محاولة لتفسير توقف دعوات التغيير والإصلاح في السعودية
الظرفيّة السياسية مظهرٌ للخلل ومصدرٌ للعطب!
الإصلاحي أبو الشيماء: أين تتجة السفينة؟
|
ما أسرع ما ظهرت، وما أسرع ما انخمدت، دعوات الإصلاح
والتغيير في المملكة.
الدعوات الى الإصلاح كانت محتبسة بل مختنقة في صدور
بعض المثقفين الإصلاحيين، فكانت تنتظر المناخ لانطلاقها.
هكذا كان الحال بداية التسعينيات عشية احتلال النظام
العراقي للكويت وتواجد نحو نصف مليون جندي أجنبي على أراضي
السعودية. وهكذا كان الحال عشية تفجيرات 11/9 وما تلاها
من عنف دموي في السعودية، خاصة عاصمتها الرياض.
اقتناص الظرف عمل سياسي بلا شك، والإصلاح المنشود يفترض
ان يقتنص الظرف ويبني عليه لا ان يتوقف عنده. الظرف هو
الإبرة التي تثقب وتنتهي الحاجة منها، وهو الصرخة التي
تكسر عالم الصمت، لتتلوها صرخات وصرخات. أي ان الظرف يفترض
أن يشير الى بداية الانطلاق لا الى نهايته بالضرورة، وإلا
أصبح العمل السياسي الوطني (موسمياً) تتلاعب به الظروف
المتغيرة بدل أن يقتنص الإصلاحيون تلك الظروف لصالح مشروعهم
الإصلاحي. هذا لا يعني بالطبع أن تغير الظروف غير مؤثر
في مسيرة اي عمل اصلاحي تغييري، فالظروف السلبية يفترض
ان لا توقف الإصلاحيين عن نشاطهم بل أن يحاولوا الالتفاف
عليها وتقليل سلبياتها، ولكن ليست كل الظروف سلبية، فهناك
ظروف ايجابية تأتي ضمن مسيرة العمل، يفترض أن تلتقط وتوظف،
وهناك ظروف يحاول النظام كما الإصلاحيون الإستفادة منها
بصورة من الصور أي انها قابلة للتوظيف المشترك، وهنا تظهر
مدى قدرة الدعوة الإصلاحية وحكمتها في العمل التغييري.
لكن الاعتماد على الظرف السياسي او الإجتماعي وحده
لا يصنع حركة مستمرة، ولكن قد يعوقها أو يضيف اليها زخماً.
إن دوافع التغيير والإصلاح لا تكمن في الظرف المؤاتي ذاته،
وإنما في الشعور الداخلي لدى المواطنين ومدى احساسهم بالقلق
على حاضرهم ومستقبلهم، ومدى معرفتهم ووعيهم بحالهم، ومدى
شعورهم بقدرتهم على النهوض في مواجهة الأوضاع السيئة التي
تلمّ بهم، وبثمن التصدّي الواجب عليهم دفعه لكي يصطلح
حال الوطن. الظرف المحلي هو محصلة نتائج وسياسات تبلور
مناخاً لانطلاقة العمل، وقد يكون محصلة لظرف خارجي او
الإثنين معاً (كما في أحداث سبتمبر).
ولذا فإن استراتيجية العمل الإصلاحي تقوم على قراءة
الظرف والإستفادة منه والإنطلاق به لصناعة ظرف آخر له
ديناميكيته الخاصة التي يتحكم ببعض مفاصلها ـ على الأقل
ـ دعاة الإصلاح أنفسهم.. لا أن يتم التوقف عند أصل الظرف
الأولي الذي سريعاً ما يتغير. بمعنى آخر، فإن اي حركة
تدعو للإصلاح تستفيد من الظروف المحيطة بها التي يصنعها
النظام بسياساته او يصنعها الظرف الدولي والإقليمي، ولكن
من أجل أن تصنع هي واقعها الخاص بها، أي تصنع ظرفها التي
تشكله بنفسها من خلال انطلاقتها الأولى على ظروف يتحكم
فيها صانعوها.
