نايف يعلن عن (محكمة أمن الدولة)
الأمـن يـبـتـلـع الاصـلاح
فاجأ وزير الداخلية الامير نايف الرأي العام المحلي
والدولي بإعلانه، نيابة عن وزارة العدل، إنشاء (محكمة
أمن الدولة) في مقابلة مع صحيفة (الحياة) اللندنية في
الاول من أبريل 2006. وقال الامير نايف بأن (وزارة العدل
تعمل على انشاء محكمة تشبه ''محكمة امن الدولة'' لمحاكمة
المتورطين بعمليات ''إرهابية'')، ودرءا لأية إنطباعات
حول هذه المحكمة سيئة الصيت زعم الامير نايف بأنها (تقوم
على كل الأسس القضائية النزيهة والعادلة).
نايف والمفتي: الاستبداد الديني والسياسي
المزدوج
|
نقطة أخرى أثارتها تصريحات الامير نايف في المقابلة
مع الصحيفة، وهي إعادة تأكيده على أن خطر الارهاب سيبقى
قائماً (طالما هناك من يغذيه في الخارج، ويسعى إلى استغلال
بعض أصحاب النفوس الضعيفة في الداخل بجهل منهم)، في محاولة
مكرورة لجهة دفع تهمة ضلوع الداخل في تشجيع التطرف وتغذية
الارهاب، وتسجيل التهمة ضد مجهول خارجي حيث قال (في العالم
لا نستطيع أن نحدد لكن..لابد أن هناك جهات.. وفي المملكة
لابد أن هناك أناسا ضعاف نفوس ليس لهم ولاء لله قبل كل
شيء ولا لهذا الوطن ولذلك قد يساعدونهم بمال أو توجيه)،
وإن كان الامير نايف خفّف لهجته بخصوص الدور التام والوحيد
للخارج، وقال (إن السلطات قبضت أخيراً على عدد ممن يدعمون
الارهابيين ويساندونهم من خلال جمع الاموال لهم إضافة
الى من يغذونهم بالافكار المسمومة الضالة ضد البلاد وأهلها).
نحن، إذن، أمام سابقة خطيرة قد تؤسس لأوضاع أمنية حالكة،
تمهّد لاطالة ذراع وزارة الداخلية في الحياة العامة، وتفتح
أفق التوتر على مدّيات بعيدة، وكأن الخيار الامني في التعاطي
مع القضايا المحلية بات محسوماً.
وفيما بدأت دول مجاورة (البحرين وقطر) مشروعها الاصلاحي
بالغاء محاكم أمن الدولة كمؤشر على نوايا صادقة في البدء
بمرحلة تسودها الشفافية والعدل، تلجأ وزارة الداخلية الى
ذات المؤسسة سيئة الصيت التي تنطوي على نذير شؤم ويطيح
بأية مزاعم في الاصلاح والشفافية والعدالة.
لقد إختار وزير الداخلية موضوع الارهاب كتدبير حمائي
لاضفاء مشروعية على إنشاء محكمة أمن الدولة، بما يجعل
إنتقادها أو الاعتراض عليها من قبل الحكومات الغربية الديمقراطية
التي تطالب بمزيد من الاجراءات الصارمة في الحرب على الارهاب
ممنوعاً، بما يجعل تشكيل هذا النوع من المحاكم جزءا من
تلك الاجراءات المسموح بها على غرار التشريعات التي يسنّها
عدد من الحكومات الغربية في مجال محاربة الارهاب وإن أدَّى
الى تآكل مجال الحريات العامة.
