تمهيداً لقيام الدولة السديرية
رمـزيـة الـمـلـك فـي الـمـيـزان
سباق المسافات القصيرة يوشك أن يستبدل بسباق آخر بعد
أن أنهكت الطموحات الفارطة في مثاليتها للملك عبد الله
مخزون المبادرات المرجوة للخروج بصورة مشرقة أمام شعب
فقد البقية الأخيرة من ثقته في أن تنجب العائلة المالكة
رجلاً يحفظ للرعية كرامتها وعزّها.
الملك عبد الله: يصول بيد جذّاء
|
ومنذ بدأت معركة التجاذب بين الملك والثالوث السديري
(سلطان ونايف وسلمان)، باتت التشوّهات تصيب الطرفين بفعل
طبيعة الموضوعات الخلافية بينهما وانعكاساتها على الشارع،
فالتسريبات المتواصلة من مصادر مقرّبة من العائلة المالكة
حول معركة التجاذب تنبىء عن أن هناك نوايا مبيّتة لدى
كل طرف من أجل تقليص نفوذه وإن تم استعمال أدوات غير نزيهة.
مصادر مقربة من جناح الملك تشير الى أن الثالوث السديري
قد قرر العبث بالمخيال الشعبي الذي ساهمت حاشية الملك
في تصميمه كيما يكون مؤهلاً لصناعة الزعيم. تشير تلك المصادر
الى أن المناكفات السديرية أخذت وتيرة تصعيدية في الشهور
الماضية بعد أن شعر الثالوث بأن الملك يخطط لكبح التغوّل
السديري في جسد الدولة، وتقريب جهات من خارج العائلة المالكة
من أجل فتح الطريق أمام مشروع الاصلاح.
وبالرغم من استجابة الملك لبعض شروط الثالوث في موضوع
التشريعات الاصلاحية، الا أن الجناح السديري بات يؤسس
لوضع بالغ الخطورة من شأنه إحداث خلخلة في مكانة الملك
عبد الله الذي يستنزف طاقته في الاحتفاظ بتلك المكانة.
قد لا تحمل التفاصيل دلالة معينة حين يتم قراءتها بالمفرق،
ولكنها بالتأكيد تعني شيئاً كثيراً حين توضع في سياق عام
وجمعي. على سبيل المثال، قد لا تعكس فشل صفقة طائرات رافال
الفرنسية، رغم الاستعدادات الضخمة التي بذلها الجانب الفرنسي
من أجل الفوز بها، خلافاً داخل العائلة المالكة، ولكن
حين يعلن الامير سلطان عن صفقة عسكرية ضخمة مع بريطانيا
أو حين تتحدث مصادر عن اتفاق بين الامير سلطان والاميركيين
على عقد صفقة بديلة يصبح الأمر ذا دلالة هامة، تماماً
كما أن غياب الامير سلطان عن حفل توديع الرئيس الفرنسي
شيراك قد لا يكون مثيراً، ولكن أن تكون رحلة استجمام في
المغرب مانعاً من الحضور يكون الأمر مريباً.
جملة حوادث تترى في السياق نفسه، لا تتوقف عند فصل
العواجي والوزير القصيبي ولا الحملة المنظّمة ضد وزير
الاعلام إياد مدني، والتي كان لوزير الداخلية الأمير نايف
يد مباشرة في مجرياتهما، بل هناك من يشير من طرف خفي الى
دور خطير يلعبه الثالوث في المواقع التي يحاول أن يكون
الملك عبد الله متميّزاً فيها. فبعد البشارة التي حملها
قراره بدعم سوق الاسهم بعد أول نكسة أصابت هذه السوق في
الشهر الفائت والتي على إثرها أعلن الامير الوليد بن طلال
ضخ عشرة مليارات ريال في السوق، واصل مؤشر السوق في الهبوط
محدثاً ما يشبه كارثة إجتماعية لحقت أضرارها بمكانة الملك
عبد الله، مما حدا بالبعض للقول بأن ثمة مؤامرة تحاك ضد
الملك من قبل الثالوث السديري الذي يدير لعبة في الخفاء
في سوق الاسهم عبر لافتات وأسماء أخرى وهم المسؤولون عن
إنهيار سوق الاسهم.
