(3- 3)
زمـن الـسـجـن.. أزمـنـة لـلـحـريـة
علي الدميني
اتكأتُ على الكنبة وأعدتُ قراءة أسماء المعتقلين للمرة
العاشرة: من جدّة: محمد سعيد طيب، ومن الرياض: د. توفيق
القصير، الشيخ سليمان الرشودي، ود. خالد العجيمي، ود.
حمد الكنهل، ود. عبدالله الحامد، ود. متروك الفالح، وعبد
الرحمن اللاحم. ومن الدمام: نجيب الخنيزي، أمير بوخمسين،
د. عدنان الشخص، علي الدميني. أما خالد الحميد فقد عرفتُ
لاحقاً في الرياض أنه ضابط التحقيق مع المتهمين، فلماذا
حُشر إسمه إذن؟
أحسستُ بدفء الجماعة، رغم عدم رؤيتي لزملائي في الدمام،
أو سماع أصواتهم، وفرحت لوجود العدد الكبير من المعتقلين
من مختلف المناطق والمرجعيات الثقافية، من التيار الديني
المستنير ومن اللبراليين، وتشبّثتُ بقناعتي حينها، بالمضي
في الإصرار على عدم التوقيع على التعهد.
في يوم السبت 19/3/2004 استلمت في صباحه أول رسالة
من عائلتي حيث حمل إليّ العريف صندوقاً خشبياً صغيراً
طالما رأيته نائماً بهدوء في دولاب التلفاز في صالة العائلة،
وكانت فوزية تضع فيه بعض أوراقها الخاصة، وقصاصات بيضاء
وأقلام متنوعة وتضعه بجانب الهاتف الثابت في صالة العائلة.
فتحتُ الصندوق فإذا به يحوي كمية كبيرة من الأدوية التي
اعتدت تناولها في الحالات العادية والطارئة: بندول، حبوب
(ستربسل) للحلق، مضاد حيوي (أقمنتين)، قارورة دواء فيتامين،
قطرة للعين وقطرة للأنف، ومعها علبتان من حبوب السكر تكفي
لشهرين، وقال العريف إنه استلمها من (عادل) إبني.
عضّني الحنين الى العائلة، والى احتضان عادل في لحظاته
الحميمة، والى صوت العود والطبل الذي يتشارك في تأليف
الألحان الموقعة عليها، خالد وعادل في كل خميس مع أصدقائهما
في ملحق البيت.
رفّ عزف عادل المتميز على العود وصوت خالد الجميل وهما
يغنيان كلمات خاصة كتبتها أو ألفها عادل، وتذكرت بيت الشعر:
(يجد الحمام، ولو كوجدي لانبرى
شجر الأراك مع الحمام ينوحُ)
قلتُ للعسكري ألا يمكن أن أُسلّم على ابني، فأجاب بأن
الزيارة مازالت ممنوعة عنك.
تأملتُ بحنان كل تلك الأدوية التي لم تنس فوزية شيئاً
منها، وقلتُ للعريف مازحاً: لا أحد يريدني، المباحث تشجعني
على الخروج من السجن، وعائلتي أرسلت لي علاجاً يكفي لشهرين،
والأجهزة الأمنية لا تسمح لي بالسفر الى الخارج فماذا
أفعل؟
ابتسم العريف وقال وقّع على استلام الهدية، ووقعت مغتبطاً،
فقد وصلت رسالة (فوزية). إنها راضية عن قراري، بل وتشجعني،
أو تطلب مني أن أبقى في السجن على الأقل لمدة شهرين، وحينها
لمستُ باليدين تلك الحكمة الذهبية التي عدلتها كالتالي:
(وراء كل خيار عظيم للرجل، امرأة عظيمة).
تأقلمت شهيتي مع الأكل، ولكن الإمساك يضايقني ويضغط
عليّ مثلما يفعل سقف هذه الغرفة الواطئ الذي لا يكفيه
الهدم بل والإبعاد. إنه سقف بلا إنسانية ولا قلب، ولا
يشبه من بعيد أو قريب ذلك السقف الذي يتأمل العائلة وهم
تحته يضحكون، فينزل من سقفه ويجلس معهم لكي يحسّ بإنسانيته،
ويتمتع بدفء العائلة الحميم.. ذلك السقف الذي كتبت قصته
الروائية (نورة الغامدي) في نص بهذا العنوان.
جاءني (المقضّي) بالجرائد، وأسرعتُ الى تسقط أخبار
الأصدقاء المعتقلين، وفاجأني بأسماء من غادروا.. وهنا
أدركتُ لماذا منعت عني الجرائد في الأيام الأولى للتحقيق،
ولماذا سمحوا لي بقراءتها بالرغم من معرفتهم بتأثير أخبارها
الإيجابية على موقفي الرافض لتوقيع التعهد.
الآن عرفت أنهم لعبوا لعبة الإعلام باحتراف!
منعوني من قراءة الصحف في البداية لكيلا أعلم بوجود
الأصدقاء في المعتقل فأرفض التعهد، وسمحوا بها لأنهم يعلمون
أن بعضهم قد وقع على التعهد، وأن ذلك سيؤثر على موقفي!
نعم، لقد قضى هذا الخبر على شيء من بهجتي، وكسر انتصاري
الصغير، وأعادني الى دائرة القلق والإحتمالات، ولكنني
حسمتُ أمري بالبقاء حتى أكمل تناول حبوب (السكر) التي
أرسلتها فوزية لمدة شهرين على الأقل!
وبعد أن قرأتُ خبر إطلاق سراح المحامي عبدالرحمن اللاحم
اعدتُ قراءة الأسماء، ووضعتُ جدول احتمالات خروجهم بحسب
الأسبقية.
ـ الدكتور توفيق القصير، ورغم معرفتي المحدودة به،
إلا أنني وجدته ينطوي على احساس رقيق وشاعري يشبهني، رغم
تمتعه بمواهب ومعارف أخرى لا أملكها. واستذكرتُ لقاء فندق
(الفهد كراون) بالرياض فتوقفت عند تعليقه على مشروع (سداد)
الذي طرحه الدكتور الحامد، وتذكرت قوله: لسنا في عجلة
من أمرنا على التخندق المبكر، وأذكر أني وافقته بقناعة
على ذلك الرأي.
ـ الشيخ سليمان الرشودي، رجل فاضل، قليل الكلام، ولم
ألحظ عليه حماساً لمشروع خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله)
مثلما وجدته عند آخرين، بيد أنه كان متحمساً بشكل مفاجئ
لي عند طرح مشروع (سداد)، ولحظتها لم أكن أعلم أنه قد
قضى حوالي خمسة أعوام في السجن مع الشيخين، سلمان العودة
وسفر الحوالي، وإلا لكنتُ محضته الكثير من التقدير الذي
يستحقه، ولكنتُ عذرته على توقيعه على التعهد، لأن خمسة
أعوام متتالية في السجن ـ وفي غياب حركة جماهيرية سلمية
مساندة ـ كافية لكسر ظهر أشد المناضلين صلابة.
ـ الأستاذ محمد سعيد طيب، وهو المناضل الوطني الصلب
ـ مثل كثير من المناضلين الوطنيين الشرفاء في بلادنا ـ
لم تلن قناته، رغم سنوات السجن التي تجاوز مجموعها ثمان
سنوات، منها خمس سنوات متواصلة، والأستاذ طيب أَلِفَ الاستدعاءات
والتعهدات، مراهناً دائماً على الأمل بأن الزمن كفيل بإبطال
مفعولها، ولذا توقعته ثالثاً.
ـ الدكتور أبو بلال عبد الله الحامد، الوطني الغيور
والباحث الأكاديمي، وهو يعد رائداً لتجديد الخطاب الديني
في بلادنا، ويمتلك منهجاً ورؤية واضحة لمفهوم الدين والسياسية،
والمقاصد الكلية للشريعة، وضرورة الأخذ بآليات بناء الدولة
الإسلامية الحديثة. وقد سجن ثلاث مرات ولمدد قصيرة في
حدود أربعة أشهر لكل مرة. وحين كنا نعد الصيغة النهائية
لخطابة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) تم استدعاء الأستاذ
محمد سعيد طيب الى مقابلة الأمير محمد بن نايف في الرياض،
وخشينا أن يكون موضوع (الخطاب) قد تسرب الى المباحث. فسألني
الدكتور الحامد ونحن ندور في الشوارع: ما رأيك في الموقف
من هذا الإحتمال؟. قلت له بقراءة موازين القوى، أعتقد
أننا في الموقع الأضعف، وإذا ما أصرت المباحث على تجميد
الخطاب فأرى أن نقبل بذلك، على أن نسرّبه للإعلام فيما
بعد، وأنا مستعد لدفع عامين من عمري ثمناً لنشر الخطاب
في وسائل الإعلام. قال بصلابة: أما أنا فلن يثنيني عن
ذلك إلا السجن، وإذا دخلت السجن، وهو كريه، فلكل حادث
حديث.
ـ أما الدكتور متروك الفالح، فإنه لم يجرب السجون،
لكنه ينطوي على صلابة ندر وجودها، وعلى روح تحدٍّ وقتالية
لا تهاب المخاطر، وقد استدعته المباحث عقب نشره مقالته
الشهيرة المعنونة (المستقبل السياسي في السعودية ـ الإصلاح
في وجه الإنهيار، أو التقسيم) في جريدة القدس العربي في
شهر إبريل من عام 2002. وقد رفض الذهاب الى المباحث، وقال
لهم: إذا كنتم لا تسمحون لي بالتعبير عن رأيي كأستاذ للعلوم
السياسية في الجامعة، فإنني مستعد لمغادرة البلاد، وهناك
عشرات الجامعات التي تود استقبالي.
وقد رأيت وبحسب معرفتي به أنه سيكون آخر الموقعين،
شريطة منحه حق السفر والإقامة في الخارج، ولأنه صادق وشجاع
وعنيف، فإنه لا يحسب حساباً للتبعات، ولا للمجاملات، وأنه
سيصطدم مع كل من يحاول البحث عن مخرج لهذه الأزمة.
وهكذا تسليت بلعبة التخمين ليلاً كاملاً، وقررتُ أن
يكون موقفي مبنياً على ركيزتين، الأولى: حقوقية ووطنية
لا يجب أن أتخلى عنها، والثانية: إصراري على عدم مغادرة
السجن بدون أصدقائي، وأن يكون موعد خروجي مربوطاً بآخر
شخص منهم!
ولكن يوم الأحد حمل معه مفاجأة كادت أن تعصف بموقفي
كله، ذلك أنني رأيت في حديث كولن باول الذي أدلى به للصحفيين
في جدة، كلاماً ابتزازياً لا يعبر عن حقيقة تاريخ الدور
الأمريكي المعروف من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان
في الدول الحليفة، فأمريكا صنعت الديكتاتوريات والإنقلابات
على النظم الديمقراطية في العالم الثالث مثلما حدث في
تشيلي ونيكاراغوا وسواهما، كما وقفت مع الأنظمة الإستبدادية
ضد شعوبها في إيران الشاه، وكوريا الجنوبية وغيرهما. فما
الذي طرأ اليوم حتى يطالب الحكومة السعودية بمعاملة المعتقلين
الإصلاحيين وفق المعايير الديمقراطية ومواثيق حقوق الإنسان؟
وبدأت معركة القلق والتساؤلات من جديد طوال اليوم.
أترى الأمر مدبّر لكي يتم اتهامنا بالتخابر مع جهات أجنبية،
أم أنه ابتزاز لرفع معدلات تصدير البترول للجم حمى ارتفاع
أسعاره؟
وفي المساء لم أستمتع بالعشاء، ولازمني احساس بالألم
والمهانة، وفكرت في القبول بالتوقيع على التعهد لكي أعلن
رفضي لذلك الموقف الأمريكي الإنتهازي! ذلك أن المظالم
الأمريكية وسياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع القضايا
العربية والإسلامية تدفع بأي وطني ـ حتى لو عانى من أنظمة
بلاده القمعية ـ لكي يعلن: أن الجنة التي تعدني بها أمريكا
أو تحملني إليها على بساط الريح مرفوضة، وأن نار بلادي
أرحم منها.
