تشريح أزمة الدولة
ذهـنـيـّة الـتصـنيف
لم يكن من قبيل الصدفة أن تكون القصيم مسرح تجاذب بين
الملك وولي عهده في سياق حالة التناظر الفكري بين تيارات
اجتماعية وسياسية متباينة. فقد ظلت القصيم فارزة تاريخية
وثقافية في جسم الدولة، وعلى أرضها يلتقي المتنافسون داخل
السلطة، ومنها أيضاً يستمدون مشروعية وقوة إجتماعية، فقد
أريد لها أن تكون مركزاً للاستقطابات الايديولوجية والسياسية
وبقيت كمخزون احتياطي استراتيجي لرجال السلطة. ولا يمكن
فهم ذهنية التصنيف دون تحديد الاهمية التي حظيت بها القصيم
في تركيبة الدولة، وسياساتها، بل وفي جداول أعمال رجال
الحكم، ليس لكون القصيم الحافظة المركزية للرأسمال الرمزي
والتاريخي للمنجز السياسي والديني فحسب، بل لكونها دالّة
رئيسية على الطبيعية الجوهرية للدولة ذاتها، والتي يمكن
منها مقاربة مشكلة التصنيف على مستوى المجتمع والدولة
معاً.
كلمة ولي العهد ووزير الدفاع الامير سلطان أمام أهالي
منطقة القصيم في مايو الماضي حملت دلالة بالغة، فقد تحدث
بلغة تصنيفية تستعيد ذاكرة العلاقة التاريخية والاستراتيجية
التي ربطت أهل الحكم بهذه المنطقة. يقول الامير سلطان
في سياق تمجيده للقصيم بأنها قلب المملكة، وأن لها تاريخها
المجيد، ثم عدّد خاصيّاتها بأن رجالها أول من جلب التجارة،
وأول من تعلم العلم وقام بواجبه في القضاء، أول من دخل
القوات المسلحة وكان دوره فعالاً، وأول من خدم الدولة
ثم أجمل توصيفه بالقول بأن للقصيم مكاناً خاصاً بقلب كل
انسان، وأن أباه الملك عبد العزيز كان يمكث في القصيم
شهراً كاملاً تعبيراً لمحبته وتقديره لها.
لا ضير في مدح رجل دولة منطقة ما، وإن كان المدح من
رجل دولة بوصفه ممثلاً لدولة وليس جماعة أو منطقة يخضع
لمعايير من نوع آخر، سيما حين يتضمن المدح عبارات تنطوي
على تمييز إزاء المناطق الاخرى، وحين توضع في سياق السياسات
العامة للدولة، وحين يكون المادح على صلة من نوع ما (سياسية
وايديولوجية) مع هذه المنطقة. ينسحب ذلك أيضاً على تصريحات
متكررة للأمير نايف حول التزام الدولة بالعقيدة السلفية،
وكونها تسير على نهج السلف.
تنبىء تلك التصريحات، وهي كثيرة ومتكررة، بأن رجل الدولة
يفقد صفته التمثيلية المزعومة ليتحول الى مصدر استرضاء
فئوي، وممثل لجماعة ومنطقة. قد يجادل البعض بأن تلك التصريحات
ذات الطابع التصنيفي غير مقصودة بذاتها، ولا تستهدف المساس
بمشاعر المناطق والجماعات الاخرى، وفي أحسن الاحوال فإن
الامراء الكبار يغفلون التداعيات المحتملة لتلك التصريحات
لدى بقية المواطنين من المناطق والمذاهب الاخرى. والحال،
أن هذه التصريحات ليست مقطوعة الصلة عن سياسات الدولة
ذاتها ذات الطابع التصنيفي، ويكفي التفاوت الكبير والخطير
في نسب التمثيل المناطقي والمذهبي في الجهاز الاداري للدولة.
لا شك أن اختيار الملك عبد الله القصيم كمكان لاطلاق
دعوته بوضع حد للممارسات التصنيفية كان موفّقاً، لأن منها
انبعثت الافكار المتشددة والجماعات المتطرّفة ومنها أيضاً
نشأت ذهنية التصنيف على أساس عقدي. فقائمة المصنّفات الايديولوجية
هي ابتكار خاص بهذه المنطقة التي قسّمت المجتمع على اساس
انتماءاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية.
