وبثقتي في أن تفاصيل ما اتفقت عليه
مع الأمير من بدائل كفيلة بقبول المباحث بذلك، ولو بعد
شهر من السجن. أما الثاني: فهو منح الفرصة لتسرب خبر اعتقالي
وأسبابه لوسائل الإعلام وهو ما سيكون تعويضاً ومبرراً
لما سوف اضطرّ للتوقيع عليه بعد ذلك من تعهدات. وكنتُ
أتحسس المهانة في التوقيع المبكر على التعهد دون أن يعرف
المواطنون بما حدث، وذهبت الى تشبيه ذلك بعملية (اغتصاب)
في الظلام ولذا اخترت طريق الحرية بالبقاء في السجن!
أما الآن، وقد أعلنت وزارة الداخلية خبر اعتقالنا على
خلفية البيانات والخطابات المطلبية، فإن ذلك بحد ذاته
يعتبر تطوراً جديداً ومكتسباً حقوقياً مبهجاً. وبالرغم
من كل التهم التي وردت في الإعلان إلا أنني لمست تهافتها
جملة وتفصيلاً، لأن الخطابات المطلبية المنشورة في وسائل
الإعلام كفيلة بدحض كل تلك الإفتراءات والقراءات المتعسفة.
ورأيتُ لحظتها وبيقين صلب، أن الأجهزة الأمنية قد أسهمت
باعتقالنا في تثبيت مشروعية ومصداقية مطالبنا ونشرها على
نطاق واسع بين الجماهير، وفي وسائل الإعلام الخارجية،
وأنها أخرجتنا بذلك من مأزق وصول الخطابات الى الطريق
المكرور والمسدود معاً. ولعلّ اعتقالنا أيضاً قد عمل على
تسجيل الرد العملي على الكثيرين ممن يسخرون من هذه الخطابات
الإستجدائية أو من المشككين في أن السلطة تقف خلفها، كما
برهن الإعتقال على أننا تنكّبنا درباً وعراً كان يحتاج
الى الشجاعة والبصيرة في آن واحد.
كانت الصحف كافية لتبديد الوقت، وكنتُ منتشياً بأخبارنا،
وقارنتُ بين ما يحدث اليوم من اضطرار الحكومة الى إعلان
نبأ اعتقال (دعاة الإصلاح السياسي) بينما كانت تضطر وزير
إعلامها الدكتور الفاضل محمد عبده يماني لتكذيب أنباء
الإعتقالات السياسية التي طالت أعضاء الحزب الشيوعي في
السعودية وحزب العمل العربي الإشتراكي في الجزيرة العربية
من الرجال والشباب والنساء في عام 1982م، بل وإصرارها
على التعتيم على وجود الأحزاب السرية في المملكة وطلبها
من المعتقلين صبيحة الإفراج عنهم بالتعهد بعدم التحدث
عن قضيتهم مع أي شخص.
اليوم الجمعة، ولكن أنظمة السجن لا تسمح للمعزولين
بإقامة شعائر صلاة الجمعة مع غيرهم من السجناء الذين تصلني
أصواتهم وجلبتهم العالية في الصباح وقت (التشميس) فصلّيتها
ظهراً بينما عوّضني إمام المسجد المجاور عن غياب الخطيب
في السجن.
كان صوتاً مجلجلاً وبليغاً وقادراً على التأثير على
سامعيه وعلى قناعاتهم ومشاعرهم في هذا المكان الروحاني
الخالص، وكان يتنقل من قضايا فساد أخلاق المجتمع وانصرافهم
عن شرع الله ـ بالرغم من المئات الحاضرين ـ الى حديث يشبه
طلقات المدافع عن قضايا الأمة الإسلامية، رافعاً صوته
بالبكاء تارة وبالدعاء للمجاهدين في أفغانستان والشيشان،
وتارة بالدعاء على أعداء الأمة من الكفرة والصليبيين،
ولكنه لم يتعرض ببنت شفة للإرهاب والإرهابيين في بلادنا،
الذين استحلّوا دماء الأبرياء من مواطنين ومقيمين.
وتأملت ما يحمله هذا الخطاب الديني المتشدد من درجات
تكفير المجتمع، ومن استعداء للآخر، مستفيداً من ميكروفونات
هذا المكان الطاهر، للتأثير على المصلين والسامعين عن
بعد.
واستعدت ما تقوم به بعض السلطات العربية من إجراءات
لتقييد حرية الخطباء في المساجد، ولأول مرة أجدني مقتنعاً
بأن هالة القدسية التي يستمدها الخطيب من موقعه كإمام
وخطيب وداعية، تحمل في طياتها مخاطر شديدة حين تتجاوز
حدود الوعظ والإرشاد الى الشؤون العامة، فيغدو خطابه مسيّجاً
بالمهابة والتصديق، ويصبح وقعه على المصلين بالغ السيطرة
والتأثير في تشكيل الرأي والقناعات. فالمصلي في يوم الجمعة
يجلس أمام الخطيب متلبّساً بحالة من الخشوع والجو الروحاني
الذي يسلمه لتصديق تحليلات الإمام في الإجتماع والسياسة
والوضع المحلي والدولي، فيتم تتويج الإمام مرجعهاً معرفياً
شاملاً يعبئ الأتباع بالقناعات الحاسمة، ويصوغ أفكار الآخرين
وآرائهم وفق اجتهاداته ودوافعه. أما الذين يمتلكون المعرفة
في تلك الحقول ويتمتعون برؤية نقدية حيال ما يسمعونه،
فإنهم لا يتمتعون بالحق نفسه في التعليق أو التعقيب أو
الحوار مع قداسة كلمات الخطيب.
وبالرغم من أن الأجهزة الأمنية في بلادنا وفي البلدان
العربية تصادر بقوة القمع السلطوية حق الخطيب في نقد أداء
الحكومة وتعتدي بذلك على حقوق المواطنة وحقوق الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والإحتساب السياسي على السلطة، إلا أنني
وجدتني في ذلك اليوم أتفق ـ جزئياً ـ مع تلك الأجهزة في
تقنين خطاب الوعظ الديني في المساجد، لكنني من الجهة الأخرى
ألتزم بمساندة حقوق الخطباء في التعبير عن آرائهم السلمية
وبحرية كاملة خارج قداسة منبر المسجد، وفي مساحة تتوفر
فيها الفرص المتكافئة للآخرين لمحاورتهم ونقض منطلقاتهم
أو تأييدها، ترسيخاً لتقاليد حوار الرأي بالرأي والحجة
بالحجة، وبعيداً عن اللجوء الى أدوات العنف الرمزي المعبّأة
بثقافة الإقصاء والغلو والتبديع والتكفير.
هدأت مدفعية أصوات الإمام وصلى بالناس بخشوع، وجاءني
الغداء ساخناً في حينه، ولأنني لم أتناول فطوري، فقد أسرفت
في أكل (الكبسة) حتى داعبت رغبات النوم عينيّ، ولكنني
قد تعلمت من تجربة اعتقالي السابقة عدم الإستسلام لإغواء
غفوة النوم بعد (كبسة) الغداء، لأنها أسلمتني لعذاب السهر
والتقلب طيلة الليل في الفراش، وهي معاناة لا يوازيها
إلا عناء مقاومة عنف ضابط التحقيق، المتخصص في إلحاق الأذى
النفسي والجسدي بالمعتقل.
|