ألا يخجل كولن باول من التحدث عن اعتقال الإصلاحيين
في السعودية وهو الذي قاد حملة الأكاذيب في مجلس الأمن
لإقناعه بوجود أسلحة دمار شامل لدى الطاغية صدام حسين؟
ألا يخجل من تفرد بلاده بقرار الحرب ضد العراق وتقتيل
الأبرياء برغم الإجماع الدولي على عدم شرعية هذه الحرب
الإستعمارية الجديدة؟
كان وجه (كولن باول) المحايد، الذي لا تكاد تحس فيه
بألم أو سعادة، يطلّ من الصحيفة الى جوار الأمير سعود
الفيصل، الذي بدا على وجهه التأثر من هذا التدخل غير البريء،
وكنتُ ألمس الألم في ملامح وجهي، وكان من حسن حظي أن الوقت
ليلاً، فلم أستعجل في استدعاء المحقق هذه المرة لأبلغه
بقراري وأسبابه!
عاد الصراع الى ساحته من جديد فأقلق طمأنينة استمتعت
بدفئها يوم أمس، وامتد زمنه طوال الليل، فلم أمارس الرياضة
في الزنزانة، ولم أنم إلا بعد صلاة الصبح. وحين نهضت ظهيرة
الإثنين استعدت صراع البارحة وضحكت!
قلت يا أيتها النفس الباحثة عن الراحة!
ورأيتني قد استسلمت لكوامن اللاشعور في البحث عن مخرج
أو عذر، وزجرت نفسي، لكنني قررت أن أبلغ المحقق عن رفضي
لتدخلات كولن باول.
استدعاني المحقق، وكأنما كان يقرأ أفكاري، ولحظة دخلت
عليه، قال لي: سمحنا لك اليوم بزيارة عائلية، واعطاني
الهاتف لكي أتصل بزوجتي لدعوتها الى مكاني.
طغت مشاعر الفرح على ما كنتُ أفكر فيه، وحين سمعت (فوزية)
صوتي، سال نهر ابتهاجها وحمل معه مشاعر التضامن والإعتزاز
وتقدير الأصدقاء، وقلت لها يمكنك زيارتي الآن.
سألني المحقق: ألم تغير رأيك، فقلت له: لماذا لا تغيرون
رأيكم أنتم؟
ولما لم يجب، طلبتُ منه ورقة لأكتب عليها توصيات لزوجتي.
قدم لي دفتراً كان أمامه، وطلب من العسكري البقاء معي
وغادر. كان لدي الكثير من الأمور المؤجلة: للعائلة، في
العمل، وفي البيت وفي الحياة. ورأيتني أكتب ما يشبه الوصية
فتشاءمت، ولكنني رأيت السجن شبيهاً بالموت، فالغرفة لا
تختلف كثيراً عن القبر، والمحقق لا يكف باختراقه للأسرار
والتفوه بالوعد والوعيد، عن تذكيرك بيوم الحساب.
عاد المحقق بعد نصف ساعة، وأطلّت خلفه (فوزية). كانت
ترسل إليّ إشارات بإبهامها تارة، وبإصبعي الإنتصار تارة
أخرى، فاحتضنتها رغم ممانعتها، وكنتُ كمن لا يرى في هذا
المكتب إلا هي... رغم وجود ثلاثة أشخاص لحراستنا.
سألتها عن الوالد والأبناء والأهل، ثم قلت لها: متى
علمت بأنني معتقل؟ قالت بألم: لقد قلقنا جميعاً، فزملاؤك
في العمل لم يروك، وأنت لم تتصل...، ولم نعلم إلا في اليوم
الثاني من صفحات الإنترنت!
سألتُ المحقق: ألم أطلب منك إبلاغ أهلي باعتقالي؟
فقال: لم أستطع، ولكن جوالك كان معك!
قلت: لقد أقفلته في مكتبي بناء على طلب الضابط، ولم
أشأ التحايل على القانون، ولكنكم لا تخجلون من انتهاكه!
وأكملت زوجتي: لقد ظللت طوال الليل أتصل بالشرطة والمستشفيات
للإستفسار عنك، وأخفيت الأمر عن أبنائي تلك الليلة، وفي
اليوم الثاني ذهبت الى المباحث والإمارة ولم يجبني أحد.
ضحكت وقلت لها: مثلما بحثت عن سهل الجبلي في رواية
(الغيمة الرصاصية)!
سألت المحقق: ألم ينته التحقيق معي، فأجاب بالموافقة،
ولكنه أضاف: أنت الآن على ذمة هيئة الإدعاء والتحقيق ولكنك
في عهدتنا.
إذن لماذا لا تتركوني لوحدي مع زوجتي.
قال: أنا آسف لهذا، ولكن التحقيق مع الإدعاء العام
لم ينته.
حدثته عن موقفي من تصريحات كولن باول، ورفضي لتددخلات
أميركا في شأن داخلي كهذا نستطيع أن نتحاور فيه مع الحكومة
دون وصاية من أحد، وأطلعته على وصيتي قبل تسليمها لزوجتي،
فاندهش لكثرة البنود، وقال: لن تحتاج لكل هذه التوصيات
أبداً.
اخترت البنود العاجلة وأخبرت (فوزية) بها، وغادرتني
ونحن نتحسس بوادر التفاؤل بحل المشكلة، وفي طريق عودتها
الى المنزل اتصلت بها جريدة الحياة فأبلغتهم بما يلي:
(زرت زوجي في السجن هذا اليوم، وقد وجدته بصحة جيدة
وروحه المعنوية عالية، وأبلغني أن المباحث تعاملوا معه
بشكل حضاري. كما أنه عبر أمام المحقق عن رفضه لما صرح
به كولن باول وزير الخارجية الأمريكية بشأن المعتقلين
المهتمين بالشأن العام في بلادنا، وأوضح زوجي أن الأمر
يعتبر شأناً داخلياً بين المثقفين وحكومتهم، ويمكن أن
يصلوا فيه الى حل مناسب، وأن ما يجري ليس تحقيقاً وإنما
يمكن اعتباره حواراً حول أفضل السبل الممكنة للتعبير عن
المطالب الإصلاحية، كما أن زوجي عبر عن رفضه لأن يكون
هذا الأمر مجالاً للإستغلال من قبل الجهات الخارجية، كما
أنني استشفيت من كلام المحقق، بأن توقيف المعتقلين في
طريقه للحل القريب).
كانت الزيارة فألاً حسناً عليّ، حيث لمعت في الأفق
إشارات تومئ الى اقتراب حل المشكلة، لذا طلبت من مدير
السجن ـ في المساء ـ وضع (التلفاز) في غرفتي!
كنتُ أحلم بأن يشتمل نظام التلفاز على خيارات معقولة
من المحطات المقبولة للأجهزة الأمنية، ولكني فوجئت بأنه
لا يحوي أكثر من المحطتين العتيدتين: غصب (1) وغصب (2)
وسألتهم عن الإخبارية والرياضية فقالوا إنهما فضائيتان،
ولا يسمح هنا بالتقاط الفضائيات.
وعلقت: (من جرف في دحديرا، يا قلب لا تحزن). فهنا سجن
أرضي للجسد، في غرفة مؤثثة ونظيفة لولا سقفها الواطئ،
وهناك سجن للعيون المسمّرة على القناتين الأولى والثانية،
وعليّ الإعتياد على ذلك.
وفي الحقيقة، فإنني منذ سنوات طويلة لم أكن أملك القدرة
على ترك المحطات لمشاهدة محطتي (غصب 1 و2) إلا لمتابعة
المسلسل المحلي (طاش ما طاش) الذي تعرض وباستمرار الى
نقد خطباء المساجد وضيوف البرامج الدينية، وكان أكثر ما
يغيظني تركيزهم على الفنانة زينب العسكري، لأنها الوحيدة
التي تمتلك بعض مواصفات الجمال في كل برامج (طاش ما طاش).
ولعل تعاطي وزارة الإعلام مع تيار الخطاب الديني المتشدد
في هذه القضية بالذات، يعتبر انموذجاً حضارياً، فالوزارة
سمحت للمتشددين بنقد البرنامج، مثلما سمحت بالدفاع عنه
أيضاً على صفحات الجرائد، واستضافت معارضيه على شاشة التلفاز،
وأتاحت لهم الفرصة على نفس المنبر الإعلامي للهجوم عليه،
لكنها لم ترضخ لمطالبتهم بإيقافه. وهذا النهج قادر مع
مرور الزمن على خلق أرضية للحوار بين كافة توجهات الشرائح
الإجتماعية والدينية والثقافية المختلفة، وهذا الأسلوب
في إدارة الصراع يلبي الحاجات الموضوعية للمواطنين في
التعبير عن الرأي والرأي المختلف لتوطيد دعائم ثقافة الحوار
والتسامح وتكافؤ الفرص العادلة. وهو السبيل الأمثل لأي
مجتمع حيوي للبدء بالخطوة الأولى على طريق الحوار. وليت
الأجهزة الحكومية والأمنية تأخذ بهذه الطريقة التي نجحت
وزارة الإعلام في التعامل معها لأول مرة وعسى ألا تكون
الأخيرة.
وكما كنتُ حريصاً على متابعة (طاش ما طاش) على القناة
الأولى، فقد كنتُ من متابعي مباريات كرة القدم على الثانية
قبل احتكار بعض القنوات التجارية لبث هذه المباريات التي
كنا نتسابق لشراء بطاقاتها الخاصة لتثبيتها على (الريسيفر).
فأين الريسيفر يا عسكري؟!
وجدت مع الأيام أن قسوة السجن وثقل الأيام على نفسي،
قد أجبرتني بحكم الإعتياد على مشاهدة برامج المحطتين،
ولا سيما وأن الرياضية تأخذ موقع (غصب 2) في المساء (فانبسط
يا عم من قدّك)!
لكن اليوم التالي، الثلاثاء 24/3/2002 قد خبأ مفاجأته
لي، حيث استدعاني المحقق في التاسعة مساءً، وأبلغني إنني
سأمثل أمام هيئة التحقيق والإدعاء العام.
وفي غرفة صغيرة خارج مبنى إدارة السجن، قابلت ممثل
الإدعاء العام: شيخان شابان وكاتبهما، وفوجئت وكأنني اعرف
واحداً منهما، وشحذت الذاكرة حتى تبينت شبهاً له بزوج
ابنتي (نجلاء). سألتهم عن حقي في حضور محام، فأجاب رئيسهم
ـ وقد علمت في الرياض أن اسمه فهد السبيعي ـ بالموافقة،
وتساءلوا: ألم تطلع على نظام الإجراءات الجزائية؟
حاولت أن أتذكر هذا العنوان فلم أجد موقعه...، وأوضحت
لهم إنني مع الأسف لم أطلع عليه فأين تم نشره؟
أجاب الشيخ فهد: في الجريدة الرسمية (أم القرى). وعلقت:
من يقرأ الجريدة الميتة التي لا نبحث عنها إلا عند ضياع
بطاقة الأحوال المدنية، أو حصر إرث الأموات؟ فلماذا لا
ينشر في الصحف اليومية، وتدار حول بنوده الحوارات المستفيضة،
ويتم إقراره من قبل مجلس الشورى على الأقل.
وقال الشيخ فهد: لقد أقرته وزارة الداخلية وهذا يكفي
للعمل به كإحدى اللوائح النظامية.
وسألته: نحن الآن في منتصف الليل، فكيف يمكنني الإتصال
بمحام لحضور تحقيقكم معي؟ ثم إذا كنتُ لا أستطيع إحضار
محام في هذه الساعة، فإن عليكم حسب ما أفهم أن توكلوا
محامياً من طرفكم لحضور التحقيق.
قال: لا يكون الأمر ملزماً إلا أمام القاضي، أما هنا
فلا. قلّبت المسألة على وجوهها العديدة، فهل أطلب التأجيل
ريثما أتمكن من توكيل محام؟ وهل لدينا محامون مهتمون بالشأن
العام وحقوق الإنسان، ولا سيما حقوقه المدنية والسياسية؟
وبالرغم من يقيني لحظتها بعدم أهمية وجود المحامي الى
جانب ناشط اجتماعي مثلي، إلا أنني تساءلت: كيف يعمل الإنسان
في مجال تنبئ احتمالاته بالإعتقال دون أن يطلع على حقوقه
التي كفلها النظام رغم ما فيه من قصور؟ بل لماذا لم أوكل
محامياً من قبل لكي يكون جاهزاً عند الطلب؟ ولكنني قلت
لنفسي: وما الذي سيضيفه المحامي الى أقوالي حيال قضية
تمثلت في خطابات مطلبية أعددتها مع آخرين ووقعت عليها،
ولا تحتمل إخفاء شيء أو التحايل عليه وفوق ذلك فالحكم
فيها لن يكون مقتصراً على القضاء وإنما سيكون معدّاً من
وزارة الداخلية سلفاً؟ فلماذا أُحمّل نفسي بأعباء مالية
أدفعها لمحام لا أعرف مدى استفادتي منه؟
وقد دفعتني كل هذه التحليلات الى جانب ثقتي بعدالة
القضية ورغبتي في إثبات حسن النية والمرونة، الى القبول
بالبدء في التحقيق بدون محام.