وفيما يحاول البعض تبرير ما يجري، يوجّه آخرون انتقاداتهم
الى ضعف دور الملك الذي لم يأخذ من القرارات الحاسمة ما
يكفي لوضع حد لمسيرة التدهور، وأن مبدأ (المكرمة الملكية)
ليس من قوة التأثير بدرجة الكافية بما يحول دون انفجار
السخط الشعبي. فتخفيض أسعار الوقود يغمره الانهيار الكارثي
لسوق الاسهم التي التهمت نيرانها أموال قطاع كبير من المضاربين،
بحيث بلغ حجم القروض المترتبة على ثلاثة ملايين مستثمر
ما يربو عن 200 مليار ريال حسب الاحصائيات المعلنة مؤخراً.
فزيادة الرواتب بنسبة 15 بالمئة وتخفيض الوقود بنسبة 30
بالمئة لم تكن كافية لتعويض ما يقرب من 75 بالمئة من الخسارة
الحاصلة في سوق الاسهم.
كل الذين تحدّثوا عن إمكانيات القوة الهائلة التي يتمتع
بها الاقتصاد المحلي أشاعوا جواً إيجابياً في الداخل،
ولكن بعضهم تردد في وضع اعتبار ما للقوة الخفية القادرة
على تخريب معادلة السوق. يتحدث البعض الآخر عن أشباح مندسّين
داخل السوق وهم وراء وقوع الانهيارات المتتالية عبر صفقات
مشبوهة يعقدونها بالتوافق. ليس هناك من تجرأ وأفشى أسماء
المتورّطين في السوق، ولكن الاتفاق منعقد على أن هناك
من يحاول إحباط مفعول القرارات المالية والاقتصادية التي
يصدرها الملك.
الخلاف بين الملك والثالوث السديري يترك آثاره دونما
بصمات واضحة، ولكنه خلاف يتحرك في مواقع عدة، ويعكس نفسه
في مجالات مختلفة. فالصورة المثالية للملك عبد الله تتعرض
الآن لعملية تهشيم، تعيده الى المعسكر التقليدي للعائلة
المالكة، وتبقي على العاديّة المتوارثة للحكام السعوديين،
أي بمعنى آخر تقويض تلك (البطولية والريادية) التي سبقت
وصوله الى العرش وحاول تعزيزها بعد تتويجه ملكاً على البلاد.
حادثة عرضية ولكنها لافتة.. ففي منتصف نهار الخامس
من مايو وضعت وزارة الداخلية نقطة تفتيش بشرق الرياض تابع
للمرور، وكان يعتقد بأن مهمة العاملين في هذه النقطة مراقبة
تحركات الجماعات المسلّحة والعثور على أسلحة وذخائر كما
هي العادة المتبّعة في الملاحقات الامنية لأفراد (الفئة
الضالة)، ولكن الأمر لم يكن كذلك، يقول أحد الموقوفين
(لقد أوقفني مركز التفتيش وطلبوا مني نزع صورة الملك ورفضت).
وحين رفض الامتثال للطلب (أخذوا اثباتي وأوقفوني جانباً
وغيري كثير وتجادلت معهم فقالوا لي هذه هي التعليمات)
ويضيف قائلاً وبعد (أكثر من نصف ساعة وأنا أطلبهم ولا
جدوى فقمت بنزعها ـ أي صورة الملك ـ بيدي وعفستها (كوّمتها)
ورميتها أمامه.. وقلت له أنا نزعتها الآن والله لا ركبها
(أعيد لصقها) بكرة, فقال إن وضعتها حنا (نحن) لك بالمرصاد
وعطوني اثباتي).
في المقابل، نشر موقع الساحات، المقرّب من وزارة الداخلية،
ما يشبه توصية لسكان القصيم بعدم نزع صور الامير سلطان
قبل زيارته لمنطقة القصيم، والتي تمت في التاسع من مايو،
وكأن هناك من يتوقع وقوع رد فعل معاكس من الداعمين لجناح
الملك عبد الله، أو المتشددين في موضوع الصور على قاعدة
دينية، مما قد يخلط الأوراق بحيث يتم تجييره على أنه موقف
سياسي لجماعة الملك عبد الله في القصيم.
