تخبّط في الرؤى وردود الفعل
الملف الإيراني وتطورات الموقف السعودي
لا يوجد هنالك موقف سعودي واحد ثابت وواضح من الملف
الإيراني.
فقد عكس الإنقسام داخل السلطة، أي داخل العائلة المالكة،
انقساماً آخر حول ملفات عديدة داخلية وخارجية، بينها الملف
النووي الإيراني.
وتعدى الإنقسام ـ وبشكل طبيعي ـ دائرة السلطة لتصل
الى دائرة المجتمع نفسه، المنقسم على نفسه منذ تأسيس الدولة
وحتى اليوم، والذي سعت السلطة السياسية على إبقائه منقسماً
ضمن شروط (تقسيم المجتمع لتوحيد السلطة في يد العائلة
المالكة)، أو ضمن سياسة (فرق تسد).
لقد توصلت العائلة المالكة ـ وبعد جهد جهيد ـ وبجهود
كبيرة من ولي العهد السعودي آنئذ ـ الملك الحالي ـ الى
اتفاق بترتيب العلاقات مع ايران في عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني
منتصف التسعينيات الميلادية الماضية. وكان الأمير نايف
وزير الداخلية من صقور المعارضين من زاويتين أمنية ودينية،
فهو من جهة كان يبحث عن ضمانات أمنية ايرانية، وترتيبات
أمنية مشتركة، تمنع تدخل الطرفين في شؤون بعضهما الداخلية.
اما الجانب الديني، فنايف ـ الأقرب سياسياً من التيار
السلفي المتطرف ـ يميل الى القطيعة مع ايران على أسس طائفية،
والمنافسة السياسية.
اما حجة الأمير عبدالله ـ الملك حالياً ـ فكانت تقول
بأن إيران حقيقة جيوبولتيكية، فهي دولة جارة باقية، والأميركيون
راحلون. ولا بد من التعامل معها ولو من زاوية إبعاد أو
كفّ شرّها في حال استمرار القطيعة معها. وكان عبدالله
يرى ـ كما حكام خليجيون آخرون طبعوا علاقاتهم مع ايران
ـ بأن الإنسياق مع الأميركيين يكلف دول الخليج كثيراً
سياسياً وأمنياً. وحسب التعبيرات التي ظهرت يومها: الأميركيون
يزرعون الفتن وهم راحلون، والإيرانيون باقون.
وحين حدث الإجماع داخل العائلة المالكة ـ بعد معاناة
ـ بشأن أسس العلاقة مع إيران الجديدة، إيران ما بعد الخميني،
متواكباً مع الإجماع الخليجي في هذا الإتجاه، ورغبة ايران
الشديدة لفتح صفحة جديدة في العلاقات مع جيرانها.. ومتواكباً
مع ضغط رجال الأعمال السعوديين الباحثين عن سوق يصرفون
فيها بضائعهم، سوق ضخم بحجم السوق الإيراني.. حينها ساد
شعور لدى النخبة الحاكمة في المملكة، ان العلاقات مع ايران
دخلت مرحلة تاريخية جديدة.
بيد أن تطورات الوضع الإقليمي أثبتت حقيقة صعوبة الحفاظ
على علاقات متميزة بين البلدين لأسباب تاريخية وسياسية
وأمنية وفوق هذا (طائفية دينية) بالرغم من أن ولي العهد
حينها والملك حالياً يبدو مصرّاً كما الطرف الإيراني على
ديمومة العلاقات وتنقيتها مما قد يشوبها من المكدرات بين
الحين والآخر. ونشير هنا الى موقف ولي العهد من الزلزال
الذي وقع في مدينة بم الإيرانية، ومسارعته في إرسال المعونات
ووعده بتقديم مئات الملايين من الريالات، وهو موقف لا
يمكن للقيادة الإيرانية أن تنساه أو تقرأه بشكل خاطئ،
وهي المتمرسة في لعبة الدبلوماسيات والمصالح.
لكن الزلزال العراقي جاء ليشكل أقسى امتحان لتلك العلاقة
الناشئة، وليمتحن الرغبات والمكنونات. الزلزال العراقي
وسّع النفوذ الإيراني في العراق، والمملكة لم تكن في يوم
ما ترى العراق أثيراً، حتى في سنوات دعمها لصدام حسين
في حربه الأولى. لكن المملكة شعرت وكأنها خسرت المنافسة
قبل أن تبدأ كونها لا تمتلك أوراقاً قوية تلعبها في الداخل
العراقي، وفي الحقيقة فإنها لم تسعَ إن لم تكن قد فرطت
في كثير من أوراقها في ذلك البلد، بسبب غياب الإستراتيجية
واعتمادها ردّات الفعل، الأمر الذي جعل النفوذ الإيراني
مقارباً من حيث التأثير لنفوذ القوات الأميركية المحتلة.