أوجز لي الشيخ فهد طريقة التحقيق والتدوين، وبدأ بالسؤال
حول الخطابات والبيانات التي شاركت فيها، ذاهباً الى أنها
تعبر عن السعي الى إثارة الفتنة، والخروج على طاعة ولي
الأمر، وتعمل على زعزعة الوحدة الوطنية، والتشكيك في الأسس
التي قامت عليها الدولة، وإثارة الفتنة الطائفية، وتلخصت
إجابتي في التالي:
أولاً: الثوابت الوطنية
استندت تلك الخطابات والبيانات الى المنطلقات التالية:
1- الإعتماد على الشريعة الإسلامية السمحاء وفق منهج
الوسطية والإعتدال، وما تتضمنه من مقاصد شرعية تستهدف
إقامة العدل بين الناس، والحفاظ على كرامة الإنسان وتوفير
سبل الحياة الكريمة للمواطن، والحفاظ على خيرات الوطن
وثرواته وأسباب رقيه وازدهاره.
2- التمسك بالوحدة الوطنية والعمل على كل ما من شأنه
الإسهام في ترسيخها والعمل على إزالة كل الأسباب التي
تؤدي الى الفرقة والإختلاف والتفكك.
3- الإلتفاف حول القيادة واعتبار العائلة المالكة صمام
أمان لوحدة البلاد ورقيها، وتدعيم مشروعيتها ومطالبتها
(القيادة) بالبدء في الإصلاح الجذري الشامل لكافة مناحي
الحياة.
4- الوقوف ضد كافة التحديات والتهديدات الخارجية التي
تستهدف وحدة وطننا وسلامة أراضيه (وردت في بيان: معاً
في خندق الشرفاء).
5- رفض كل أشكال التطرف والإرهاب والعنف المسلح الذي
تتعرض له بلادنا، ومطالبة القيادة بالإصلاح الشامل لأوضاع
بلادنا لأن ذلك سيسهم في التخفيف من هذا البلاء (ورد ذلك
في: دفاعاً عن الوطن).
6- دعم التوجهات الإصلاحية التي أعلنتها القيادة والمطالبة
بالإسراع في تنفيذ توصيات مؤتمر الحوار الوطني الذي تم
برعاية الدولة، وكذلك ما تضمنته وثيقة (رؤية لحاضر الوطن
ومستقبله) (ورد ذلك في خطاب: معاً على طريق الإصلاح).
ثانياً: دوافع ومبررات كتابة هذه الخطابات
1- تفاقم الأزمات المعيشية للمواطن (الإسكان، الصحة،
التعليم).
2- التخلف التقني والتعليمي الذي لا يتناسب مع حاجات
خطط التنمية.
3- استشراء مظاهر الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة.
4- الفساد الإداري والمالي واستغلال المال العام.
5- غياب حرية التعبير وانتهاك حقوق الإنسان.
6- غياب مكونات المجتمع المدني والمشاركة الشعبية في
صناعة القرار.
7- تفاقم ظواهر التمييز الطائفي والمناطقي.
8- تفشي ظواهر التكفير والتبديع والعنف المسلح.
9- التهديدات الخارجية.
10- تخلف البلاد عن الدول المجاورة في إقامة المؤسسات
الدستورية والسماح لمكونات المجتمع المدني بحرية التشكل
والتعبير.
11- حاجة البلاد كأنموذج للدولة الإسلامية، الى الأخذ
بمقومات الدولة الحديثة، من حيث المؤسسات الدستورية واستقلال
القضاء والفصل بين السلطات، والمشاركة الشعبية، لكي تكون
النموذج الذي يحتذى به في العالم الإسلامي.
12- حاجة البلاد الى الهياكل والنظم والقوانين الحديثة
بما فيها المؤسسات الدستورية وحقوق الإنسان، لكي يتم قبولها
في المحافل الدولية الحقوقية والسياسية والتجارية.
13- الإفتقار الى ثقافة الحوار في المجتمع بين كافة
الشرائح والمكونات الثقافية والفقهية المتعددة من جانب،
وبين تلك المكونات والقيادة من جانب آخر.
14- الحاجة الى المساهمة مع القيادة وكافة الفعاليات
المهتمة بالشأن العام في تحديد الإشكالات التي يواجهها
مجتمعنا، والإجتهاد بطرح وسائل حلها، وإشراك الرأي العام
في ذلك، لأن مشاركته تحقق العديد من الأهداف منها:
أ ـ توسيع مجال حرية التعبير عن الرأي حول الأزمات
التي يعيشها المواطن، وذلك سيفتح باب الأمل للمواطن لكي
يتفاءل بأن الحديث العلني والصريح عن قضاياه الأساسية
سوف يفضي الى حلها.
ب ـ ومن جهة أخرى فإن توسيع مجال حرية التعبير عن هذه
القضايا المطلبية سوف يحمل رسالة هامة لدول العالم في
الخارج مفادها أن بلادنا تمضي في طريق الإصلاح، ومن علاماته
رفع سقف حرية التعبير عن الرأي والمطالبة بالإصلاحات الدستورية.
ثالثاً: أسلوب المخاطبة
انتهج المهتمون بالشأن العام منهجاً ثقافياً سلمياً
وحضارياً للتعبير عن آرائهم من خلال هذه الخطابات الموجهة
الى القيادة أو الرأي العام، وهذا يعزز التوجه المطلبي
السلمي، كما أن اسلوب المخاطبة الذي عبرت من خلاله هذه
الخطابات يدخل في صلب حق المواطن للتعبير عن رأيه الذي
كفلته الشريعة الإسلامية السمحاء والنظام الأساسي للحكم،
ومواثيق حقوق الإنسان التي وقعت عليها بلادنا.
وقد استغرقت الإجابة والأسئلة التفريعية حول هذا الموضوع
قرابة الساعتين.
وكنت أطلب منهم السماح لي بتدوين إجابتي ليتم نقلها
بعد ذلك الى دفتر الضبط فلم يوافقوا على طلبي، واستمروا
في اختصار إجاباتي الشفوية وابتسارها، أحيانا بحجة التطويل،
ومن ثم تدوينها بطريقتهم.
وقد بدا حرصهم واضحاً على إثبات تهمة وضع أسماء لشخصيات
معروفة بدون أخذ موافقتها أو توقيعها. وأوضحت لهم أننا
نحتفظ بسجل كامل لكافة الأسماء حيث يحمل كل شخص من جامعي
التواقيع نسخة من الخطاب ويقوم بعرضها على المعنيين، وفي
حالة الموافقة يقوم بالتوقيع على الأوراق المرفقة بالخطاب،
ومن ثم إرسالها للقائمين على رصد الأسماء والتواقيع في
النسخة النهائية. وحين أصروا على أن هناك شخصيات اعترضت
على تضمين اسمائها ضمن قائمة الموقعين، طالبت بإيراد تلك
الأسماء، كما طالبت بفتح المجال أمام كل من يريد التنصل
من توقيعه لكي تتضح الحقائق.
ثم اضفت: إذا كنتم تقصدون الشيخ عبد الكريم الجهيمان،
فإنه قد وقع على كل البيانات والخطابات التي كنت طرفاً
فيها، ابتداءً من بيان إدانة انتهاك (شارون) للمسجد الأقصى
حتى آخر خطاب كان لي علاقة به. وأما تنصله من التوقيع
على الخطاب الأخير (نداء الى القيادة.. نداء الى الشعب)
فإن ظروف ذلك الموقف معروفة، وقد حدثت نتيجة لضغوط عديدة
مورست عليه.
لم يدونوا السؤال ولا الإجابة، وانتقلوا الى السؤال
التالي:
حين قدمتم خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) استقبلك
الأمير عبد الله ووعدكم خيراً، فلماذا تصرون على الإستمرار
في رفع الخطابات؟
وأجبته: مضت فترة زمنية انتظرنا خلالها طرح أي مبادرة
للإصلاح فلم نسمع شيئاً، وبالرغم من أننا طالبنا بعقد
مؤتمر وطني للحوار حول كافة القضايا إلا أنه لم يستجب
لذلك. وحين اشتعلت حركة العنف المسلح في بلادنا، بادرنا
الى إعلان موقفنا منها، وذكرنا في خطاب (دفاعاً عن الوطن)
إدانتنا واستنكارنا لكافة أشكال العنف والإرهاب الذي تتعرض
له بلادنا، وطالبنا المشاركين والمحرضين على هذه الأعمال
بالعودة الى أحضان الوطن، والمبادرة الى نبذ كافة أشكال
التطرف والعنف بالقول والعمل.
ورأيناها مناسبة لتذكير القيادة بأن مسؤولية التصدي
لظاهرة العنف لا تتحقق من خلال الحلول الأمنية وحدها،
وإنما بالقيام بتحليل وفهم جذور هذه الظاهرة المحركة لها،
والشروع الفوري في تنفيذ الإصلاحات الشاملة التي بلورتها
العديد من الكتابات والخطابات المرفوعة للقيادة، ومنها
مذكرة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله).
وسألني الشيخ فهد: لماذا جمعتم هذا العدد الكبير من
التواقيع عليها، أليس ذلك دليل على سعيكم في إثارة الفتنة
وتحريض الناس على الخروج على ولي الأمر؟
وأجبته جواباً طويلاً تم اختزاله مثلما تم اختزال الإجابات
السابقة، ولعل أهم ما يحضرني الآن ما ركزت عليه في الإجابة
وهو: إن حرية التعبير السلمي مكفولة للمواطنين في كل بلاد
العالم، وإن ما قمت به مع عدد كبير من المهتمين بشأن البلاد
من المثقفين والمواطنين رجالاً ونساءً للتعبير عن مطالب
المواطنين لا يخرج عن ذلك الإطار القانوني السائد في دول
العالم، وقد هدفنا من وراء ذلك البرهنة على مصداقية المطالب
وشعبيتها، لكي تدرك القيادة أن الأزمة خانقة، وأنه قد
حان وقت البدء في عملية الإصلاح السياسي الشامل.
وبكل المقاييس الحقوقية والمعايير الدولية، فإن ذلك
لا يعد تحريضاً للمواطنين ضد الحكومة ولا إثارة للفتن
أو إساءة للوحدة الوطنية. وهذا الحق مكفول في إطار الشريعة
الإسلامية بواجب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
فسألني: هل تعرف شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فأجبته: شروطها محددة في حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع
فبقلبه، فإن لم يستطع فبلسانه). ونحن لم نخرج على الحاكم
بالسلاح ولم نعن الأعداء عليه.
قال لي: هذه ليست الشروط الشرعية للأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وهنا قلت له: مادام الأمر قد تحول الى محاكمة
فقهية، فأنا لا أجيد الدفاع عن نفسي، ولذا أطلب حضور المحامي.
تطلّع الشيخ الى زميله وبدا سؤالي مفاجئاً، فغير الشيخ
من لهجته، وقال: أنت قد ذكرت شرطين ولكن الشرط الثالث
غاب عنك، وهو ضرورة الإلتزام بعدم إفضاء الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر الى ضرر أكبر منه، وهو الفتنة.
قلت له: ما قمنا به هو عمل يستهدف القضاء على الفتنة
لا تأجيجها، فحين يعبر الناس عن مشاكلهم ويطالبون بالحلول
الناجعة لها، فإنهم ينزعون فتيل تراكم المظالم واليأس،
ويفتحون نوافذ الأمل الواعدة.. وأما اذا ما تم حرمانهم
من التعبير عن تطلعاتهم، فإن ذلك هو الأمر الباعث حقاً
على إشعال الفتنة، ولكنني سأسألك: وماذا تسمي الأضرار
الناجمة عن تدخل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
في خصوصيات الناس، وما ينجم عنها من أضرار احتجازهم او
ضربهم، وما أدى إليه ذلك من أحقاد ومشاحنات بلغت تبادل
النار بين الطرفين؟ أليست تلك هي بواعث الفتنة؟
لم يلخص الشيخ إجابتي ولم يدونها، ونظر الى ساعته وقد
تجاوزت الواحدة صباحاً، فأبلغني بانتهاء جلسة التحقيق
لهذه الليلة ومعاودتها في الثامنة صباحاً، لأنهم على سفر!