والحركة الإصلاحية في المملكة سواء في بداية التسعينيات
الميلادية الأخيرة أو بداية الالفية الجديدة، حاولت الإستفادة
من الظرف ولكنها توقفت عنده فظهرت تغيرات في الظرف الأصلي،
وتعطلت المسيرة. الحركة الإصلاحية في المملكة لم تستطع
خلق واقعها الخاص بها، ومحيطها الذي تنتعش فيه ويضمن لها
الإستمرارية، عبر نقل المواطنين من ظرف سياسي صنعه غيرها
الى ظرفها الخاص بها، وهي نقلة تتطلب جهداً ووعياً كبيرين.
هذا قد يفسر لنا جانباً من أسباب توقف الحركة الإصلاحية
في المملكة.
لنلاحظ أولاً، أن نواة الحركة الإصلاحية التي بدأت
بعد احتلال صدام للكويت، جاءت من التيار الليبرالي، الذي
ما كاد ينطلق ببعض بيانات او عرائض تعدّ، حتى التقط الخيط
التيار السلفي، وفجّر معركته على قاعدة مذكرة النصيحة
التي لا تمثل توجهاً اصلاحياً بقدر ما تمثل توجهاً رجعياً
يريد المزيد من أسلمة الدولة والمزيد من السلطات للتيار
السلفي نفسه، وإبعاد ما عداه. يومها توقف الإصلاحيون،
ليصبحوا فريقاً من المشاهدين على معركة بين النظام وبين
بعض توجهات التيار السلفي، وقد استمرت مراقبتهم طويلاً
أقعدتهم عن الحركة، ونُسي الإصلاح، ربما لأن البعض رأى
أن ما يجري (فخّار يكسّر بعضه!) والبعض الآخر رأى ربما
في معركة النظام معركته، فإذا كان غير قابل بالوضع الحالي،
فكيف يقبل بأن يأتي ما هو أسوأ منه على يد السلفيين المتطرفين
أنفسهم.
ومرّت الفرصة وضاعت بتوقف الفعل وتغير الظرف، واستفرد
النظام بالسلفيين فأودعهم السجن، وبينهم أفراد انتقلوا
فيما بعد الى الرصيف الآخر بقراءة أكثر وعياً ونقصد من
هؤلاء الدكتور الحامد، ومجموعته.
ولنلاحظ أن بداية الإنطلاقة الأخيرة لدعوات الإصلاح
كانت بعيد أحداث 9/11 التي شارك فيها متطرفون سعوديون
يتبعون القاعدة، والذين صنعوا بفعلتهم مناخاً محلياً ودولياً
يدعو للإصلاح في المملكة، فالأميركيون من جهة مارسوا ضغوطاً
على السعودية، ولم يتوان البعض عن الدعوة الى قصف حتى
الكعبة، وبعضهم طالب بتغيير النظام السياسي القائم لأنه
يعضد الوهابية المتطرفة وينشرها في كل مكان من العالم،
أي أنه بصورة من الصور يصدر الفكر الإرهابي والشباب الإرهابي
والمال أيضاً. وكان هناك في المقابل في داخل المملكة شعور
بأن سياسة العائلة المالكة الخاطئة قد توقع البلاد في
مزالق وحروب وقد تتقسم البلاد وتتشظّى، وكان هناك الكثير
مما يجب إصلاحه في مضامير السياسة والإقتصاد والدين والتعليم
والقضاء والمرأة وغيرها، ولكن النقطة شديدة التأثير كانت
تتمحور حول التراجع الإقتصادي الذي يعيشه المواطن الذي
لا يجد وظيفة ولا مقعداً في الدراسة. وبدأ المواطنون يتحدثون،
فما أصعب أن لا تكون هناك لقمة عيش كريمة!
المناخ هذا، عشية أحداث سبتمبر، أخذ بالتبدل شيئاً
فشيئاً لصالح العائلة المالكة، ولم يأتِ دفعة واحدة، ولازال
ذلك الظرف في حالة تغير وتبدل وإن لم يجد من يستثمره من
الإصلاحيين بعد.
