بيان (61) والاستدارة إلى الخلف
عبدالرحمن اللاحم
إن الكثيرين أصبحوا الآن أكثر قناعة بأن اللاحم بيننا
على هذا التراب هي الوطنية والولاء لهذا الوطن، وقد ثبت
من خلال تجارب العديد من الدول أن الوطنية كقيمة متجذرة
في النفس البشرية استطاعت أن تحتوي فسيفساء عقائدية وفكرية
وثقافية بالغة التعقيد، واستطاعت في الوقت ذاته تجنيب
تلك الدول انفجارات طائفية غير محمودة العواقب.
كنت آمل أن يزداد زخم الثقافة التحاورية التي بدأت
تدب بيننا في الآونة الأخيرة حتى يمكن أن ننفي خبث التطرف
والغلو الذي ترسب طوال عقود مضت في بنيتنا الاجتماعية
حتى أخرجت لنا نماذج شوهت تاريخنا وعبثت في عقول نشئنا.
قد يكون من آخر تلك المظاهر والنماذج المتشنجة البيان
الذي أصدره (61) شخصاً ونشر في أحد المواقع الأصولية المتطرفة
وعنونوه بـ (تحذير وبيان) وحشوه بكل ما أسعفتهم به قواميسهم
من مفردات الإقصاء ونعوت التطرف والتكفير المبطن، وعرضوا
بقامات وطنية بذلت لهذا التراب أعمارها وأفنت شبابها في
خدمته.
إن استغلال قضية ما من أجل شحن الشارع من خلال مفردات
إقصائية متطرفة وتوظيف الدين من أجل التشكيك في عقائد
الآخرين ورمي كل من يخالفهم بأنه متنكر للدين ومناهض له
وساعٍ لنشر الفساد والرذيلة، هو أمر لا يمكن بأي حال من
الأحوال أن يدخل في دائرة حرية التعبير، بل هو تأجيج سافر
لمشاعر الشباب قد يقودنا من جديد لموجة فتية من موجات
التكفير التي نحاول الآن أن نتعافى منها بعد أن عبثت بكياننا
الاجتماعي وبنيتنا الثقافية.
إن مصدري ذلك البيان قد نصبوا أنفسهم بلا استئذان أوصياء
على الشعب، فهم من يحدد لهم خياراتهم الفكرية وهم المخولون
بتحديد العدو والمعركة وساحتها، وهم دون غيرهم لهم الحق
بأن يرسموا سياسات الدولة. والمثير في البيان أنه استخدم
عبارات الوطنية والمواطنة لم تكن حاضرة في القاموس الصحوي
إلى وقت قريب لأنها عند بعضهم تناهض فكرة الولاء للدين،
إلا أنهم - وبنفس برغماتي هذه المرة - وظفوا تلك القيمة
السامية من أجل التشكيك في وطنية من وجه لهم ذلك البيان،
ومارسوا المزايدة الرخيصة المفضوحة، وكأنهم يؤسسون لقاعدة
(نحن المواطنون وحسب) فجعلوا المواطنة تقاس على أسس فكرية
بحتة، فالوطن لمن يسير في ركابهم دون غيرهم، ولمن يؤمن
بمنطلقاتهم العقائدية الضيقة ومن خالفها فهو خارج عن حياض
الوطن، متنكر له ولا يحق له أن يساهم في قضاياه.
في قراءة لأسماء ووظائف موقعي البيان نجد أن جل من
وقع عليه هم ممن يمارسون العملية التعليمية أو مارسوها
يوماً ما وفي أدق مرحلة من مراحل التعليم وهي المرحلة
الجامعية.. فكيف لنا إذاً أن نجزع أو نتساءل عن جنوح طلبتنا
نحو التطرف، ومثل هذه الشريحة المنغلقة أشرفت أو تشرف
على تعليمهم. فهل يمكن أن نتصور أن أستاذاً من تلك الشريحة
سيلقن طلبته قيم الحوار والتسامح وقبول الآخر والتعايش
مع المخالف؟
الوطن 30/5/2006
|