الاختباء خلف تشريعات الحرب على الارهاب باتت مقبولة
دولياً، وهذا يمثّل بداية حرب على الديمقراطية، في غياب
ضوابط صارمة على تشريعات تسوّغ تشديد قبضة الدولة واتساع
رقعة هيمنتها في المجال العام، وأن التساهل من قبل المؤسسات
الحقوقية الدولية إزاء المزيد من التشريعات فضلاً عن وضعها
حيز التنفيذ يعتبر تشجيعاً ضمنياً على الاستعمال المفرط
لقوانين تتجاوز مقاصدها الحقيقية. إن توحيد الجبهة العالمية
ضد الارهاب الدولي بأشكالها المتعددة لا يتم من خلال فرض
حزمة تدابير أمنية صارمة تؤدي في نهاية المطاف الى الحاق
أضرار فادحة بالحريات والمصالح العامة، مع الاجماع الصلب
على ضرورة قطع دابر الارهاب ومنابعه الفكرية والمالية.
في المقام الاول لتحليل إعلان الامير نايف عن اعلان
محكمة أمن الدولة أن دور لجنة المناصحة التي شكّلتها وزارة
الداخلية والمؤلفة من رجال دين وأمن تابعين للوزارة أخفق
في إحتواء خطر جماعات العنف، بالرغم من إعلان أعضاء اللجنة
بأن ما يربو عن 80 بالمئة من أفراد تلك الجماعات قد تم
تبديل قناعاتهم وأفكارهم الدافعة نحو التطرف، وأن من تبقى
في السجن لا يتجاوز قلة من القيادات التابعة لتلك الجماعات،
فيما تم الافراج عن عدد كبير من اعضاء التنظيمات المسلّحة
وجرى إدماجهم في المجتمع بعد دورات تأهيلية أشرفت عليها
وزارة الداخلية بالتعاون مع عدد من المشايخ السلفيين،
حيث خضع هؤلاء الاعضاء للاختبار للتأكد من تخليهم عن أفكار
متطرفة تشجّع على العنف، وتم منحهم معونات مالية وتزويجهم
وتوفير وظائف مناسبة لهم لتحقيق شروط الاستقرار النفسي
والاجتماعي والاقتصادي. يبدو أن هذه اللجنة، بحسب فحوى
إعلان إنشاء محكمة أمن الدولة، قد أخفقت في تحقيق المهمة
الموكلة اليها. وقد يعترض البعض على أن دور اللجنة لا
يتعارض مع اعلان انشاء محكمة أمن الدولة، وهو إعتراض مشروع
فيما لو كنا نتحدث عن قضيتين منفصلتين، فالانطباعات التي
خلّفتها تصريحات أعضاء لجنة المناصحة تفيد بأن قطع دابر
الارهاب بات وشيكاً، وما تبقى منه لا يشكّل تهديداً يستحق
اهتماماً بالغاً، فضلاً عن أن التعامل مع الجماعات الارهابية
لا يتطلب محكمة أمن دولة، باعتبار أن ثمة تسامحاً داخلياً
ودولياً إزاء الاجراءات القانونية والاحكام القضائية الصادرة
في حق المتورطين في عمليات إرهابية.. بمعنى آخر، أن هامش
الاستثناءات واسع بدرجة كافية ويسمح بإصدار أقصى العقوبات
ضد العناصر الضالعة في عمليات العنف ضد المصالح العامة،
بما لا يتطلب الاختباء خلف مؤسسة قضائية ذات طابع أمني.
في المقابل، وفي المقام الآخر للتحيل، هناك من يرى
بأن إنشاء محكمة أمن الدولة، يتجاوز موضوع الارهاب ويؤسس
لسياسة أمنية جديدة في الداخل بما يجعل إختصاصات محكمة
أمن الدولة مفتوحة ومطلقة في التعامل مع كافة القضايا
التي تندرج في سياق (أمن الدولة)، بما يدخل طائفة واسعة
من الفاعلين السياسيين ودعاة الاصلاح ونشطاء حقوق الانسان
ضمن مجال إختصاص المحكمة، طالما أن في مناشط هؤلاء ما
يعترض أو يشير الى ارتباطه بصورة أو أخرى بأمن الدولة.