قادة الإصلاح: أين البقية؟
|
الحكومة راهنت على علاقاتها بأميركا، وسعت لإرضاء الأخيرة
بكل وسيلة ممكنة، ونجحت الى حدّ كبير. كان النجاح قد اعتمد
على تغيرات في الظرف الأصلي لم يستفد منها الإصلاحيون:
1 ـ حدث تغير في داخل المملكة من جهة أن العنفيين التكفيريين
أصبحوا يتقصدون الأجانب ولكنهم لم يتقصدوا أحداً من آل
سعود. هنا أخذت الحكومة تلك الأفعال الى واشنطن كدليل
على براءتها من تمويل ودعم الإرهاب، وأعلنت استعدادها
ـ بعد أن امتلكت المبرر ـ أن تدخل ضمن المشروع الأميركي
الجديد في مكافحة الإرهاب الاسلامي، بعد أن انتهى دورها
في (مكافحة الشيوعية). في حين أن الحقيقة تقول غير هذا،
الحقيقة تقول بأن ما جرى في السعودية من تفجيرات إنما
هو نتاج السياسة الخاطئة التي اعتمدتها الحكومة السعودية
ـ والتي لم تكف عنها حتى اليوم ـ بانحيازها الى رؤية مذهبية
متطرفة منغلقة ودعمها بلا حدود. التفجيرات في السعودية
كان يمكن أن تُستثمر كدليل (إدانة) للعائلة المالكة لا
دليل (براءة) فهي (المجرمة) ولم تكن في يوم ما (الضحية).
الذي فعله الإصلاحيون خطأ، ليس في إعلان وقوفهم ضد
العنف، بل لجهة وقوفهم مع العائلة المالكة نفسها في خندق
واحد ضد العنف، والفارق بين الإثنين واضح. في الأول أنتَ
تدين العنف ومن سبّبه وأدى الى انفجاره بوجه صنّاعه من
آل سعود. وفي الموقف الثاني أنتَ تقف الى جانب آل سعود
باعتبارهم (ضحايا) ذلك العنف الأعمى، وتبرئهم من مسؤولية
صُنعه واستخدامه ضد الآخرين قبل أن يرتدّ عليهم. هنا يكون
موقف العائلة المالكة معزّزاً، فالإصلاحي في هذه المعادلة
السياسية أضعف، حتى وإن قال بأن العنف لا يفيد معه الأداة
الأمنية وحدها، بل الأداة السياسية (في إشارة الى ضرورة
الإصلاح السياسي). وبعد أن أخذت العائلة المالكة مشروعية
مواجهة العنفيين وتقوّت بالشارع بمختلف توجهاته، بمن فيه
رموز الحركة الإصلاحية، عادت وارتدت على هؤلاء الأخيرين
واتهمتهم بأنهم يقفون الى جانب العنف والإرهاب!
اللعبة اللاأخلاقية التي قامت بها العائلة المالكة
كانت هكذا، وعلى هذا الأساس اعتقل الإصلاحيون، وعلى أساس
مكافحة العنف وأولويته على غيره من القضايا جرى تبرير
أن الأنظار يجب أن تتجه الى (الالتفاف حول القيادة) وأن
لا إصلاح سياسي قبل القضاء على الإرهاب. هكذا تحولت العائلة
المالكة، حليفة الإرهاب ومصنعته، وداعمة رموزه الوهابية
المتطرفة، الى موقع النقيض، وبدل أن تحاسب على ما فعلته
في الماضي صارت هي من يحاسب غيرها بالباطل ويستخدم أوراقه
بصورة خبيثة كاذبة.
كان بإمكان الإصلاحيين أن يفعلوا ذات الامر: أن يتهموا
العائلة المالكة وأجهزتها الرسمية المباشرة بأنها تدعم
الإرهاب. ولديهم ألف دليل ودليل على ذلك، بما فيها عشرات
المقالات التي كانت تسطر في الصحف المحلية نفسها. فالتطرف
الذي اكتشفناه بعد أحداث 11/9 لم يفارق المملكة منذ تأسيسها،
وكان عهد فهد، هو عهد (تسمين) التطرف والمتطرفين وتمكينهم
من جهاز الدولة ومساعدتهم على القيام باعمال عنف خارج
حدود السعودية.
نقول كان بامكان الإصلاحيين أن يقولوا بأن العائلة
المالكة يجب أن تحاسب، أو على الأقل يجب أن يطلب منها
بأن تعيد النظر في مواقفها تجاه الموقف من المتطرفين فكرياً
وعنفياً، وأن تبني سياسات جديدة، وأن تعلن على الملأ خطأها.
فحتى الآن، تنصب الإتهامات على العنفيين أنفسهم وعلى المشايخ،
دون المساس بالذوات المقدسة (آل سعود) التي سلمتهم الدولة
واجهزتها، وخصصت المليارات لنشاطاتهم الداخلية والخارجية،
ودافعت عنهم في كل محفل.