الضربات المتبادلة بين الجناحين (الملك والعصبة السديرية)
لا تتوقف، فما إن يوقع الملك ضربة هنا للثالوث السديري
أو ما يعتبره هذا الثالوث كونه ضربة، حتى يقوم الاخير
برد الضربة بأخرى موجعة. يتحدث بعض الذين يأملون في بقاء
تلك الهالة المشعة حول الملك عبد الله عن مخطط يحاك في
الخفاء من قبل فريق السديريين لتشويه سمعته وإعاقة القرارات
الاقتصادية الايجابية التي يصدرها. ظهر ذلك المخطط، حسب
هذا البعض، في القرار العاجل الذي اتخذه الملك قبل عدة
اسابيع بعد أن وقع الانهيار الكبير في سوق الاسهم، وسمح
قرار الملك بدخول الاجانب للسوق وتجزئة الاسهم، والذي
أدى الى تحسّن طفيف في السوق، ولكن ما لبث أن تعرض الأخير
الى فوضى عارمة أدَّت الى إنهيار آخر في السوق، وعاد الملك
ليعلن عن تخفيض أسعار الوقود بنسبة ثلاثين بالمئة، وكان
القرار، من الناحية النظرية على الاقل، حافزاً قوياً على
رفع منسوب المؤشر، ولكن ما لبث أن تعرض السوق الى ضربة
عنيفة بانخفاض بلغ الف نقطة في اليوم التالي مباشرة، بل
إن القرارات اللاحقة التي صدرت تباعاً بدءاً من إعلان
الاكتتاب في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية في 13 مايو
والتفكير في إنشاء شركة خاصة تدير سوق الاسهم تحت شروط
وضوابط أكثر صراحة للحفاظ على مستوى محدد لأسعار الاسهم
صعوداً وهبوطاً.. كل تلك الاجراءات لم توقف مسيرة تدهور
المؤشر الذي واصل انخفاضه الى ما دون العشرة الآلاف في
العاشر من مايو بعد أن بلغ ما يقرب من 21 ألف نقطة قبل
عدة أشهر.
لقد بدا وكأن القرارات الاقتصادية الايجابية تساقطت
كأوراق يبسة في سوق الاسهم، ولم تعد قادرة على إنعاش أمل
القطاع الأكبر من المضاربين الذين خسروا حصاد العمر في
تلك السوق المجنونة.. وكأن هناك من يريد أن يفشي سراً
الى هؤلاء المنتظرين لمعجزة اقتصادية في سوق الاسهم على
يد الملك، بأن صاحبكم لم يعد لديه ما يمكن أن ينقذكم من
عذاب أليم فالسوق باتت تصّب فوق رؤوسكم من حميم الخسائر
المتتالية بما لا عاصم لكم من هذا السوق الا العصبة السديرية،
الماسك الحقيقي بمفاصل الدولة وإمكانياتها.
الامير نايف: اليد السديرية الضاربة
|
في ظل هذا الوضع المتخلخل، تتبلور قناعة لدى كثيرين
بأن الملك عبد الله لا يملك من أوراق هامة تمكَّنه من
تغيير مسار الاوضاع الاقتصادية في الداخل بدرجة يعيد بها
المؤشر الى سابق عهده الزاهي. ويوجّه آخرون نقداً للملك
عبد الله كونه ليست لديه الشجاعة الكافية في فرض سلطته
المطلقة على من يدرك أنهم يعبثون حتى بمصيره السياسي،
ويهددون مابناه من سمعة وحلمٍ عبر وعود معسولة وقرارات
مفعمة بالأمل. وقد بلغ اليأس بأحدهم حتى قال (صدقوني لو
أن الملك أعلن غداً أن الدولة ستعوض كل الخاسرين في سوق
الاسهم فستجد السوق ينهار في اليوم التالي). إنطباعات
مماثلة بدأت تتكاثر منذ أن بات الانهيار رفيقاً دائماً
لمؤشر سوق الاسهم، وهو انهيار يهوي بمكانة من عقدوا الآمال
عليه في إنقاذهم بعد أن عقدوا الآمال عليه في إثرائهم.