وكان تصاعد الحمّى الطائفية أعطى للمنافسة المفترضة تأثيرات
سلبية إضافية. فتدخل إيران (بلد التشيّع الأم، كما ينظر
الإيرانيون الى أنفسهم) أخذ صفة طائفية، ووجدت المملكة
نفسها بحاجة الى نفوذ مقابل كونها تمثل طرف المعادلة الآخر
(السني) ولكنها لا تمتلك أوراقاً تلعبها أو كانت الى وقت
قريب تسعى للنأي بنفسها عن تعقيدات الوضع العراقي، وهي
سياسة قديمة للمملكة منذ قيام الدولة القطرية العراقية.
لهذا وجدت المملكة نفسها مطالبة بموقف وسياسات لا تستطيع
أن تقوم بها أو لا تريد، وفي نفس الوقت فإنها لا تمتلك
استراتيجية واضحة تجاه العراق، مثلها مثل مصر، التي راحت
تندب حظها كأكبر دولة عربية تشعر بخسارة لنفوذها في دول
الخليج كلما تقدم النفوذ الإيراني. ولذا، وبدلاً من القيام
بعمل ما، او اتخاذ استراتيجية مختلفة، لم يكن أمام المملكة
كما مصر، إلا التنديد بالنفوذ الإيراني في العراق، وليس
الأميركي أو التركي أو السوري أو الأردني أو الأوروبي
أو حتى الصيني والياباني.. فالنفوذ الإيراني بالنسبة لمصر
والسعودية أكثر خطراً من النفوذ الأميركي أو الأوروبي
الذي لا قبل لهما بمنافسته.
وقد فوجئت ايران حين ندد سعود الفيصل بنفوذها في العراق،
ومطالبته بوقف تدخلاتها، التي جاءت في الأصل على خلفية
الصراع مع الولايات المتحدة وحماية النظام الإيراني نفسه
من التهديدات العسكرية الأميركية.
وكان من الواضح ان خلفية الصراع ذاك، قد عجّلت بظهور
ما سُمي بالملف النووي الإيراني، ليضيف بعداً آخر للتوتر
الحاصل بين السعوديين والإيرانيين. فالأخيرون، عينهم على
أميركا واسرائيل، وأدواتهم متوافرة في أكثر من بلد في
العالم، في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين وجمهوريات
آسيا الوسطى، مع بعض الأوراق في الهند والباكستان والصين
وروسيا.
اما الخليجيون، والعرب عموماً، فعينهم على إيران، والأخيرة
عينها على شيء آخر وكأنها لا تعيرهم اهتماماً، أو مشغولة
بهمّ لا يفهمه جيرانها ولا يدركونه.
الملف الإيراني النووي الذي كان مرجحاً له أن يوتّر
العلاقات السعودية الإيرانية، بدا وكأنه فعل أمراً عكسياً
حتى الآن، وفي الحقيقة منذ إعلان ايران نجاحها في تخصيب
اليورانيوم، والتطورات التي لحقته.
لكن الموقف السعودي الذي قارب على التبلور، بدأ بالعداء،
وانتهى بالتفهّم. وقال محللون ان ذلك الموقف يشابه تماماً
الموقف الأميركي أو الأوروبي، الذي بدأ شديد الحدّة قبل
اعلان ايران تخصيبها لليورانيوم، وانتهى بالإغراءات. وكأن
الموقف السعودي مجرد رجع صدى للموقف الغربي، غير مستقلّ
عنه، مع أنه يحمل جوانب من الخصوصية كما بدا في أول الأمر.
والموقف السعودي الرسمي استغرق زمناً طويلاً كيما يميل
الى التبلور، ولكنه مرشح مرة أخرى الى الإنقلاب، ربما
لأنه موقف تابع للموقف الأميركي ـ الغربي، وربما لغياب
الإستراتيجية ومراكز الدراسات، وربما بسبب تعقيدات الصراع
بين أجنحة الحكم، وربما لكل هذه الأسباب.
حتى الأمس القريب، لم يميز نايف بين السلاح النووي
وبين التكنولوجيا النووية السلمية فيما يتعلق بالملف الإيراني
(جريدة الجزيرة 21/5/2006) وكان ضد (كلِّ ما يُوصِل ويمكِّن
الدول من القدرة على استحواذها من صناعة أو استيراد أو
من محاولات لتطويرها أو التوسُّع فيها). وقال ان المملكة
تعارض (أيّ مجهود أو تمويل يقود إلى بناء ترسانات نووية
في دولنا، اقتناعاً من بلادنا بأنّ السباق في هذا المجال
لا يساعد على استقرار دولنا، كما أنّه يعطي ذريعة للدول
الكبرى للتدخل في شؤوننا). وأشار نايف الى الموقف الدولي
بأنه لن يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم، وحذّر من (خطورة
التمادي الإيراني في بناء مفاعلها النووي) وطالب المسؤولين
الإيرانيين (أن يراجعوا مواقفهم بشأن التعامل مع الإرادة
الدولية بهذا الشأن وأن يستجيبوا للنداءات الدولية)..
كما طالب ايران بأن تكف عن التدخل في أوضاع العراق.
لكن سعود الفيصل، الذي زار إيران مؤخراً، والذي يعبّر
أكثر عن موقف الملك، قال بعد لقائه مع المسؤولين الإيرانيين
أن من حق ايران أن تحصل على تكنولوجيا نووية للأغراض السلمية.