يجدر الالتفات الى أن محاكم أمن الدولة، بالنظر الى
تجارب الدول التي إعتمدتها (الكويت والبحرين ومصر)، لا
تخضع للنظام القضائي، وتتميز بالسرّية والصلاحيات المطلقة،
وتبرر ذلك بكونها متعلقة بأمن الدولة، وفي الغالب فإن
الاحكام الصادرة عنها لا تخضع للاجراءات القانونية الروتينية
من مراجعة وطعن واستئناف، فأحكامها في الغالب قطعية وغير
قابلة للرد، وتكون مرتبطة بوزير الداخلية ورئيس الدولة
بصورة مباشرة، وحتى القضاة العاملون في المحكمة يمتثلون
من الناحية العملية وليس القانونية بأوامر وزارة الداخلية.
قد يبدو مستغرباً بعض الشيء وربما كثيراُ، أن يبادر
الامير نايف نيابة عن وزارة العدل بالإعلان عن إنشاء هذه
المحكمة، في عملية مصادرة مألوفة لحق هذه الوزارة، شأن
وزارات اخرى عديدة، في الاعلان عن مثل هذه المحكمة، ولكن
يختفي وجه الغرابة في بلد كالسعودية حيث تتمدد صلاحية
الأمراء الى حقول عدة واقعة خارج مجال إختصاصهم. بل إن
اعلان الامير نايف يخبر عن طبيعة المحكمة ودورها أيضاً،
مهما بلغ مستوى التطمين المزعوم في تصريحاته، حيث أن مثل
هذا التطمين يلفت الى حجم الهواجس التي يثيرها الاعلان
عن محكمة أمن الدولة، وإن مجرد زعمه بخضوع الاخيرة للقوانين
القضائية النزيهة والعادلة لا يغير من الهواجس شيئاً،
فما يرد من إنتقادات واسعة ضد النظام القضائي السعودي
ينسحب بنفس الدرجة بل أشد منها على التشريعات الناظمة
لسير عمل محكمة أمن الدولة.
مهما يكن، فإن اعلان الامير نايف عن هذه المحكمة بمثابة
رسالة خطيرة الى الداخل ويدق إسفيناً في مشروع الاصلاح
الذي يبدو أن الملك عبد الله قد حسم قرار التخلي عنه بصورة
نهائية، وقد نشهد في المرحلة المقبلة دوراً لمحكمة أمن
الدولة تطال أفراداً من خارج الجماعات الارهابية تحت مسمى
التعريض بالامن الوطني والوحدة الوطنية، فذمّة الامن تنبسط
على كامل تراب الدولة وتسع بحجم إتساع ذمتها.
يملي هذا التطور الخطير على دعاة الاصلاح و(التطوير!!)
الجأر بصوت مرتفع قبل أن ترى محكمة أمن الدولة الظلام
وليس النور، كونها ستعمل بصورة سريّة، وستقترف أبشع المخالفات
القانونية تحت مسمى الحرب على الارهاب وأمن الدولة كمتصاهرين
غير شرعيين. إن بدء هذه المحكمة سيمنح المؤسسة الامنية
التي يقودها وزير الداخلية ذراعاً طويلة ومطلقة في بدء
محاكمات سريّة تنتهي الى عقوبات غاشمة وقاطعة.
في حقيقة الأمر، أن هذا الاعلان يتناقض كلياً مع الوعد
الذي قطعه الملك على نفسه في خطاب العرش حين أعلن عن برنامجه
السياسي بإقامة العدل وتحقيق الانصاف، أو ما أعلن عنه
مستشاره خليل الخليل بأن السعودية في عهد الملك عبد الله
ستشهد دولة القانون. إن إنشاء محكمة أمن دولة في السعودية
هو بمثابة تأسيس لشرعة الفوضى القانونية، وأن ظل القانون
الغائب سينحسر عن جدران هذا النوع من المحاكم التي أخبرتنا
نظيراتها بأنها تفتقر الى رائحة قبل روح القانون.