من مدينة بريدة المعروفة بكونها العشّ المقدّس للسلفية
الطهرانية المتشددة اطلق الملك دعوته بوقف التصنيف، مؤكّداً
على أن جميع أفراد الشعب هم (مخلصون) ولا يجوز التشكيك
في عقيدة أحد أو وطنيته. في هذه المدينة التي يحظى فيها
الفكر المتشدد بمشروعية وحماية فريدة، وفيها أيضاً بدأت
حرب الاسماء والنعوتات والاحكام التحريمية النهائية..
جاء منها بدأت معركة متوّهمة بين مؤمنين وكفّار ثم انشقت
عن معارك أخرى بنعوتات وأسماء جديدة مفتوحة، فالموافق
يصبح من أهل السنة والجماعة والمخالف يصبح ضالاً وبئس
القرار. فليس أسهل من إنزال الهزيمة بالخصم في حرب التصنيف،
فيكفي ان تسبغ صفة (علماني) في وسط جماعة دينية، ليخلص
الحال الى نبذه وإقصائه وربما قتله أحياناً. فالصفات في
ثقافة المجتمع هي محمّلة بأحكام عقدية، فالليبرالي والعلماني
والحداثي هم في وعي السلفي كفّار أو مشركين ولكن متخّفين
تحت عناوين أخرى. والأمر، بالتأكيد، لا يتوقف على السلفي،
فحرب المصّنفات الأيديولوجية تستعر داخل التيارات الفكرية
وتمتد الى أفراد المجتمع قاطبة. فالآخر ـ غير السلفي،
له اضبارة حكمية مماثلة وقد لا تنجو من نزعة اقصائية شرسة،
فعدوى التصنيف قد أصابت القطاع الأكبر من المجتمع، بحيث
لم يعد يرى الافراد في غير التصنيف سبيلاً لتحديد المسافات
فيما بينهم، لتتلوها عملية تحديد المواقف أيضاً.
ترديد النعوتات دون وعي يشي بالافراط الشديد في الاستعمال،
فقد يردد البعض كلمة (علماني) أو (صوفي) أو (سلفي) كما
يردد ماركات تجارية أو أسماء مدن، أو حتى طبخات معينة،
لا يدرك من ملامحها ولا تفاصيلها سوى ما شاع بين المتماثلين
ذهنياً.
ضراوة النزعة التصنيفية تخبرنا بحضور النعوتات وتوظيفها
في معادلة الصراع المؤسس على تقسيم الافراد والجماعات
بحسب متبنياتهم الفكرية، وهي من الكثرة المفرطة بحيث باتت
تستعمل داخل الدائرة الصغيرة ضمن الدوائر الاخرى المتوسطة
والكبيرة التابعة لمدرسة فكرية واحدة، كما هو حاصل داخل
المدرسة السلفية السعودية، حيث تولّدت أسماء غير معروفة
وطار صيتها في آفاق الاعلام السجالي، حتى صارت أسماء العوائل
بصمات جاهزة لتيارات فكرية. فذهنية التصنيف أنتجت نعوتات
متناسلة، تصل في إفراطها الى حد إسباغ نعت ما على شخص
بمفرده بوصفها ممثلاً لتيار أو جماعة قليلة أو كثيرة العدد.
تتفتح المدركات الذهنية لطلاب المرحلة الابتدائية على
قائمة تصنيفات تحتمل أحكاماً عقدية وفقهية، مثل (علماني)
و(فرق ضالة) و(مشركين) و(تيارات إلحادية)، لتنشأ ذهنية
التصنيف بين التلاميذ وتحدد طبيعة الروابط التي تسود بينهم
بل وبينهم وبين العالم الخارجي، ولا يكاد ينهون مراحل
الدراسة الاولية حتى يتقن التلاميذ فن التصنيف، ليحددوا
الـ (مع) والـ (ضد)، ثم ينتقل التصنيف الى المجال الجامعي،
حيث يخوض الطلاب محنة الانتماءات الايديولوجية والمذهبية
والمناطقية، (ليبرالي، علماني)، (صوفي، رافضي)، (نجدي،
حجازي) وتنشق القائمة الواحدة عن قوائم أخرى.