ولم تنشر حتى الآن تفاصيل تتعلق بأهداف الزيارة السعودية
المفاجئة. لكن اللافت هو أن الأمراء السعوديين امام مسارات
بعضها يغلب على البعض الآخر.
فالجزء الأمني يقودهم تارة الى معاداة المشروع الإيراني
سلمياً كان أم حربياً، بحجة احتمال تسرب اشعاعاته الى
الأراضي السعودية. ولكن بالحساب الأمني أيضاً فإن مهاجمة
ايران عسكرياً من قبل أميركا سيؤدي الى هجوم ايراني على
مصالحها في السعودية ودول الخليج، وهذا ما لا يريده السعوديون.
وما دامت ايران قد خصبت اليورانيوم وترفض التراجع ـ حتى
الآن على الأقل ـ فإن ما تبقى هو وضع كوابح لعدم مهاجمة
ايران من قبل أميركا، وهي رسالة وصلت الى واشنطن منذ مدة،
وفي الحقيقة فإنها كانت رسالة خليجية عامة، ووصل الحد
بالسعوديين أن ارسلوا بندر بن سلطان لموسكو لحث الروس
على وضع الكوابح أمام الأميركيين لكي لا يشعلوا المنطقة
بأكثر من حريق غير قابل للإطفاء.
وبتراجع الأميركيين والأوروبيين عن التهديدات، وهي
نتيجة منطقية لنجاح ايران في تخصيب اليورانيوم، انخفض
سقف القلق السعودي والخليجي، على الأقل في شقه الأمني.
اما في الجزء السياسي، فالأمراء ينظرون لإيران منافساً
يصعب مجاراته، فهم سادة الخليج وإن لم يُعترف لهم بذلك
خليجياً وإقليمياً وأميركياً. والإيرانيون يتحركون كقوة
إقليمية عظمى سياسية وعسكرية وعلمية واقتصادية، وقد غاب
المنافسون وضعفوا إلا من الكلام: العراق والسعودية ومصر!
ومن شأن النجاحات الإيرانية السياسية المتتالية ان تهمش
دور السعودية اقليمياً، وتبقي النفوذ المصري بعيداً عن
الخليج.
ايران الصديق اللدود. هكذا كانت وستبقى.
والخلل ليس في إيران بقدر ما هو في العالم العربي وقياداته،
التي فشلت فيما نجحت فيه إيران، وعجزت في الدخول في منافسة
إيجابية أبعد من المهاترات السياسية. في حين ان المطلوب
هو رسم سياسة جديدة مع ايران تستهدف أمرين واضحين: توسيع
الحد الأقصى الممكن من المصالح الإقتصادية لدول الخليج،
والثاني توسيع الحد الأقصى الممكن من الأمن. والإثنان
مرتبطان ببعضهما، ولا يمكن فصلهما.
القوى المتباينة داخلياً
الموقف من الملف الإيراني لم يحز أيضاً على إجماع داخلي.
فمن خلال ما ينشر ويكتب في مواقع الإنترنت والصحافة (والتي
يوجد فيها هامش من الحرية في الحديث عن الملف الايراني
النووي، توسع بسبب عدم وجود موقف رسمي موحد منه) نجد أن
هناك من يؤيد حصول ايران على تكنولوجيا نووية للأغراض
السلمية، بل وجد من يؤيد حصولها على أسلحة نووية لمواجهة
اسرائيل. النزعة بهذا الإتجاه التأييدي للموقف الإيراني
قبالة الغرب جاء من كتاب يعكسون رؤى المهمشين في السلطة
(حجازيون وشيعة وآخرون). هؤلاء متحررون من عقدة تضخم القوة
الإيرانية، ومتحررون من عقدة المنافسة السياسية السعودية
مع ايران.
وفي الجانب الآخر، وجد كتاب ومعلقون مهووسون بالخطر
الإيراني ووجوب مكافحته والوقوف ضده. وهذا الموقف جاء
من مقربين من السلطة في الأساس، ومن كتاب يمثلون منطقة
نجد الحاكمة وحساباتها المذهبية. كتب هؤلاء ونظّروا للخطر
من زواياه المتعددة، وتمنى بعض متطرفيهم من الوهابيين
ليس فقط أن تجاري السعودية ايران في صناعة قنبلة نووية،
بل وسألوا الله أن تقوم أميركا بتدمير إيران بقنابل نووية
وتمحيها من الخارطة!
هؤلاء القابضون على السلطة يفزعهم تضخم القوة الإيرانية.
وأولئك المنظرون للصراع الكوني بين السنّة والشيعة والذين
لا يرون الأمور إلا من زاوية طائفية، لا يمكنهم الشعور
بالأمان في ظلّ تفوق (عدو مذهبي).
أياً كانت مواقف الأشخاص والقوى المحلية من الموضوعات
السياسية، يبقى حساب السلطة السياسية هو الحاسم، وفي أغلب
الأحيان فإن براغماتية السياسة تفرض أجندتها الخاصة.
|