قلتُ له: أنا متعب الآن، ولا أعلم متى سأنام، ولذا
أرجو بدء التحقيق في العاشرة. وافق الشيخ وأقفل المحضر
بعد توقيعي على اجاباتي رغم عدم رضاي عما اختزله منها.
عدت الى السجن وظللت أستعيد الأسئلة وما دون من إجابات
وما هي الأسئلة الممكنة، وكيف الرد عليها، ولم انم إلا
في السادسة صباحاً بعد أن تناولت الإفطار والدواء وفي
التاسعة جهزت نفسي للتحقيق من جديد وقررت أن أطلب محامياً،
ولكنني لا أعرف أحداً في الشرقية.
في العاشرة كانوا على الموعد في مكتبهم، وبعد تبادل
التحيات فتحوا المحضر، فطلبت محامياً، فرد الشيخ فهد:
لا نقبل إلا محامياً يحمل ترخيصاً قانونياً للمحاماة،
وأن توكيله سيستغرق زمناً طويلاً وأوضحت إصراري على المحامي.
تشاورا في الأمر، واتصل أحدهم برئيسه وخرج الى الساحة،
وكنت متعباً ولا أعرف محامياً يتفهم القضايا السياسية
أو المطلبية، وربما اضطررت للإستعانة بمحام متشدد يشارك
المحققين وجهات نظرهما، وتذكرت صديقي اسحاق الشيخ يعقوب،
الذي عرفت بالمصادفة بأنه يترافع في بعض القضايا، ولكنني
ترددت في دعوته فلعله لا يحمل ترخيصاً او أنه ينوي السفر
الى البحرين، أو لعله لا يحبذ الترافع في هذه الأمكنة.
أربكتني اللحظة، وحين عاد الشيخ قال لي: إن توكيل محام
معتمد سيأخذ بعض الوقت ويعقد المسألة ونحن قد بدأنا التحقيق،
ولم يبق إلا القليل، فدعنا نكمل على بركة الله.
فكرت في الأمر، وكنت مرهقاً، ورأيت أن قلق البارحة
كان كافياً لانشغالي واستفزازي طوال الليل، فملت الى السهولة
وقبلت معاودة التحقيق بدون حضور المحامي.
بدأنا الجولة الثانية، وأعادا الكثير من الأسئلة بصيغة
أخرى، على أن أهم ما أضيف إليها سؤال حول ما يلي: طالبتم
بالدستور والمؤسسات الدستورية وشككتم في نزاهة القضاء
واستقلاله وهذا أمر يعني التشكيك في مرتكزات الدولة القائمة
على كتاب الله وسنة رسوله.
وفي إجابتي الشفوية المطولة قلت له: إننا نطالب بتعزيز
ما ورد في نظام الحكم من نص على أن دستور المملكة هو كتاب
الله وسنة رسوله، وهذا النص يعترف بمسمى (الدستور) أولاً،
لكننا طرحنا الآليات الحديثة التي تعمل على تجسيد هذا
النص في أنظمة وقوانين تسهم في تعزيز الإستقرار السياسي،
وتضمن المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي، وتمنع
انتشار الفساد والعنف في المجتمع، وتحقق مطالب المواطنين
في تطبيق العدل والعدالة الإجتماعية.
ويتضمن الإطار القانوني السياسي لهذه الآليات ما يلي:
1 ـ وجود دستور دائم وفق المرجعية التي يرتضيها المواطنون
ومرجعية الدستور في بلادنا هي كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم التي تضمنها النظام الأساسي للحكم.
2 ـ يضمن الدستور الحريات العامة للمواطنين والديمقراطية
وحقوق الإنسان، ويقر مبدأ التعددية وحرية تكوين جمعيات
المجتمع المدني السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية
والرياضية والفنية وسواها.
3 ـ ينص الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث:
التشريعية (نواب الشعب)، والتنفيذية (الأجهزة الحكومية)
والقضائية (القضاء بما في ذلك المحكمة الدستورية العليا
التي تفصل في دستورية القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية
أو السلطة التنفيذية).
4 ـ ضمان مشاركة الشعب (رجالا ونساء) في صناعة القرار
على كافة المستويات، وتمتع المجلس النيابي المنتخب بصلاحيات
سنّ القوانين وفق مرجعية الشريعة الإسلامية، وأن يكون
مخوّلاً بمراقبة ومحاسبة الأجهزة الحكومية، وإقرار ميزانيتها،
وسياستها الداخلية والخارجية.
لم يسجّل الشيخ شيئاً من هذه الإجابة وقال: إن مجلس
الشورى والحكومة يقومان بكل هذه المهام، ثم طلب مني إجابة
مختصرة حول التشكيك في نزاهة القضاء، وأجبته بأننا لا
نشكك في نزاهة أو عدالة القضاة أنفسهم، فالمشهود للغالبية
من قضاة المملكة بأنهم يتمتعون بالنزاهة ومخافة الله،
ولكننا نتحدث عن سطوة الأجهزة الحكومية وتدخلاتها في قراراتهم
بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن مفهوم استقلال القضاء
هو أحد المفاهيم الأساسية المكونة للدستور، فحينما نتحدث
عن دول المؤسسات الدستورية فلا بد أن نتحدث عن استقلال
القضاء، كأحد أركان تطبيق الدستور، وهو ما يستدعي استقلاله
التام عن أي سلطة أخرى بما فيها السلطة التنفيذية (وأذكر
هنا قول مونتسيكو: إن الحرية تنعدم إن لم تكن سلطة القضاء
منفصلة عن سلطة التشريع، لأن حرية أبناء الوطن وحياتهم
تصبحان تحت رحمتها، ما دام القضاء هو المشرّع. أما إذا
كانت السلطة القضائية متحدة مع السلطة التنفيذية فإن القاضي
يكون طاغياً).
سألني الشيخ: ألا تعلمون أن أبواب مجلس الشورى مفتوحة
لشكاوى المواطنين، فلماذا لم تقدموا خطاباتكم إليه؟
قلت له: ولكن أعضاءه لا يملكون من الأمر شيئاً، فالنظام
جعلهم هيئة استشارية في بعض القضايا، ولم يمنحهم صلاحيات
تشريعية أو رقابية، كما أن المجلس لا يمتلك حق المحاسبة
ولا المساءلة ولا ينص نظام مجلسهم على حقهم في التمتع
بممارسة تلك المهام او بعضها، أما حين ينال المجلس تلك
الصلاحيات التي تجعل منه سلطة تشريعية منتخبة تنوب عن
الشعب في اتخاذ القرار، فسوف نجرب ذلك، بعد الخروج من
السجن إن شاء الله! وبعدها حان وقت الصلاة، والغداء حيث
أكرمنا ضابط التحقيق بصحن من (المندي) أطلق في الذاكرة
شهية الأكل مع الجماعة، واُنس المواكلة وجمالية الحرية
خارج المعتقل، ولكنني لم أجد رغبة في الأكل، وجاملتهم
على مضض، فلا يمكن أن يجتمع الضحية والجلاد على صحن واحد!
انقضّوا على أوصال المندي كالصائمين منذ شهر، ويبدو
أنهم قد ملّوا أكل لحمي بسكاكين تهمهم الضخمة.
وفي الواحدة، (عدنا الى البدء!).
انتقل الشيخ الى مساءلتي حول حديثي لإذاعة مونت كارلو
ومداخلاتي على الإنترنت.
فأجبته بأنني قد سُئلتُ عن أسباب تفشي ظاهرة العنف
والإرهاب في بلادنا، فأجبت، بأن هناك أسباب اقتصادية وسياسية
واجتماعية على أن أهم الأسباب، في نظري، تكمن في احتكار
تيار فقهي واحد من التيار الأربعة للحقيقة الدينية، وفي
نفيه لما عداه من مذاهب وطوائف، وقد أدى ذلك الى تغلغل
هذا التيار في كافة مفاصل النظم التعليمية والتربوية والإجتماعية
والسياسية في بلادنا، وإنه تم استقطاب الشباب وتجنيدهم
ضمن رؤية أيديولوجية تكفّر المجتمع. وهنا انقضّ عليّ الشيخان
وظهرا وكأنهما يدافعان عن النهج المتشدد، ورأيتُ أن أسئلتهما
تعدّ أكبر دليل على تغلغل الخطاب الديني المتطرف في مفاصل
الدولة. وبدأنا نتجادل قرابة الساعة حول هذا الموضوع،
دون أن يدوّنا إجابتي، وبعد صلاة العصر قلت لا بد أن أكتب
الإجابة، وعليكما إثباتها بدون تحريف، وإلا فإنني أطالب
بتأجيل التحقيق من جديد، الى أن يحضر المحامي.
وهنا سمح الشيخان لي بكتابة إجابتي، التي اختصرتها
في إحالتهم الى ما تنشره الصحف هذه الأيام، والى البحث
الذي قدمه الشيخ عبدالعزيز القاسم والشيخ السكران الى
مؤتمر الحوار الوطني، والى كتابات الدكتور حمزة المزيني،
والى أبحاث الشيخ حسن فرحان المالكي، والى سواهم ممن أشاروا
الى أن هذا التيار قد اختطف المؤسسات التعليمية وكرّس
التفرقة الطائفية التي بلغت حدّ إقصاء وتكفير الشيعة،
وأن هذا التيار المتشدد هو الذي يؤجج الطائفية لا نحن.
استمرّ الجدل في هذا الموضوع حتى صلاة المغرب، وتأكدت
لحظتها أنهم لم يقرؤوا مداخلتي في موقع الساحل (الإنترنتي)
وإلا لأمطروني بوابل اسئلتهم وتهمهم، ولكن الإدعاء العام
استطاع لاحقاً الحصول على كامل المداخلة وصاغ منها تهماً
باطلة تلاها في قاعة المحكمة خلال جلستها في الرياض.
أما خلال الزمن الفاصل ما بين صلاتي المغرب والعشاء،
فقد تركز الحديث خلاله حول ضرورة الكفّ عن مطالبة الحكومة
بالإصلاح، والإكتفاء بما قدمناه، لأنه يرفع عنا حرج الإحتساب
على الدولة، ويترك الأمر لولي الأمر.
وقد أعدتُ عليهم خلاصة دوافع الخطابات المطلبية والتي
وردت في ثنايا الحوار السابق، وبعد ذلك عرضوا عليّ توقيع
التعهد بصيغته الأصلية التي عرضها ضابط التحقيق من قبل،
وقد دوّنت إجابتي كالتالي:
أنا في داخل السجن، ولا أستطيع كتابة أي تعهد مهما
كانت الأسباب، وأطلب إحالتي الى محكمة شرعية عادلة لتحكم
في قضيتي، وفقاً للشريعة الإسلامية ومواثيق حقوق الإنسان
التي وقعتها المملكة.
وأغلق المحضر في السابعة مساءً.
كان يوماً مرهقاً تجابتني فيه أسنّة الشيخين اللذين
لم يكتفيا بلعب دور محامي الحكومة وحسب، ولكنهما ـ بحكم
محاضن تعليمهما وثقافتهما الدينية المتشددة ـ مارسا دور
مهاجمتي باسم الخطاب الديني المتشدد، ولعل تيار العنف
والإرهاب لن يجد أفضل منهما للدفاع عن عدالة قضيته!
ورأيتُ الكفّة تميل لصالح ضباط التحقيق ومهارتهم في
صياغة الأسئلة وعدم تكرارها واكتفائهم بتبني وجهة نظر
الحكومة دون الدخول في جدال المؤسسة الدينية وشيخيها.
ارتفع معدل السكر والضغط فتغشاني الصداع والإعياء،
وطلبت الطبيب الذي جاءني في العاشرة مساء، مؤكداً على
ضرورة تهدئة الأمور وتناول الأدوية لكي أتخلص من مسببات
الألم!
اليوم الخميس، أحسستُ في صباحه الذي لا اراه إلا في
ساعتي بالكثير من الإرتياح وخفّة الروح وكأنني مريض خرج
من حمّاه، واستقبل برضا أيامه، فالمحقق في إجازة نهاية
الأسبوع، وشيوخ الإدعاء العام غادروا الى أماكنهم البعيدة،
وبدا العسكري المرافق أقلّ حدّة في التعاطي مع طلباتي،
ورجوته أن يترك الغرفة لكي أدخل الحمام الذي ليس له باب،
فوافق.