المثير للسخرية ان لعبة التصنيف التي كانت تديرها الدولة
والتيار الديني الحليف لها، باتت صالحة للاستعمال الضدي
فيما بينهما، فبينما توصم الدولة الجماعات المسلّحة بـ
(الفئة الضالة)، فإن الدولة أصبحت في تصنيف الجماعات تلك
هي (الدولة السلولية)، وهذا التقاذف، في نهاية المطاف،
جزء من ماكينة التصنيف التي تعمل بدون انقطاع.
في استطلاع للرأي قامت به صحيفة (الوطن) في 18 مدينة
ومحافظة لمعرفة وعي المجتمع بطبيعة التصنيفات المذهبية
والفكرية والاجتماعية في المجتمع ونشرت نتائجه في السابع
من يوليو، خلص الى أن 22 بالمئة من السكان يعتقدون بتشابه
المواطنين في الافكار فيما نفى 78 بالمئة ذلك. وعن الاماكن
التي سمعوا فيها عن تصنيفات (علماني، ليبرالي، اسلامي،
جامي، سروري، صحوي) ذكر 15.4 بالمئة بأنهم سمعوا عنها
في المدرسة، وأن 11.4 بالمئة سمعوا عنها في المسجد، و44.2
بالمئة من الصحف، و45.8 بالمئة من التلفزيون، و43.3 بالمئة
من الانترنت، و27.3 بالمئة عن طريق الاصدقاء، و9.5 بالمئة
عن طريق الاقارب، و22.9 بالمئة في المناسبات العامة. وحول
سؤال عن تأثير التصنيفات على موقفهم وتعاملهم مع أصحابها
أجاب 55 بالمئة من أفراد العينة بالايجاب.
وبالرغم من التحفظات على طبيعة الاجابات المتوقّعة
من العينة في ظل أجواء غير محايدة، وغياب تقاليد استطلاعية
تمنح الافراد قدرة على التعبير بحرية ووعي تام وإلمام
بحجم تأثير كل عامل في مقابل العوامل الأخرى، فإن نتائج
الاستطلاع تعكس الى حد كبير التشبيع الثقافي المؤسس على
عقلية التصنيف، والتي ترى بأن المواقف يجب أن تتحدد بناء
على المعتنق الفكري والعقدي.
وفي حمى التراشق بالنعوت، يذهل الجميع عن أصل نشأة
تلك الذهنية التصنيفية، والمخاطر الكامنة فيها، ونتائجها
الكارثية على الفرد والمجتمع وصولاً الى الدولة، التي
تشرب من الكأس الذي سقته لغيرها ابتغاء ترسيخ أسس السلطة
عبر اشغال الجميع في حرب تصنيف شعواء.
فالدولة من حيث تأسيسها قامت على أساس الفرز والتصنيف،
كمتطلب هيمنة، وبدأت أول مرة على أساس عقدي: مؤمن وكافر،
ولذلك كانت الغارات العسكرية على المناطق في شبه الجزيرة
العربية تندفع انطلاقاً من خلفية عقدية، وكانت المصادر
التاريخية شبه الرسمية تتحدث في تأريخها للغزوات على المناطق
بعبارة: وانطلقت جيوش المسلمين.. وغزا المسلمون.. وانتصر
جيش المسلمين.. في استدعاء لذاكرة الغزوات الاسلامية والحروب
بين المسلمين والكفار.. وهذا من شأنه ابلاغنا طبيعة الدولة
المراد إنشاؤها، وطبيعة الروابط بين الحاكم والمحكوم.
فلم يكن تأسيس الدولة قائماً على قاعدة تعايش مشترك،
وقائمة حقوق وواجبات واضحة ومحددة تكون مورد اتفاق الحاكم
والمحكوم، ولذلك جاءت بنية الدولة استجابة وتجسيداً لنزعة
تصنيفية، على أساس: عقدي، مناطقي، وقبلي. ووفق هذه النزعة،
كانت الروابط بين الافراد والفئات في أبعادها الاجتماعية
والسياسية والثقافية وحتى الاقتصادية مشدودة بنوع من التحالفات
العصبانية كصورة أمينة لحالة الدولة ذاتها القائمة على
أساس تصنيفي.