كان بإمكان الإصلاحيين أن يقولوا بأن العنف من نتاج
سياسة العائلة المالكة، وأن 11/9 كما تفجيرات الرياض وغيرها
خرجت من عباءتها.. وأن ادانة العنف تعني ادانة الذين رفدوه
بالأمس القريب والذين لم يصدقوا بعد أن سعوديين هم من
قاموا بتفجيرات نيويورك (ظل نايف يقول ذلك حتى بعد عامين
من وقوع الحدث). كان بامكان الإصلاحيين، ان يوجهوا غضب
الشارع على آل سعود وعلى حلفائهم المتطرفين التكفيريين
(خاصة وأن عدد آل سعود عشرين ألفاً لم يصب منهم أحد حتى
الساعة بأذى، فما معنى هذا؟)، وكان بإمكانهم أن لا يقفوا
مع الحكومة قبل أن تكفر عن فعلها بوعود قاطعة وأجندة واضحة
للإصلاح السياسي الذي يفترض فيه أن يقضي على جذور العنف
والكراهية والتكفير. كأن يقولوا بأن العائلة المالكة أخطأت
ونحن نقف معها في حال: أعلنت خطأ سياستها ومنهجها السابق؛
وفي حال أعلنت أجندتها الإصلاحية تكفيراً عن خطئها!
لأن الإصلاحيين كانت تحكمهم معايير أخلاقية في الممارسة
السياسية، اضافة الى الخوف من قبضة آل سعود الأمنية، اتخذ
خطابهم جانباً مختلفاً ووقفوا مع الاخيرين الذين لا يلتزمون
بمعيار أخلاقي في السياسة. ودليلنا الصارخ على ذلك، هو
أن البيانات والكتابات والتصريحات والعرائض المتعددة التي
قدمها الإصلاحيون علنيا وصارت في متناول الجميع، والتي
تؤكد كلها على (الوقوف الى جانب القيادة في مواجهة العنف)..
هذه الأفعال كلها رغم وضوحها، فإن العائلة المالكة ـ ممثلة
في نايف وزير الداخلية ـ كان لديها الجرأة بل الوقاحة
والصلافة لتعتقل رموز الإصلاح وتزج بهم في السجن وأن يأتي
دعمهم للإرهاب في مقدمة مواد الإتهام. هذا والمواطنون
حاضرون شاهدون على الباطل السعودي، ولكن لأننا لا نتحاكم
الى قاعدة أخلاقية، فآل سعود طلاب حكم وليسوا طلاب حق
أو حقيقة أو أخلاق.
يبندر لبوش: الإصلاحيون ضد أميركا!
|
المثال الآخر المهم في هذا الإتجاه، أن الكتابات وما
احتوته العرائض والمقالات كلها كانت تشير الى اتجاه حاد
ضد الولايات المتحدة الأميركية التي أسقطت للتو حكم الطالبان
ومن ثم نظام صدام حسين. ولا يخفى أن انتماءات الإصلاحيين
السياسية (المتدينون والقوميون واليساريون) هي ضد الأميركان،
لدرجة أنهم أصدروا بيانات منفصلة تدين التدخل الأميركي
في هذا البلد أو ذاك، وهو أمرٌ ليس من شأنهم المباشر،
خاصة وأنهم يصارعون نظاماً حليفاً ومدعوماً من اميركا.
قال الإصلاحيون بأنهم ضد تقسيم المملكة، وضد الإصلاح الآتي
من واشنطن، ورفضوا الإلتقاء بالسفير الأميركي في الرياض،
ومع هذا كله، يأتي في مقدمة الإتهامات لهؤلاء المعتقلين
أنهم مرتبطون بجهات أجنبية، أميركية، أي أنهم عملاء!
ومن جانبها تقوم السفارة السعودية في أميركا، وبعض
الأيدي الخفية في الرياض، لتزود السفارة الأميركية هنا
في الرياض والخارجية الأميركية هناك في واشنطن، بكل الأدبيات
التي تتضمن شتيمة من قبل الإصلاحيين السعوديين ضد أميركا
وسياساتها، بغرض أن يقولوا لهم: هل تريدون تغييرنا لصالح
هؤلاء الذين يكرهونكم؟!