عانيتُ قسوة الإمساك، وتغشاني العرق، واستعنتُ بما
لديّ من قدرة حتى أتى فرج المجالدة، وارتحت مما خزنته
طيلة ثمانية أيام في معدتي. وحين خرجت من الحمام كانت
الغرفة مكتظة بتلك الرائحة التي كتب عنها (صنع الله ابراهيم)
رائعته الروائية بعد خروجه من السجن، ليؤكد أن الرائحة
العطنة لا تأتي من السجن الصغير وحسب، ولكنها تنبع من
شوارع السجن الكبير منذ البداية، وقلت يا صنع الله، أخرجني
من السجن بدون تعهّد وأنا كفيل باحتمال قسوة السجن الكبير
وروائحه أيضاً.
فتح العسكري باب الغرفة ودخل عليّ، وشمّ هو أيضاً تلك
الرائحة، وقلت له: إنها ليست مني ولكنها من بقايا التحقيق،
وطلبت منه إبقاء الباب مفتوحاً بعض الوقت للتخلص من هذا
الطارئ ففعل.
ترك الباب لمدة معقولة، وتنسمت رائحة الهواء الطلقة
في نهاية الربيع، وكان الباب يطل على ممر عريض تستند فيه
بعض غرف السجن على الحائط الخارجي، وكان برج المراقبة
يقف عالياً وكئيباً، حيث يشرف على كافة باحات وأرجاء المكان،
وكان الحارس ممسكاً برشاشه قبالتي تماماً، وبدا قرص الشمس
مائلاً للمغيب من بين الأسلاك الشائكة.
إنه منظر (الغروب). يا الله. إنها نفس الحالة القديمة
المغمورة في أنهار الشوق والوحشة وشغف اللقاء، ألمسها
طرية تنزف أوجاعها مثلما عشتها في تجربة حبي الأول مع
(نهاد).
تجربة عنيفة عايشتها معها.. تجربة حب محكوم عليه بالموت
سلفاً لارتباطها بشخص آخر.
تجربة عشق امتزج فيها العذري بالصوفي، واستدعت مخيال
قصة (قيس وليلى) وجنون الشعب والحب والفناء في الاخر،
ولكنها كانت مسيّجة بأقدار الفراق منذ يومها الأول.
لقد تبقى منها الكثير الذي تجلى في قدرة الحب على كسر
عمود الشعر، والدخول في نهر كتابة قصيدة التفعيلة، غير
أن لوحتها التي رسمتها لي، هي التي تحضر الآن بكل سطوة
وافتتان، إنها لوحة (الغروب) الذي كسا الأفق والأشياء
حمرة خمرية، جمعت كل الألوان في لون وحيد، يعبر عن هذا
الأمتزاج بين الأرواح، ويوميء الى انتهاء الرحلة الجميلة،
وقد كَتَبَتْ في أسفلها:
(والذكريات صدى السنين.. اذكرني مع كل غروب)..! نهاد.
كم كنتُ وفيّاً لهذا النداء، ومدفوعاً للتمسك به، لأنه
كل ما تبقى من سفر العشق والحرمان، فأدمنته سنوات عديدة
حتى حررتني منه رفيقة العمر والأحلام (فوزية) لا بأسلوب
القمعي الذي تمارسه الزوجات، ولكن بتذكيري يومياً بذلك
الغروب القديم حتى ألفت نسيانه. وها أنذا الآن من داخل
السجن أفتح شوق القلب للحرية على شمس غاربة، وأفق مصبوغ
بالحمرة، وذكريات جمر أودعته جسد السنين، فمن يا ترى يشاركني
وحشة وشجن هذه اللحظة سواها؟
أقفل العسكري باب الذكريات، وأطفأ وهج الشمس بقفله
الكبير، وعدتُ الى موقعي لأتصفح جرائد اليوم.
مضت الأيام، وكنتُ اعدها بحبات الدواء، حتى اتى يوم
الإثنين فقرأت في صحيفة (الوطن) خبر الإفراج عن الدكتور
توفيق القصير، والشيخ سليمان الرشودي، وقد تضمن الخبر
كلاماً للدكتور القصير، أثنى فيه على تعامل الأجهزة الأمنية
وعلى مكان السجن الذي كان عبارة عن غرف نظيفة في إحدى
الفلل التابعة للسجن، كما أشار في حديثه الى خروجهما بدون
اعتذار أو تعهد!
عاد التفاؤل والقلق الى مكمنيهما، وبدأتُ أسترق السمع
لوقع خطى (العريف) لكي يأخذني للمحقق، غير أنه تأخر حتى
يوم الثلاثاء، وعندما دخلت على المحقق كنتُ أغالب أملاً
مشرباً بالفرح، وأمسك به بعيداً عن عينيه. لكنه لم يحدثني
عن قضيتي، وإنما أبلغني بزيارة عائلية. وأردف قائلاً:
لا يُسمح لك بالحديث إلا في أمور عائلية ولا تحدثها عن
موضوعك. وعلّقت على طلبه: رجعنا للأساليب القديمة.. قضيتي
معروفة للجميع وتكتب عنها الصحف، فقاطعني: هذا هو النظام،
وإلا منعنا الزيارة عنك.
نفس الكلام الذي أبلغني به (أبو منصور) في الرياض عام
1982م، حين سمح لي بأول زيارة. يومها، كانت زيارة مفاجئة،
فلم يكن أحد منا في ذلك الوقت يتوقع رؤية الأهل رغم انتهاء
التحقيق، ولكن من يضمن انتهاء التحقيق؟ فما دمت في سجن
المباحث فأنت متهم حتى تخرج منه أو تموت فيه.
كان (ابو منصور) يقتعد كرسيه قريباً من مكتب مدير السجن،
وسألني من تتوقع ان يزورك؟ طافت أسماء ووجوه الأحباب أمام
وجهي، وكدتُ اذكر بعض أسماء الأصدقاء الحميمين لولا خشيتي
أن يعتقلهم (أبو منصور) مثلما حاول المحقق مع معتقلي عام
1969م، حين أمر باعتقال الشاعر (الشابّي) حين علم بأن
الكلمات التي كانوا يغنونها في لحن جماعي: (اذا الشعب
يوماً أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر) هي من كلمات
الشابّي!
ولعلّ حضور أبو منصور لهذا اللقاء الموعود جزء من ترتيباته،
ولكن الحنين العائلي قادني صوب الأهل، فأجبته: أتوقع زيارة
الوالد؟ فهزّ رأسه بالإيجاب. كنتُ البس ثوباً أسود من
ثياب السجن، وشماغاً ثقيلاً يقيني لسعة البرد وصفعات (أبو
منصور) في غرفة التحقيق، وقد تعاون الشتاء البارد مع بؤس
الزنزانة والماء البارد والمرحاض القذر، في عدم قدرتي
على الإستحمام لأسابيع عديدة. ولولا خشيتي من القمل الذي
تعرفه طفولتي، لما استطعت تحمل برودة الماء في شتاء قارس
وممطر، لم تشهد البلاد مثله منذ سنين طويلة.
ولم تكن الحلاقة متيسرة، فأسبلت لحيتي التي استجابت
سريعاً للنمو، حتى فجع منها (أبو ناصر) الذي رآني بعد
شهرين من وصولي الرياض، واحتميت بظلها من قسوة (العساكر)
الذين صاروا ينادونني يا (مطوع).
دخل والدي واحتضنني بحرارة كنتُ أحتاج إليها منذ سنين
طويلة، وتبعه إخوتي، وطفل يتجاوز التسعة أشهر من عمره،
يركض بينهم وفي فمه مصاصة صغيرة. ودخلت زوجتي فاقتربت
منها لكي أقبلها، فصدتني وتساءلت بحدّة من هو ذا؟
ضحكت وقلتُ لها وانا أقبّلها: أنا مبارك يا (فوزية).
تحدثنا عن العائلة والأمطار والديرة وقلت لوالدي: لاتخف
فنحن في أيدٍ أمينة، وهمستُ له: قضيتنا مشرّفة، ونحن من
أبناء الحركة العمالية في الظهران.
اشرق وجهه، ولمعت سنّه التي لا يراها إلا الأحباب،
واشرت الى (أبو منصور) وقلت لوالدي: إن هذا الأخ مسؤول
عنا ويقوم بكل ما يستطيع من أجل راحتنا والإهتمام بنا،
فنظر إليه الوالد بامتنان! (وبعد خروجنا من السجن أخبرت
الوالد بأن أبو منصور كان مهتماً بنا بشكل كبير وأنه تخصص
في ضربنا وتعذيبنا، فغضب مني الوالد، وقال: لماذا لم تبلغني
بهذا في تلك الزيارة لآخذ حقك منه، فقلت له: يا أبي، شجاعتك
معروفة، ولكنها لا تصلح في مثل ذلك المكان!).
يومها، تحدثت مع الجميع، وأهملت الطفل الصغير، ولما
رآنا منشغلين عنه تقدم بسرعة من مكتب مدير السجن واخذ
الدبّاسة، فغضب منه المدير ونهرته بقسوة، فبكى..، وأحال
عادل الزيارة الى مناحة صغيرة. قلت مازحاً: وش هالتربية
يا فوزية ما يهاب ولدك من مدير السجن؟ قالت: وش سوّى الضعيف،
مد إيده على دبّاسة السجن! فاقتربت منها وقلت ما جرّب
(عصاة أبو منصور) وإلا لما تجرّأ على ما بدر منه!
(وقلتُ لها بعد خروجي من السجن، لماذا أفزعتك لحيتي
الطويلة التي حرصت على إعفائها ليصبح منظري شبيهاً بجيفارا
حين تزورينني في السجن. فعلقت ساخرة: أمحق جيفارا، والله
أنك ما تشبه إلا جهيمان أو صاحبه ذاك المهبول الثاني محمد
بن عبدالله القحطاني الذي صدق حكاية ظهور المهدي في ذلك
الوقت، فمات مقتولاً تحت أستار الكعبة!).
قال لي المحقق في الدمام: هل قرأت صحف الأمس؟ فهززت
راسي بالموافقة، وعرفت ما يرمي إليه، ودخلت زوجتي فسألها
عن الأبناء وأجابته: هم في جامعاتهم وأنتم لا تسمحون بالزيارة
المسائية. وعلّق: لقد سمحنا لهم بالزيارة، وكما ترين فقد
وضعت لهم كراسي كافية في الغرفة.
عانقتها وأنا مثقل بالتساؤلات وبمرارة الحديث مع المحقق،
وسألتها عن محمد سعيد طيب، فقالت: لقد خرج أيضاً، وهناك
أحاديث على الإنترنت عن تفاهم أو تعهد مقبول، فلماذا لا
تفكر في الأمر؟ قلت: لقد صرح الدكتور القصير بأنه لم يوقع
التعهد ولكنه اضطر في اليوم التالي لتأكيد توقيعه عليه،
أما أنا فلا زلت غير قادر على التوقيع حتى الآن، وأبلغي
الوالد أنني بخير وأن الأمر معلّق على شرط التعهد، ومازال
في يدي حتى الان.
عقّب المحقق قائلاً: لم يعد الأمر بيدك!
وهنا أمطرتُ زوجتي بسيل من الوصايا، وقلت لها: أعانك
الله على المسؤولية، فمهمتي أن اصبر على قسوة السجن، ومهمتك
تقع خارجه، وهي تجربة للتحرر من وصاية الزوج والأب، ولتكن
بمثابة (البروفة) على غيابي عنكم بعد الموت، فأبلغي الأبناء
بثقتي فيهم وبقدرتهم على تحمل المسؤولية في غياب الأب
حياً او ميتاً.
امتقع وجه (فوزية) وقالت: مازرناك لتحدثنا بهذا الكلام،
ولا تخف علينا... ودعتها وطلبت منها بعض الكتب، ثم أخذني
العسكري الى غرفتي الواطئة.
(ذهب الذين أحبّهم وبقيت مثل السيف فردا). كنتُ أمنّي
النفس بالتقاء الأصدقاء في السجن، والإستمتاع بسوالف الدكتور
توفيق القصير الذي يجيد الحديث والإنتقال من شأن الى نقيضه،
من المعلومة المعرفية الى الحكاية المؤثرة، ومن الفيزياء
النووية الى شجون الحب والإفتتان، ولكنه الان يغادر الحلم
مع (ابو الشيماء) وسليمان الرشودي في طريقهم الى السجن
الكبير!
وفي بداية الأسبوع الثالث، استدعاني المحقق وكان جالساً
في مكتب ضابط تحقيق آخر، ليسلمني الكتب التي أوصلتها إليهم
زوجتي. نظرت الى وجه الضابط الآخر وتأكدت أنني قد رأيته،
وسالني هذا الضابط: ألا زلت معانداً حتى الآن؟ لماذا لا
توقع التعهد وتعود الى بيتك وأهلك مثلما فعل الآخرون؟
وأجبته بأنني لا أستطيع التوقيع حتى الآن، ثم تذكّرته...