من الملفت في حملة الثالوث السديري، حسب البعض، أن
المعركة بلغت من الانحطاط حداً وصل الى ضرب الملك في نقاط
تميّزه. فقد كان أهم مائز بين الملك عبد الله وأخوته السديريين
أنه أقلهم ثراءً وطمعاً في الثروة. فالملك عبد الله بخلاف
الملوك السابقين والامراء السعوديين السابقين واللاحقين
لم يتورط حسب الظاهر في عمليات سرقة ونهب لأراضٍ وممتلكات
الناس، ولم يصلنا خبر أحد شكى من الملك عبد الله في أراضٍ
قضمها منه، كما فعل الملك فهد والأمراء السديريون، وبخاصة
سلطان وسلمان ونايف، الذين كانوا ينهبون ويجعلون ذلك فضلاً
واحساناً أنهم تركوا ذلك النعيم لغيرهم من قبل، وما سرقوه
من أصحابه الاصليين ليس سوى استعادة لحق منحوه لغيرهم
ردحاً من الزمن.
وحيث أن لا مصادر محايدة قادرة على أن تمدّنا بمعلومات
موثّقة عن الثروة المالية للملك عبد الله، كما لا نعلم
على وجه اليقين حجم ثروة الامراء السديريين سوى ما يظهر
بعض أجزائها في حسابات بنكية أجنبية، فإن الحسابات المالية
لأمراء العائلة المالكة تخضع لسرية تامة وتكون أحياناً
ضمن عناوين ولافتات وهمية أو غير مباشرة، وأن ما يعرف
من ممتلكاتهم غير القصور والشركات ذات المشاريع العملاقة
التي يديرها أناس يعملون لصالح هذا الأمير وذاك، قد لا
تشكل سوى جزءاً من الثروات الضخمة التي تدرّ أرباحاً طائلة
وتودع في حسابات بنكية خاصة.
نعود للقول بأن الملك عبد الله الذي لم يكن مدرجاً
في أي وقت مضى ضمن قائمة الاثرياء في العالم، ظهر مؤخراً
في مقدمة أغنى عشرة قادة في العالم، حيث كشف تصنيف مجلة
فوربس الاميركية والمتخصصة بشؤون الاثرياء في العالم في
5 مايو 2006 عن قائمة الأثرياء من الملوك والرؤوساء والقادة،
ووضعت الملك عبد الله، 82 عاماً، الذي اعتلى العرش في
الاول من أغسطس 2005 في قائمة الاثرياء في العالم بثروة
قدّرت بـ 21 مليار دولار، وهي الاعلى بالمقارنة مع ملوك
ورؤساء آخرين مثل سلطان بروناي حسن البلقيه، 59 عاماً،
ورئيس الامارات العربية المتحدة الشيخ خليفة بن زايد آل
نهيان، 58 عاماً، بثروة تقدر بـ 19 مليار دولار، وحاكم
دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، 56 عاماً، والذي جاء
في المرتبة الرابعة بثروة تقدر بـ 14 مليار دولار.
لاشك أن هذا الكشف قد أصاب كثيرين بالدهشة والحيرة،
وقد يتساءل البعض: كيف تمكن الملك عبد الله من جمع هذه
الثروة؟ فيما لا شواهد على تورطه في صفقات ومشاريع مالية
عالية الربحية، ولم يعرف عن وجود شركات تعمل لحسابه كما
يفعل أقطاب العصبة السديرية. في المقابل، هناك من شكك
في صحة ما نقلته مجلة فوربس معتنقاً الرأي القائل بأن
المعلومات مدسوسة من أشخاص مغرضين يرومون تشويه سمعة الملك
وإبراز المخبوء عن ممتلكاته بطريقة مفبركة من أجل زرع
الانطباع بأن (ليس هناك أحد أحسن من أحد) فالكل في النهب
سواء.
على أية حال، فإن التجاذب بين الملك والثالوث السديري
فتح الابواب على احتمالات عدة، وقد تزيد من حدة الاستقطابات
التي تفضي الى تشققات في بنية السلطة، وقد تنذر بفوضى
سياسية في حال قرر السديريون الذهاب بالمعركة الى حد الاطاحة
بهيبة الملك عبد الله تمهيداً لاقتناص السلطة وتحويلها
الى دولة سديرية بالكامل.
|