هذا النفاق الذي اتبعه آل سعود: اتيان المنكر واتهام
الاخر به، لم يقم به الإصلاحيون. هؤلاء لو اتهموا آل سعود
بالعمالة للأميركان او للغرب بمجمله ما أخطأوا!
وهل جاء ال سعود الى الحكم بغير دعم بريطانيا؟
وهل استمروا بغير حمايتها وحماية الأميركان؟
الم تكن السعودية الحليف الأكبر لأميركا، قبل احداث
11/9، فكيف انقلبت فجأة الى عدو أميركا؟
لقد بقيت وصمة العمالة للغرب ثابتة في جبين آل سعود
منذ فجر تأسيس الدولة السعودية نفسها، وإذا بآل سعود أنفسهم،
وفي لحظة كذب يتحولون الى أعداء أميركا، ويتحول عدوهم
الى عميل أميركي!
ربما لم يكن الإصلاحيون يدركون المدى الذي يمكن أن
يذهب اليه النظام في مزاعمه وفي بطشه، مع أن معظم الإصلاحيين
الذين اعتقلوا فيما بعد قد جربوا من قبل سجون آل سعود
سنوات وسنوات. لكنهم فيما يبدو لم يتوقفوا عند الهامش
المناوراتي الذي يمكن أن تصل اليه لعبة الإصلاح في مملكة
آل سعود.
2 ـ حدث تغيّر في العلاقات الأميركية السعودية، فقد
تحسّنت العلاقات بسبب تغيّر ثلاثة أمور: الأول ناقشناه
ويتعلق بانفجار العنف داخل السعودية، الأمر الذي أدّى
الى تخفيف الضغوط الأميركية، واعتبار مكافحة الإرهاب في
مقدمة الأجندة وليس الإصلاح السياسي. الأمران الآخران:
هما تعقد وضع الأميركيين في العراق، وازدياد الحاجة الى
المخزون النفطي السعودي في تخفيف حدة ارتفاع اسعار النفط،
وكذلك الحاجة الى اعادة تدوير أموال النفط (البترودولار).
في الموضوع العراقي، بدا أن الملف العراقي منذ ابتدائه
ملتهباً في غير صالح السعوديين، وانتهى بأن الحرب الأهلية
(التي كان للوهابية المتطرفة والوهابيين السعوديين) الدور
الأكبر في ان تصبح قريبة من الأبواب. المسألة يمكن أن
تبحث هكذا: كان وجود القوات الأميركية على ابواب السعودية،
ودول أخرى، مخيفاً أن يتكرر لديها، وبالتالي كان يمكن
أن يكون محفزاً للوضع السياسي من أجل التغيير. فالخشية
من التدخل الأجنبي بحجة مكافحة الإرهاب، او معاقبة السعودية
مصدرة الإرهاب، أو تقسيم السعودية بأية حجة كانت، كان
يمكن أن تدفع الى تصليب الوضع السياسي المحلي، وهو أمرٌ
لا يمكن حدوثه بدون اصلاح داخلي وتنازلات سياسية تقدمها
العائلة خاصة في المجال السياسي.
كان الإصلاحيون السعوديون واعين لهذا الأمر، ولعلنا
نشير هنا الى دراسة الإصلاحي الدكتور متروك الفالح: السعودية
في ضوء احداث 11/9: الإصلاح بوجه التقسيم والإنهيار..
تلك الدراسة كتبت قبل ان تنطلق الحركة الإصلاحية بزخمها
المعروف بأشهر عديدة. الخطاب الإصلاحي في الموضوع العراقي
كان قاصراً ايضاً:
فقد انشغل بتفاصيل الوجود الأميركي، والإعلان المفتعل
بمواجهته والوقوف ضده، ولم يلحظ الإصلاحيون حقيقة أن المهم
ليس توسيع المعركة على مدى العالم العربي (بالكلام) بقدر
ما يهم الإهتمام بنتائج ذلك الوجود وما يترتب عليه من
جهة الجانب السعودي. شئنا أم أبينا، فإن ضعف الأميركيين
في العراق، يعني تقليص الضغط على العائلة المالكة السعودية،
وهذا يعني تأجيل الإصلاحات. ذلك لأن العائلة المالكة،
لا تعير بالاً للوضع المحلي إلا بلحاظ (الخارج الأميركي
والغربي). فهي ترى نفسها قادرة ـ وحسب المعادلات الأمنية
ـ على قمع كل التحركات وبأية حجة دينية او سياسية او غيرها.