إنه هو... إنه هو... نفس الضابط الذي تعهدت في مكتبه بالخبر
بعدم المشاركة في المظاهرات، واستعدت آثار المرارة والألم،
الذي سببه لي ذلك التعهد، فقلت له: لقد اكملت التحقيق
مع الإدعاء العام، ولم يبق إلا إحالتي الى القضاء، فلماذا
لا تحيلون القضية إليه، وهو المخرج المناسب للحكومة وللمعتقلين
الباقين؟
وتدخل المحقق الأساسي: لم ينته التحقيق معك من قبل
الإدعاء العام، ومازال مفتوحاً!
قلت له: أعتقد أنه انتهى، فلم يبق سؤال أو باب يمكن
أن يطرقه المحقق إلا ودخله. قاطعني: لا لم ينته، فهل سألوك:
هل لديك أقوال أخرى؟
قلت له: هل يمكنني إضافة أقوال أخرى؟
قال: نعم. وأوضحت له انني أحتجّ على طريقة التحقيق
مع الإدعاء العام، لأنهم لم يكتبوا كل اقوالي، ولم يمكنونني
من توكيل محام.
قال: لقد قبلت التحقيق بدون محام وانتهى الأمر. وسلمني
الكتب التي أوصلتها العائلة الى السجن، وقدم لي ورقة لأوقع
على استلام الكتب، وبعد توقيعي أضاف لها: (أوقع على انني
وافقت على إجراء التحقيق معي بدون محام).
قلت له: لقد حدث ذلك، ولكنني أحتفظ بحقي في التمكن
من توكيل محام يراجع اقوالي ويستكمل ما نقص منها. وكتبتُ
تحفّظي ووقّعت على الورقة، ثم أعادني العسكري الى مكاني.
لم أتآلف مع تلك الغرفة، رغم وجود سرير عريض، ورغم
توفر الجرائد و (غصب 1، 2) ولكنني الليلة قررت النوم عليه،
فنقلت الشرشف والمخدة والبطانية واستلقيت على نعومته فغمرتني
الرغبات الجسدية، ونمتُ في خَدَر جميل.
وفي الصباح أخذتُ دشاً دافئاً فانتعشت واستمتعت بالإفطار
وبدأت استشعر علامات التأقلم والإرتياح لهذه الغرفة: وحين
بدأت بقراءة الصحف جاءني العريف وقال: قم أطلب الله يا
ولد غرم الله، فارتعبت.. الى (ابو منصور)؟! قال: سننقلك
الى غرفة ثانية.
قلت لنفسي يا الله. حين استشعرت في هذه الغرفة ببعض
الراحة علموا بذلك، فلم يرضهم وقرروا نقلي، وتذكرت جملة
كان يرددها أبو عادل (لو دخل المؤمن جحر ضبّ لسلط الله
عليه من يؤذيه).
وتحدثت مع العريف عن اعتيادي على الغرفة وعن رغبتي
بالبقاء فيها، فقال لي: هذه غرفة الخلوة للمساجين، وقد
كان المسؤولون يتوقعون خروجك مبكراً منها، ولكن مادام
السجن قد أعجبك، فسوف ينقلونك الى أخرى مناسبة ودائمة!
حملوا عدة السجين القليلة، ومضيت معهم الى الغرفة الجديدة
والتي لم يكن يفصلها عن الأولى سوى جدار كان يتسلل منه
أنين الصمت والوحدة. ودخلنا من باب يفضي الى عنبر صغير
فيه سبع غرف مجلّلة بأبوابها الحديدية، وأقفالها الصدئة،
تطلّ على ممر طويل تقع في آخره غرفة واسعة، فيما ينفتح
الممر من جانبه الأيمن والملاصق لغرفتي القديمة، على باحة
(التشميس). اختاروا لي الغرفة الأولى، ويبدو أنها كانت
مكتباً للإشراف على العنبر، حيث أنها الوحيدة بباب خشبي.
وضعت فراشي على الأرض المغطاة بموكيت رمادي قديم، وأعدتُ
ترتيب لوازمي القليلة على كراتين صغيرة كنتُ أحتفظ بها
من الغرفة الأولى، وأحضروا لي جزءً من الكنب والتلفاز،
فانتشت الغرفة بحضوري، حيث كنتُ ضيفها الوحيد، في غياب
ساكني الغرف الأخرى كلها.
السقف عال وله فتحات قريبة منه، تطل على الممرات الجانبية،
والمكان هادئ لكنه موحش. وقد أخبرني الحارس بأن المكان
مخصص لسجن النساء، فتحرّكت المشاعر الغامضة في الأعماق،
وتذكرت قصة الحب الخرافية بين سجين في عنبر الرجال، وسجينة
في عنبر النساء، حيث كانا يتواصلان برمزية بواسطة الطرق
على الجدار الفاصل بين زنزانتيهما، وقد وردت هذه القصة
في مجموعة الكاتب الكبير (يوسف إدريس) المعنونة بـ (مسحوق
الهمس).
تجولت في الغرف الأخرى، لأتفقد آثار الراحلات، فتضاعف
إحساسي بالوحشة والفقد.
يا للنفس التي لم تعجبها الغرفة الأولى لأن سقفها واطئ،
ولم تألفها إلا بعد أن ارتعش الجسد على سريرها الوثير،
ولم تأنس بالغرفة الجديدة، واسعة المكان. فالفضاء أو الحيّز
الصغير يخفّف من وطأة الوحشة ولكنه يكثّف الشعور بالكآبة،
أما الحيّز الواسع فإنه يشعرك بغياب الناس ويزرع علامات
الفقد في أطراف المكان.
يا علي، إنه سجن، حتى لو وضعوك في أحد قصورهم الفخمة
والمهجورة التي تمتلئ بها شواطئ الشرقية، لأحسست بالوحدة
والغربة والإشتياق الى دفء العائلة والأصحاب.
ذهبت للحمام ففوجئت بحمامات قديمة ذكرتني ـ رغم نظافتها
ـ بحمامات زنازين وزارة الداخلية بالرياض.
كانت أربعة حمامات عربية متجاورة، وحوض إسمنتي متهدم
للغسيل والوضوء، ورائحة لا تحتمل إلا في ساعات المخاض
العسير، ولكنها أفضل من حمامات زنازين السجن في وزارة
الداخلية بالرياض، التي لم أستطع محو قسوتها من خيالي،
ولا طرد مرأى الصراصير وفئران الجحور بأذيالها السوداء
الطويلة، وكان حظي العاثر قد وضع زنزانتي أمامها تماماً.
كانت مراحيض سجن وزارة الداخلية أربعة، تقع في نهاية
صف الزنازين الأيمن، وكل إثنين منها بمدخل واحد، وكانت
طبقات الأوساخ المتراكمة على أبوابها الحديدية من الداخل
هي ميزتها الوحيدة، فقد اتاحت مجالاً للكتابة عليها بعود
الكبريت الذي يحفر في تلك الطبقات أحرفه وآلام كُتّابه،
وكان مبارك الحمود يشغبني بكتابة سؤال دائم: (متى نطلع)؟
كتبت له مرة: لن نطلع حتى ننظّف الصحون.
ويبدو أنه لم يفهم الرسالة، فكتب: صحون الغداء أم العشاء؟
وكتبت: صحون أخرى لا تعرفها يا مبارك.
ورغم قذارة تلك الحمامات، إلا أنها غدت متنفسنا الوحيد
الذي نستطيع من خلاله التواصل مع بعضنا بالهمس أو بالكتابة
على الجدران والأبواب. وقد وجدت ذات مرة عبارة على باب
الحمام الداخلي تقول: أصبحت القوات الإيرانية على بعد
مائة كيلو متر من بغداد، ولحظتها داعبني الفرح، وذهبت
الى أقاصي الأماني البعيدة، فتوقعت أن يتم الإفراج عنا
قريباً، لأن تهديد إيران للعاصمة العراقية يعني اقتراب
الخطر الإيراني من المنطقة الشرقية لبلادنا، وسوف تكون
حكومتنا محتاجة عندها الى استتباب الأمن وكسب مشاعر المواطنين،
ولا بد من إطلاق سراح هذا العدد الكبير من المعتقلين الذين
يتحدّر أغلبهم من المنطقة الشرقية!!
أشعت هذا الإستنتاج ـ همساً ـ الى جيران زنزانتي والى
مرتادي الحمام القريب من مكاني، لكنني أصبت بالخجل والإحباط
حينما علمت أن الحدود الإيرانية لا تبعد عن بغداد أكثر
من مائة كيلومتر!
لكن أصعب الكتابات وجدتها ذات مرة مكتوبة بخط عريض
استخدم كاتبها مسحوق (التايد) ويبدو أنه أمضى ليلته هناك
حيث دوّن: يسقط حزب العمل الإشتراكي في الجزيرة العربية.
وأدركت أن المعركة نشبت بين الحزبين من جديد في السجن،
حيث رد على هذا الشعار، سجين آخر فكتب بخطه على طول الجدار:
يسقط الحزب الشيوعي في السعودية.
لم أكن أعرف من الذي خطّ تلك الشعارات، ولكن يبدو أن
أصحابها يعرفون بعضهم جيداً. إنها الإختراقات الخاطئة
التي جعلتنا نتصارع علناً، ومع ذلك فإن الشيوعيين الذين
أصدروا مجلة (الثقافة المعاصرة) لم يجرؤوا على إيصال نسخة
منها مباشرة لأحد أعضاء حزب العمل الإشتراكي، وإنما وسّطوا
صحفياً يعمل في جريدة اليوم وهو الصديق السوداني (سيف)
ليسلّم تلك النسخة الى المرحوم صالح العزاز. وقد دفع (سيف)
الثمن غالياً حيث اعتقل معنا ولم يتم الإفراج عنه إلا
بالعفو الملكي الذي شمل الجميع، وأجزم أن (سيف) لا يعرف
عن التنظيمين شيئاً، وإنما كان ضحية غير مقصودة للمنافسة
بين الحزبين!
وبعد مدة وجدت عبارة حادة مكتوبة على جدار نفس الحمام
تقول: تسقط المملكة العربية السعودية. وخلال نصف ساعة
سمعت صوت الحارس وهو يصرخ على المعتقلين المتواجدين في
الحمامات لتحديد اسم المعتقل الذي كتب ذلك الكلام! ولما
لم يجد الإجابة، بادر وبسرعة لمحو الكتابة، وتأكدت عندها
بأن المباحث كانت تتابع تلك العبارات للإستفادة منها في
التحقيق!
كان سجن وزارة الداخلية في بداية أيام اعتقالي يجمع
كل ألوان الطيف الحزبي السياسي من اليمين الى اليسار،
فزنزانتي تقع بين زنزانتين يقبع فيهما شخصان من جماعة
جهيمان، أحدهما شامي والاخر زهراني. وكان دعاء الزهراني
بعد كل صلاة يكاد أن يقطع اوتار القلب، أما الشامي العنيد
فلم أسمع له أنّة أو ألماً، رغم أنه مقعد ومصاب بجراح
كثيرة، كان الممرض يعاينها يوميا. وكان في الصف المقابل
أشخاص ينتمون الى حزب الله الشيعي، وبجوارهم أعضاء من
حزب العمل الإشتراكي، ومنهم صديقي أحمد بابتسامته الغامضة
والدائمة، أما أعضاء الحزب الشيوعي فقد ملأوا الزنازن
الباقية في هذا العنبر والعنبر المجاور.
قلت أن العنبر مكون من صفين من الزنازن، يقع في نهايته
غرفة واسعة تطل على الممر، ولها مدخل خاص مجاور للحمامات
المشتركة الثلاثة الأخرى، وكانت لحيتي الطويلة قد نفّرت
اصدقائي مني، بيد أنها قد جعلتني مثار جدل بين الأطراف
الأخرى، فإلى أي تيار ينتمي هذا المطوع؟
وذات مساء كنتُ في الحمام المجاور للحمام الخاص بالغرفة
الكبيرة، وسمعت صوت سجينها يأتي هامساً: أبشّرك أن حسن
الصفار في (قم).. حسن الصفار في (قم)!
قلت له: الله يبشرك بالخير، ولكن ماذا جاء بك الى هنا!
فأجاب بهمس: كنتُ أعمل في جوازات الرقعي، وتعرف الأمور،
فاعتقلوني.