نشأ التحالف السياسي الديني عام 1744 لشرعنة الحرب
على المناطق المجاورة من منطلق: ملك الآباء والاجداد،
ونشر العقيدة السلفية، وكان ذلك بداية تقسيم المجتمع على
أساس قبلي، ومناطقي، ومذهبي. وبعد قيام الدولة لم يتخلص
المنتصرون من عتاد حرب التأسيس، بل أعيد توظيفه في ترسيخ
السلطة وتوفير مبررات استمرار الهيمنة على مقدّرات الدولة.
لا يمكن تحقيق مبدأ التعايش السلمي في هذا البلد دون
إزالة تراث الفرز والتصنيف، واعادة تأسيس الدولة على أسس
وطنية جامعة. فالمجادلات الفكرية بين قوى سياسية متعددة
هي تمظهر لواقع تم تشييده من قبل الدولة وقد ترك تأثيراته
المباشرة والخطيرة على المجتمع، وبالتالي فإن إنهاء حالة
التصنيف لا يتوقف على مجرد قطع الطريق على المناظرات الفكرية،
لأن التصنيف مندسّ في خلايا الوعي العام، ويترجم نفسه
في سلوك الافراد والجماعات وصولاً الى الدولة.
وتجدر الاشارة الى التفريق بين التصنيف حين يراد منه
الحط من شأن فرد أو جماعة، والتصنيف باعتباره انعكاساً
طبيعياً لحالة الاختلاف بوصفه خاصيّة جوهرية في بني البشر
عموماً، وأن مبدأ التعايش المشترك والتعارف محثوث بحالة
الاختلاف، فالتعايش إنما يتم بين مختلفين وليس متوافقين،
أما التصنيف بالطريقة القائمة في هذا البلد فيهدف الى
إحداث قطيعة وتمييز ونبذ وقد يتحوّل في بعض الاحيان الى
صراعات وحروب، كالتي سبقت قيام الدولة السعودية بل كان
مبرر اشتعالها.
خطورة التصنيف على أساس أيديولوجي أو مناطقي أو قبلي
يكمن في كونه يستبطن إلغاءً ضمنياً لحالة الاختلاف الطبيعية
وتالياً تقويض مبدأ التعايش المشترك، بل وما ينبني عليه
من ضمانات حقوقية متبادلة. فالقبول بالآخر، يتضمن التزاماً
إزاءه، أما في حال نبذه ابتداءً فليس هناك مكان للحديث
عن حقوق متبادلة وواجبات مشتركة.
وكما هو شأن مشكلات عديدة يتم تجاهل أهمية تشخيصها
بصورة دقيقة، فإن ذهنية التصنيف الحاكمة كمشكلة عميقة
الجذور لها امتداداتها في الثقافة الدينية السائدة، والسياسات
الحكومية، والوعي الاجتماعي، تعجز عن وضع حلول جوهرية
مستندة على تشخيص أمين ودقيق للمشكلة المراد حلها.
وبطبيعة الحال، فإن معالجة ذهنية التصنيف تقع على عاتق
الدولة، التي قامت في الاصل على تقسيم المجتمع بحسب انتماءاتهم
المذهبية والمناطقية والقبلية، ولذلك تنزع الدولة الى
البدء من نقطة خارج مجال تحمّل المسؤولية الابتدائية،
وتميل الى فبركة حلول سطحية، تتعلق بدرجة أساسية بالانعكاسات
السياسية التي تحدث إضطراباً في موقع السلطة. لحظنا ذلك
في طبيعة المقاربات لمشكلات عديدة منها التكفير في مناهج
التعاليم الديني، والعلاقة مع الآخر، والمصادر الايديولوجية
لجماعات العنف، وحتى الاستبداد السياسي قابل للمقاربة
المشوّهة، بأن يرمى بدائه طرف خارج السلطة. وباختصار،
تمثّل ذهنية التصنيف في المجال الفكري انعكاساً لذهنية
طاغية مطردة في مجالات أخرى، وهي حاضرة بكثافة في خطاب
وسلوك الدولة.
|