ولكنها تخشى دوماً من ارتباط (العامل المحلي السعودي)
بـ(العامل الإقليمي، والدولي على وجه الخصوص). فالسعودية
كدولة، وآل سعود كحكام لها، إنما قامت وقاموا على اقتناص
ظروف اقليمية ودولية، رجحت كفتهم مقابل القوى السياسية
الأخرى (الاشراف في الحجاز والرشيديون في حائل والشيعة
وغيرهم في الشرق والجنوب). ولذا فآل سعود يصيبهم الهوس
بمجرد الشعور غير القائم على أدلة بشأن ارتباط النشاط
الإصلاحي بالخارج (خاصة اذا كان غربياً اميركياً).
نايف: الإصلاحيون عملاء للخارج ويدعمون الإرهاب!
|
نتائج الوضع في العراق لم تكن من صنع غير الأميركيين
بالدرجة الأساس. لكن الإصلاحيين أخطأوا حين اعتبروا ما
يجري في العراق قضية توازي قضيتهم المحلية، وحتى لو كان
هذا الشعور صحيحاً وغير معيباً، فإنه من الخطأ الإعلان
عنه، لأنه يصب في مصلحة آل سعود أنفسهم الذين شعروا بالإطمئنان
الداخلي بدون أن يقدموا على أية إصلاحات جادّة، وزاد آل
سعود في استثمار تماثل المواقف حيث زايد الإصلاحيون على
آل سعود (في كره الأميركان)، فكانت النتيجة ليس ضربهم
فحسب، بل ضربهم بعصا (العمالة لأميركا)!
آل سعود من جانب آخر، أوحوا للأميركيين بأن لهم أوراقاً
يلعبونها في العراق لصالح استقراره! وكان الأولون بحاجة
الى أي عون ينقذهم من مأزقهم، في حين كانت جموع التكفيريين
وأموالهم تنطلق من السعودية بتغاض حكومي لتشعل النار في
المساجد والشوارع العامة والأسواق والمؤسسات والمنشآت
الخدمية العراقية. وحين تأكد آل سعود من أن أميركا لن
تتدخل في بلد آخر، أو ليس لها القدرة على فعل ذلك، كشروا
عن أنيابهم في الداخل، وسحقوا هامش الحرية المتغاضى عنه
في الإعلام، واعتمدوا كلمة (التطوير) بدل (الإصلاح) في
دلالة واضحة على أن شيئاً من الإصلاح السياسي لن يحدث.
وها نحن لا نسمع أي شيء (حرفياً لا شيء) عن أي اصلاح سياسي
في المملكة: لا من جهة انتخاب المجلس الوطني ـ الشورى،
ولا مجالس المناطق، ولا دستور سيوضع، ولا حتى الإنتخابات
البلدية صار لها أي قيمة بعد تأخير دام عاماً كاملاً اعقب
الإنتخابات تلك!
الأمر الآخر المتعلق بالإقتصاد لا يحتاج الى شرح طويل،
فالولايات المتحدة كانت تؤمل أن يخفف النفط العراقي والمخزون
الهائل منه الى تقليص الإعتماد على السعودية ودول أخرى،
التي بدأت تظهر وكأن صلاحيتها في الحلف الأميركي قد انتهت.
لكن الإضطراب في العراق، وارتفاع اسعار النفط غير المعادلة.
وها نحن نشهد اليوم من جانب السعوديين تصريحات وأفعال
تتعلق بضخ أكبر كمية ممكنة من النفط في محاولة للسيطرة
على الأسعار، ولسان حالهم يقول: لازلتم بحاجة الينا، ونحن
لازلنا أصدقاء أوفياء لكم. ومن جهة ثانية نرى انعكاساً
للأموال المتوفرة بيد السعوديين حيث نجد طوابير الرؤساء
الغربيين ووزراؤهم في الرياض، كلٌّ يطلبُ حصّته من البترودولار!
عبر صفقة أسلحة أو صفقات من نوع أخرى أو غير ذلك.