لم أكن قد تعرفت على الشيخ حسن الصفار، ولكنني سمعت
عن علمه وامتلاكه (لكاريزما) الشيخ والقائد. وكنتُ أعرف
أنه ميال الى العنف، وقد شارك حزبه (الثورة الإسلامية)
مع الحزب الشيوعي في إصدار بيانات سياسية في الخارج حول
قضايا الوطن والمنطقة العربية ونسقا بعض الأنشطة الإعلامية
والنقابية معا، من خلال لجان حقوق الإنسان، واتحاد النقابات
العمالية العالمية.
وقد ظل الشيخ الصفار وقيادات حزبه في الخارج حتى احتل
صدام الكويت فاتخذ الصفار موقفاً وطنياً شجاعاً ـ مهما
كانت أسبابه ـ بإعلانه وقوف الشارع الشيعي مع القيادة
السعودية ضد تهديدات صدام، لأن الوطن أصبح مستهدفاً، وينبغي
أن يكون الجميع في خندق واحد ضد أعدائه.
وقد عاد مع قيادات حزبه الى البلاد في عام 1993م، بعد
تفاهمات مع الحكومة، ووعود بإزالة أشكال التمييز الطائفي
ضد الشيعة، ولكن الحكومة لم تنفذ منها شيئاً، فناله الكثير
من غضب الشارع الشيعي، ومسّه ألم الخذلان، لكنه بقي ثابتاً
على موقفه.
وقد عرفته فيما بعد عن قرب، فاكتشفت فيه نزاهة العالم،
وصدق الوطني، وخلق التسامح الرفيع، وعرفت فيه المجدد الديني
الذي يقبض بفهم وعمق على مقاصد الشريعة الكلية، وقدرتها
على بناء دولة إسلامية حديثة، تأخذ بمبادئ الديمقراطية
وحقوق الإنسان، وتضمن حقوقه في المشاركة السياسية في اتخاذ
القرار. وبذلك أزلت من الصورة التي احتفظت بها له، كل
توهمات الحدة والعنف، ووضعته حيث هو، مثالاً للخلق الفاضل
والرجولة الحقّة.
لم يبق ذلك السجين في الغرفة الواسعة طويلاً حيث حل
مكانه ضيف آخر أشعل الجلبة في غرفته وحمامه، وتعرف على
الجميع خلال يومين، ولقد خمّنت في البدء أن يكون (ناصر
السعيد) لأن لهجته البدوية وحركته وجرأته تذكرك بما استقر
سماعاً في وعيي بذلك المناضل الكبير، الذي كان كان حديث
والدي عنه يزاحم جمال عبدالناصر.
كان الكثيرون من جماعتنا قد التحقوا منذ بداية الخمسينات
الميلادية عمالاً في أرامكو، وحين تضمهم قريتنا في إجازاتهم
التي تتم كل عامين، يتحدثون أمامنا نحن الأطفال، عن عبد
الناصر، وعن ناصر السعيد ودوره في تحريض العمال على الإضراب
والمطالبة بحقوقهم المهدرة. وكان يزورهم في مواقعهم مع
أعضاء اللجنة العمالية، ويخبرهم أن وضعه الوظيفي في أرامكو
مريح، ولكنه لا يستشعر الرضى ولا السعادة حين يراهم في
هذه الأوضاع المزرية.
سألت الضيف الجديد: هل أنت ناصر السعيد؟
فتنهّد بألم، وأجاب لا: أنا فهد الحربي، أما سمعت عني؟
قلت: ربما ولكنني لم أحدد هويتك.
قال: ذهبت الى ليبيا وأنشأت إذاعة معارضة للسعودية
في الخارج ألم تسمعها؟ قلت له مجاملاً: بلى.. سمعتها.
ولكن أين ناصر السعيد؟
قال علمه عند الله، وعند أجهزة (فتح) الأمنية، حيث
يقال أنها سلمته للأجهزة السعودية.
مضت الأيام، وكان كريماً في تلخيص أخبار العالم لي
ولغيري، حيث توجد في غرفته سماعة موصولة بغرفة مدير السجن،
وحين يفتح المدير الراديو على الإذاعة السعودية، فإن فهد
الحربي يستمتع بتسقط أخبار العالم منها، ثم يلخصها للمساجين
عبر الحمام المشترك.
أبلغني في إحدى الليالي القاسية بوصية من أحد الرفاق،
وكتبت على باب الحمام، يا خليفة: هنا رجل يحدثني عنك،
وقد أجابني رفيقي: لا تثق فيه! كان التحقيق في ذراه العالية،
وقد خيّمت الكآبة على زنازين كل الرفاق، ولم يعد هنالك
متسع لتبادل الحديث الهامس مع فهد، لكنه أصرّ على أن نضرب
عن الطعام مطالبين بتحسين أوضاعنا.
قلت له: يا فهد.. ألا ترى السلاسل في أقدام الأصدقاء،
والإستدعاءات الطويلة والتعذيب القاسي على ملامحهم؟ فلنؤجل
الموضوع للمستقبل.
وذات مرة، قال لي فهد: هناك شخص يود الحديث معك من
الحمام الثاني فهو يخمّن أنك من (ربعه)، وسألته عن ذلك
الشخص فأجابني إنه (ابو خمسين) من حزب الله، فقلت له:
إنني لا أنتمي الى أي حزب، فاتركني الله يعافيك.
تركني لمدة وانشغل بالاخرين، وفي ساعة متأخرة من إحدى
الليالي، دخلت الحمام فأتى صوته من وراء الجدار: عندي
لك خبر مهم.
ـ ما هو يا فهد؟
ـ وصلتني أخبار بأن أحد المسؤولين الكبار قال في مجلس
خاص، بأن الحكومة ألقت القبض على قيادات حزب قوي، وأن
الحكومة لن تعمل على جعل تلك القيادات أبطالاً!
وماذا يقصد بذلك يا فهد؟
ـ قال: سيفرج عنهم قريباً حتى لا يصبحوا رموزاً للنضال
باعتقالهم على جعل تلك القيادات ابطالاً!
ولقد تحقق ما رآه فهد، حيث تم الإفراج عنا بعد ذلك
الحديث بحوالي ستة اشهر، أما فهد فقد بقي في السجن، ويروي
بعض الأصدقاء الذين قابلوه مؤخراً في الدمام أنه أبلغهم
بما حدث له بعد خروجنا.
لقد طلب فهد من المباحث نقله من سجن الوزارة الى سجن
القصيم ليكون قريباً من أهله. وفي الطريق الى ذلك السجن،
غافل فهد أحد الجنود وسلبه سلاحه بالقوة، وقام بطرد العساكر
من السيارة، وقادها الى القصيم ثم غادر البلاد (بالتهريب).
سافر فهد الى فرنسا وتزوّج هناك، وحصل على شهادة الماجستير
منها، وحين كبرت بناته، خشي عليهن من ثقافة الغرب، فقرر
العودة الى المملكة حفاظاً على العرض.
عاد واعتقل مجدداً وحكم عليه بالسجن سبع سنوات، ولكنه
نال عفواً بعد مضي ثلاث سنوات منها، وخرج الى الحياة من
جديد، وأسبغ على نفسه ملامح الهدوء والرضى. ولكن المباحث
أخذت عليه تعهداً بعدم مغادرة الرياض الى اي مدينة أخرى
إلا بعد الإتصال بالضابط المكلّف برقابته، ليسلّمه بدوره
الى مراقب آخر في المدينة التي ينوي السفر إليها.
يا للحرية الواسعة يا فهد!
كان سجن الوزارة تجربة قاسية لا تنسى، حيث أصابتني
بقرحة في المعدة، وشهدت لحيتي الطويلة مولد اول شعرة بيضاء،
وكانت الشعرة كفيلة بإكسابي حلّة من الوقار في أعين العساكر
وسجناء التيارات الدينية، ولكنني مازلت متمسكاً بنزق الشباب،
كما قال المتنبي (والشيب أوقر، والشبيبة أنزق) فقررت التخلص
منها.
والآن وحدي في عنبر السجن بالدمام، لا يشاركني فيه
يساري ولا يميني، ولا يزورني فيه رعب ولا خوف من المحقق
والتحقيق، لكن الوحدة قاتلة وقد لمست آثارها على العساكر
الذين يتناوبون على حراستي كل ثمان ساعات. قلت لهم: هل
تتوقعون أنني فهد الحربي لأشرد من هذه الزنازين؟ والله
لو تركتم الباب مفتوحاً لما خرجت، فالمعركة بيني ووبين
المحقق منصبّة على بقائي في السجن. هو يريد إخراجي بقيد
أجرجره خلفي امام الناس دون أن تتعرض الأجهزة الأمنية
لانتقاد المواطنين والإعلام الخارجي، أما أنا فإن قضيتي
هي الصبر لأطول مدة ممكنة، وتذكّرت جملة شعرية لشاعر شعبي
من الجنوب حيث يقول:
(وأنت تبغي من عصاتك ـ تهوش)،
وتقتل أحمد
وتهرّب من دمه
ما تسلّم ديّته!
لا.. لا يا سيدي المحقق، لن أترك هذا المكان، حتى تشاركني
في دفع الضريبة.
بقي باب الغرفة مفتوحاً ووجدتي حراً في التنقل من زنزانة
الى أخرى، وعبر الممر الطويل المؤدي الى الحمام. لكن حجم
هذا الفراغ أو السعة أو حرية الحركة، كان ثقيلاً عليّ
وعلى الحراس، ولكم أشفقت على الكثيرين منهم من سطوة الملل،
فأحاول التسرية عنهم ببعض الكلمات والسوالف القصيرة. حدثتهم
عن قضيتي حتى مللت، وعن أخبار اولادي وحكاياتهم، وعن بعض
ما اقرأه في الصحف، ولم يكن يعتقهم من هذا الكابوس سوى
انتهاء دوام الواحد منهم، والعودة الى الحياة، خارج أسوار
كآبة هذا السجن الأثري العتيد.
تطاول هذا الأسبوع، ولم أطلب من المحقق زيارة جديدة،
بل كنت أتحاشى ذلك لكي لا يتم استدراج عواطفي العائلية
الى مأزق التعهد والعودة الى البيت، وكنتُ أعدّ الأيام
بفرح يشبه استقبال الهدايا الخاصة، فكل صباح يقرّبني من
نهاية الشهر، والشهر زمن طويل وكفيل بكسر العادات القديمة
والتدرّب على الجديدة، مهما كانت قسوتها.
صمتت الجرائد عن قضية اعتقالنا، وقرأت معظم ما توفر
لي من كتب، حتى ذلك الكتاب الذي حمله لي مدير السجن، والذي
يحوي الكثير من حكايات ذكاء القضاة ومعرفتهم بحيل المتهمين،
وقلت لنفسي: لأمثل أمام القاضي، ولن يحتاج للتعاطي معي
الى استخدام ذكائه ولا فراسته، وكل ما يحتاجه هو (الضمير
اليقظ) والفهم المعاصر لحقوق الإنسان، وأجزم أنه سيطلق
سراحي من الجلسة الأولى، فما هو الخطأ الذي ارتكبته؟
ساهمت في إعداد خطاب يندد بالسياسة الأمريكية ويدين
تلويحها بالتدخل في شؤون بلادنا، وهذا في صالح الحكومة.
وفي خطاب آخر شاركت في تحديد مشاكل البلاد واقتراح الحلول
العملية للخروج من الأزمات الشائكة، واستقبل سمو ولي العهد
الأمير عبدالله هذا الخطاب بكل تقدير، وأدنت الإرهاب،
وشكرت الحكومة في خطاب آخر على مضيها في طريق الإصلاح،
وكل ذلك يصب في صالحها، فبماذا سيحكم عليّ القاضي يا مدير
السجن العزيز؟
مضت أيام عشرة بدون زيارة، وكان الملل قد بلغ ذروته،
غير أنني بقيت متماسكاً. واليوم هو السبت 12 مايو 2004م،
وقد أمضيت 26 يوماً هنا، لكأنها سنة مما تعدون أيها السجناء،
فأيام السجن لا تشبه أيام الحرية، وساعات الوحدة القاتلة
لا تشبه ساعة في الحديقة أو بقرب (فوزية) وكنت أحنّ الى
استدعاء ضابط التحقيق لي، ففي الحديث معه تحريك للأيام
الراكدة، وتمرين على الحديث عن مباهج الحرية، ومشاغبة
لا يخشاها متهم بمثل قضيتي. وبعد أن جففت أصابعي من حبر
البصمات، رأيت المحقق يستعجلني للحاق بالطائرة قبل الأوان!