في تجارب ضحايا محاكم أمن الدولة في البحرين والكويت
ومصر وغيرها علم مستحدث، فقد مثّلت تلك المحاكم تجسيدات
للقمع بكافة أشكاله، والظلم بكافه صوره، وأن أكثر من وقع
في قبضتها لم يخرج الا الى المقصلة أو الزنزانة الضيقة،
ففي داخلها يقف المتهمون فرادى لا تمثيل قانوني لهم، ولا
يتمتعون بأدنى حقوق الانسان المعترف بها في المعاهدات
الدولية، وليس أمامهم سوى خيار واحد وهو الاعتراف بالجرم
الذي قد لم يرتكبوه أو إرتكبوا أدنى منه بكثير فأملت عليهم
المحكمة الاعتراف بجرمهم وجرم من لحق بهم من الاولين والآخرين.
هذه المحكمة تعتبر أقصى أشكال الخروج على القانون،
حتى لا نغفل عن الاقترافات المتكررة للقانون من قبل المؤسسة
القضائية ممثلة في المحاكم التابعة لها. وأخطر من ذلك،
أن المحكمة تمثّل نوع من التواطىء شبه العلني بين جهازي
القضاء والامن، وهما المؤسستان اللتان بقيتا في دائرة
تهمة التواطىء منذ زمن بعيد، فكثير ما سقط العدل تحت حذاء
الأمن، وصدرت أحكام من الجهاز القضائي تحت تأثير إملاء
أمني. إن تطوّع الامير نايف بالاعلان عن إنشاء محكمة أمن
الدولة بالنيابة عن وزير العدل ليس إجراءاً اعتباطياً،
وإن بدا مستنكراً في دول القانون، فهو يؤكد على أن هذه
المحكمة ستكون تحت إشراف وسيطرة وزارة الداخلية وإن بدت
في ظاهرها جزءاً من وزارة العدل. وهنا ندرك خطورة ما تعني
إنطواء مؤسسة قضائية تحت رداء الجهاز الامني، حيث ستكون
الاحكام الامنية ممهورة بختم وزارة العدل! وستكسو التدابير
الامنية مسحة قضائية، وفي ذلك إبراءً لذمة وزارة الداخلية
التي ستلوذ على الدوام بالحجج السخيفة في إرجاع الاحكام
الى مصادرها الظاهرية، وأنها مجرد أداة تنفيذية للاحكام
القضائية.
في سياق هذا التطور الخطير، من المتوقع أن تشهد الفترة
القادمة تجاذبات حادة في ظل تداخل الصلاحيات وفورة حقوق
الانسان التي تشهد نمواً مضطرداً على الساحة الداخلية،
وفي الوقت نفسه المزاعم المتزايدة في تطبيق القانون، وتقليص
صلاحيات الامراء الكبار الذين باتوا يمارسون سلطات مطلقة
تفوق أحياناً صلاحيات الملك نفسه.
يجدر بجميع النشاطين الحقوقيين ودعاة الاصلاح أن ينظروا
بعين الريبة الى تصريحات الامير نايف حول انشاء محكمة
أمن الدولة، لأن تمرير هذه القضية بسلام تحت مسمى محاكمة
المتهمين بأعمال إرهابية ستفتح باب جهنم على مجمل القوى
السياسية الوطنية الطامحة الى الاصلاح والتغيير، وستكون
في يوم ما ضحية لهذه المحكمة التي ستعمل في الظلام وخارج
سلطة القانون، على ضعفه وابتذاله.
ثمة مسؤولية أخلاقية وحقوقية تقع على الدول الغربية
التي مازالت تواصل ضغوطها على الدولة السعودية من أجل
إتخاذ المزيد من التدابير القانونية والعملية لملاحقة
وبتر خطوط الارهاب في الداخل والخارج، أن تدرك بأن ضغوطها
قد تمنح السلطات الامنية السعودية مشروعية لسنّ تشريعات
ذات طبيعة انتقائية ومجتزئة تؤول الى الاضرار بالحريات
العامة، وإستعمال موضوع الارهاب مشجباً لملاحقة كافة الاشخاص
الذين يتم تصنيفهم ضمن موضوع الاخلال بالامن الوطني وتهديد
الوحدة الداخلية أو المساس بأمن الدولة كمرادفات لموضوع
الارهاب.
|