الإنعكاس الاخر لأسعار النفط كان محلياً، وقد حوّل
الوضع الداخلي أيضاً بصورة من الصور، فبمجيء عبدالله كملك
للبلاد، ضخّ الكثير من المال المباشر الى جيوب المواطنين
(زيادة الرواتب) وحاولت الحكومة لتجنب الإصلاح السياسي
والتدشين للملك الجديد تخطي عوائق التعليم (المقاعد) عبر
الإبتعاث المكثف (5000 بعثة كل عام، كما أُعلن)، فضلاً
عن أن وزير العمل بذل جهوداً كبيرة لمحاصرة العمالة الوافدة،
وإقحام السعوديين في ماكنة العمل. أضف الى ذلك ان سوق
الأسهم السعودية كانت في حالة انتعاش دائم في العامين
الأخيرين أخذت بعقول المواطنين عن كل شيء عداه، فكانت
بمثابة (خزّان الإغواء)، والبطة التي تبيض لكل مواطن ذهباً
بدون جهد.
فإذا علمنا أن القضية السياسية في المملكة كانت في
جانب كبير منها انعكاس للوضع المتردي الإقتصادي وغيره،
نعلم أن الحكومة حققت اختراقاً أولياً في هذا الجانب الى
حد إعادة عدد من المجاميع الى حيث (العَلَفْ!) اي اشغالهم
بقوت يومهم وجمع المال تعويضاً عما فات، في ظل ترويج لطفرة
اقتصادية مماثلة لتلك الطفرة التي حدثت في السبعينيات
الميلادية الماضية والتي استمرت نحو عشر سنوات.
تحسّن الأداء الحكومي بفعل أموال النفط، وشراءها ذمم
الدول الغربية حتى لا تشير عليها مجرد الإشارة بالقيام
بإصلاحات سياسية، هو تحدّ لاي حركة اصلاحية. فمن الجيد
ان يتحسن وضع المواطن اقتصادياً، واذا حدث ذلك، كان على
الإصلاحيين (وإن كانت رموزهم مغيبة في السجون) أن يركزوا
على الفقراء والمعدمين، وهم كثر، ولا يجب أن ننسى أن الطفرة
الأسهمية النفطية لم تلغ حالة الفقر، ولكن كل انجاز يتحقق
يفترض ان يدفع بالإصلاحيين الى مكان آخر فيه خلل ونقصان.
وقد كانت هناك انتكاسات وأخطاء للحكومة لم تستثمرها الدعوة
السياسية الإصلاحية في المملكة، وهناك الكثير قادم يمكن
الإستفادة منه. بمعنى آخر، لا تعدم أية حركة تدعو للإصلاح
الى مبررات، حتى وإن تغير الظرف باتجاه آخر، فالأوراق
كثيرة ـ وعلى اللاعب السياسي الفطن ان ينتبه لها.
ماذا كان موقف الإصلاحيين من موضوع سوق الإسهم وانهياره
السابق أو الآتي الأكثر ظلمة؟
ألم يكن يمكن ان تكون لهم كلمة في هذا، وموقفاً تواجه
به النخبة الحاكمة التي قضت على كثير من مدخرات مواطنيها
وصلت في بعض الأحيان الى 70% منها (تريليون ريال/ الف
مليون ريال كانت الخسارة في شهر واحد)؟
ألم يكن العنف المحلي المستمر، كحادثة بقيق وغيرها،
دلالة اخرى على أن الوضع الأمني مازال مضطرباً، وأن الحل
السياسي ضرورة؟
الا يزال التطرف الوهابي يعصف بتراث البلاد وتراث المسلمين،
ويخنق المجتمع؟ وهل ما حدث في معرض الكتاب عن أذهاننا
ببعيد؟
ألم تسلح العائلة المالكة التيار السلفي بأسلحة جديدة
في مقابل دعاة الإصلاح، ألا نرى نشاط هيئة الأمر بالمعروف
كيف تضاعف وتجاوزاتهم ازدادت؟ ألا نرى طغياناً للحضور
السلفي في القنوات التلفزيونية السعودية؟
ماذا يعني كل هذا لحركة تدعو الى الإصلاح؟
الأوراق كثيرة لمن يريد استثمارها ليصنع منها ظرفاً
ينطلق منه ولا يتوقف عنده.
والخلاصة أن الحركة الإصلاحية الواعية لا يخنقها الظرف
الذي لم تصنعه، وهي التي تنطلق من ظروف صعبة لتصنع لها
ظرفاً خاصاً بها يحقق لها النمو والإستمرار، عبر نقل الشارع
من مرحلة نضالية الى أخرى.
|