ترى ماذا سيحدث لو تأخرنا عن موعد الإقلاع هذا اليوم؟
ألن أجد قبراً فاتحاً لي ذراعيه كهذا العنبر؟ استجبت لطلبه
وركبت سيارة (السجن) الجديدة، وكان الجو حاراً في ظهيرة
ذلك اليوم، وصندوق سيارة السجن بدون تهوية، وحين وصلت
المطار أحاط بي المحقق واربعة من زملائه، وقال لي: تقديراً
لك لن نضع القيد في يديك. فقلت له: لا أقبل ذلك، وهل يقيّد
مثلي؟ وعلى كل حال فأنتم الخاسرون.
ركبنا الطيارة بدون قيد واستعاضوا عنه بتشكيل طوق من
الحراسة حولي، وفي مطار الرياض ودعني الضابط عائداً الى
الدمام بعد أن أسلمني الى مباحث العاصمة. حاولت إفهامهم
أنني لست إرهابياً، وأنني من دعاة الإصلاح السياسي والدستوري،
وأننا أصحاب دعوة سلمية، ولكنهم لا يسمعون ولا يبالون
بمن تكون!
قلت لنفسي: والله حالة! انخرطت في عمل سياسي سري فاعتقلتموني،
وكتبت قصائد الشعر الحر فسلطتم علينا عوض القرني ورفاقه،
ودعوت الى الإصلاح بطريقة علنية وسلمية فوضعتم القيد في
أقدامي، فهل أذهب الى طريق العنف والإرهاب؟ لم تتركوا
لنا باباً إلا وأوصدتموه، ولا أملاً إلا وقضيتم عليه،
وكأنما تدفعون المواطن الى اليأس أو الإرهاب أو الإنتحار.
والله حالة!، كما يقول أبو منير، حين كان يصلني صوته
من زنزانته المجاورة لي في سجن الوزارة، وهو مثقل بالقيود.
وصلنا الى بوابة مبنى المباحث العامة في عليشة بالرياض،
وأعتقد أنني أحفظ هذا الأسم منذ زمن بعيد. نظرت الى الغرب
فرأيت بساتين نخيل قديمة، تتحدر من هامات نخلها سعفات
يابسة ومكسورة، وتذكرت هذا المنظر. إنه هو، أو شبه من
أبيه، ذلك النخل البعيد الذي ينشر الحزن في الأفق، كما
رأيته قبل أكثر من 23 عاماً، حين نقلونا من سجن وزارة
الداخلية على شارع المطار القديم الى هذا المكان، بعد
أن أمضينا ستة أشهر في الزنازين الإنفرادية. ربطوا كل
ثلاثة في قيد واحد، فكنا أشبه بالقطيع يضرب بعضه بعضاً،
لكن فرحة الخروج من الحبس الإنفرادي والتواجد مع آخرين،
أشعرتنا بأننا نفتح قبورنا ونعود الى الحياة من جديد.
كان زميلاي في الغرفة من نفس التنظيم، وهما (خالد)
و (أموري) وقد كدنا نبلغ مرحلة جنون الفرح بهذه الغرفة
النظيفة ذات الحمام العربي اللامع، ولعلنا كنا أول من
دشّن هذا المبنى في عام 1983م. ضحكنا طويلاً ولم ننم لثلاث
ليال متتاليات، قضيناها ونحن نستعيد قسوة التجربة ومرارتها
خلف تلك الأبواب الصلدة. أما هنا فقد دخلنا الجنة.
غرفة بثلاثة أسرة، وأرضية مفروشة بالموكيت، ونوم هانئ
لا يقلقه فتح أبواب العنبر طوال الليل لتصعيد المساجين
الى مكتب التحقيق. يا للراحة التي لا يعرف طعمها إلا من
قست عليه الظروف ووضعته بين يدي (أبو منصور) أو أمام عبد
العزيز بن مسعود.
نعمنا بالهدوء والراحة زمناً، ثم بدأنا ندخل حالات
الحزن والملل والإكتئاب في غرفة معزولة عن العالم، لا
تسمع أصوات الاخرين ولا يهمسون لك بالسلام في ذهابهم الى
الحمام، وليس لديك ما يقطع الوقت: لا جريدة ولا كتاب ولا
راديو ولا تلفاز. ورويداً رويداً بدأت الغرفة تاخذ شكل
الزنزانة، خاصة حين يختصم المعتقلون مع بعضهم.
ولكني أذكر الآن وأنا أكتب هذه الذكريات في عليشة،
قسوتي على صديقي (خالد) حيث كنت أتفق في الرأي مع (أموري)
ضده، وكم من الأوقات الصعبة مرّت عليه معزولاً بين اثنين
في غرفة صغيرة في سجن عليشة. وأعتقد أن الزمن قد انتقم
له الآن مني، حيث أجلس في السجن وحيداً فيما يتفق زميلاي
معاً، الدكتور عبد الله الحامد والدكتور متروك الفالح..
فهل يجدي الآن أن أطلب منك السماح يا خالد؟
كانت الأنوار مضاءة، وجهاز التكييف مفتوحاً على مدار
الساعة في الغرفة الجديدة، ولم نكن نملك إمكانية التحكم
فيهما، ولكن عطلاً طارئاً في الكهرباء أدى الى انقطاع
التيار، فبدأنا ندق على جدران زملائنا في الغرفة المجاورة،
ونرفع أصواتنا فلا يسمعون. وهنا لاحظنا لأول مرة وجود
فتحة صغيرة فوق جهاز التكييف، فرفعني (أموري) فوق كتفيه
لكي أبلّغ الزملاء في الغرفة المجاورة بقرار الإضراب العام،
للمطالبة بمحاكمتنا، محاكمة علنية عادلة.
وحين أطلّت عيناي من الفتحة، رأيت هذا المنظر نفسه،
فشهقت لرؤية الدنيا والنخل والجريد اليابس، وأبلغت الرسالة
لزملائي المجاورين، فرد أحدهم: أنتم مجانين، سوف يعيدوننا
الى الزنازين القديمة، ورفضوا المشاركة في الإضراب. أما
جيراننا في الغرفة الثانية، فقد قالوا: دعونا نطالب بتحسين
أوضاعنا، والحصول على جرائد، وفتح ابواب الغرف على بعضها.
قلنا: لا، لا بد من ربط الإضراب بالمطالبة بمحكمة علنية
عادلة.
أضربنا لمدة 48 ساعة، وقد حاول مدير السجن إقناعنا
بكسر الإضراب، فرفضنا مطالبين بمقابلة (أبو ناصر). وفي
آخر الليل استدعانا (أبو ناصر) الى غرفة تحقيق ملحقة بهذا
السجن، وبدأ بالسؤال: من الذي طرح فكرة الإضراب؟ فقلت
له: هل رجعنا الى ايام التحقيق؟ لقد فكرنا معاً ونفذنا
الفكرة معاً.
سبقنا في الإضراب بعض الأصدقاء، ويبدو أن هدف الإضراب
قد أصبح معروفاً لدى (أبو ناصر) لذا لم يفاجأ بالطلب،
وحاورنا بشكل ليّن حتى أبلغناه بأننا نحمّله امانة إيصال
هذا الطلب الى المسؤولين، وإذا لم يلبّ خلال شهر فإننا
سنعاود الإضراب من جديد. وعدنا خيراً وقال تفاءلوا بالخير
تجدوه.
دخل شهر الصيام وانتصف دون استجابة، وصدف أن رأيت محمد
العلي يمشي في حوش التشميس بدون العسكري، فهمست له بالفكرة
من تحت الباب، فقال على الفور: دعونا نضرب جميعاً في يوم
العيد!
انتشر الخبر عبر الزيارات، وقرر الجميع الإضراب في
ذلك الموعد، غير أن المطالب بقيت شأناً مفتوحاً لكل مجموعة
حقها في المطالبة بما تشاء. وفي صبيحة يوم 27 رمضان وقد
اقترب العيد وموعد الإضراب، جاءت المفاجأة العظيمة من
(أحمد ناهر).
طرق الباب ونحن نيام، فلما صحونا على صوته، فتحنا شباك
الأكل ونظرنا إليه. كان مبتسماً وعلى وجهه فرح غامر، وقال
أبشركم سيحولونكم على محكمة علنية.. البسوا ثيابكم. لبسنا
على عجل، وفتح الباب لنا فوجدنا الأصدقاء يحتضنون بعضهم
ويكاد البعض أن يبكي من الفرح. سألتهم: ماذا حدث، فقالوا:
أفرج عنا بعفو ملكي!
ركضت الى أحمد ناهر وقبلته بحرارة، وسألته عن (أبو
منصور) فقال إنه في إجازة. قلت له بلّغه تحياتنا. لقد
نسينا اليوم كل شيء وسامحناه. شدّ على يدي بحرارة وقال
للجميع: سوف تقابلون الفريق وبعض العلماء. عليكم بالإنصات
وعدم الحديث.
يا الله.. كيف تغير الإبتسامة وجه الإنسان، فبعد أن
كان وجه أحمد ناهر مقطّباً وصلفاً، أصبح الآن وجهاً آخر.
ورأيت أنه يؤدي وظيفته فقط!
التقينا في صالة غصّت بجمعنا، وأبلغنا الفريق عبد العزيز
بن مسعود بقرار خادم الحرمين بالعفو الملكي عن الجميع،
غير أن وجهه ما فتيء جهماً وقاسياً وعنيداً، وقال إنكم
ممنوعون من السفر!
تحدث معنا الشيخ الفاضل صالح اللحيدان عن سماحة الإسلام
وعدالته وصلاحه لكل زمان ومكان، واستغرب منا تبنّي الفكر
الإشتراكي. وقد تحدث معه بعض الزملاء موضحين إن الحزب
الشيوعي هو حزب سياسي له برنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي،
ويستهدف مصلحة الشعب، والسعي لإنصاف الطبقات الفقيرة والمحرومة
ومنع استغلال الإنسان للإنسان.
وقال زميل يجلس خلفي إن كلمة الشيوعية جرى تشويهها
على أنها ضد الدين، وفي الواقع فإننا لا نهتم بالجانب
الفلسفي من الفكر الماركسي، كما أن هذا الفكر من الجانب
الاخر، يؤمن بحق الإنسان في اعتناق أي دين، ولا يضع نفسه
في مواجهة مع الدين، كما لا يهدف الى أن يكون ديناً. والشيوعية
هي مرحلة من مراحل التطور الإجتماعي والإقتصادي للمجتمع،
حين لا يعود هناك استغلال او استئثار لفئة بخيرات الوطن
دون أخرى، وقد عملت الدعاية الرأسمالية على توصيف الشيوعية
بالعداء للدين، وذلك جزء من حربها ضد دول المعسكر الإشتراكي.
وقال زميل آخر: لقد عشتُ في الإتحاد السوفياتي وزرت
الجمهوريات السوفيتية الآسيوية، وأقسم لك يا شيخ بأن الناس
متمسكين بدينهم الإسلامي ويؤدون شعائر الإسلام في مساجدهم
كما نمارسها نحن هنا، وليس هناك أي تدخل للدولة في الشأن
الديني. كما أن عدداً كبيراً من أعضاء الحزب هم من المسلمين
ويؤدون واجباتهم الدينية على أكمل وجه.
ابتسم الشيخ الفاضل، وقال: إن كان هذا صحيحاً، فهو
أمر يبشر بالخير، حيث مازال المسلمون متمسكين بعقيدتهم،
واسترسل في حديثه عن الثروات الحلال وإنها منّة من الله
سبحانه وتعالى على عباده. تشعّب الحديث وطال رغم توصيات
أحمد ناهر، وملّ بعض الشيوخ المقام فغادروا الصالة، أما
الشيخ اللحيدان فقد فتح قلبه وعقله للحوار، وبنى صورة
حضارية للعالم المثقف والمطلع والمتسامح، ومازال الكثيرون
منا يقدّرون له ذلك الحديث الضافي، ويتابعون كتاباته في
صحفنا بكل محبة وتقدير.
ودّعنا الشيخ، ودعا لنا بالخير، وانهمكنا من جديد في
التعبير عن مشاعر الفرح بالإفراج، وعن تفاصيل ما لقيناه
في تلك الأيام، ولم يكدّر بهجتنا إلا ما سمعناه من خبر
موت رفيقنا خالد النزهة، رحمه الله، في السجن، وحينها
تحوّل المكان الى مناحة لا تُطفؤها الدموع ولا النسيان.
|