السعودية وغاندي فلسطين
تخرج علينا هذه الايام، وفي تزامن مع الهجمة الاسرائيلية
الشرسة في غزة والضفة، أصوات من المملكة العربية السعودية
تطالب الشعب الفلسطيني بالتخلي عن سلاح المقاومة كليا،
ورفع راية الاستسلام لعدم تكافؤ القوي علي الارض بينه
وبين الاسرائيليين الذين يملكون رابع اقوي جيش في العالم.
آخر هذه الاصوات كان الأمير تركي الفيصل سفير المملكة
في واشنطن، ورئيس جهاز مخابراتها السابق، حيث لخص في خطاب
القاه امام المنتدي العربي الامريكي الذي انعقد في واشنطن
في اواخر الشهر الماضي، ابرز التحديات التي تواجهها حكومة
بلاده هو اقناع الشعب الفلسطيني بان يتخلي عن النضال المسلح
ويسلك منهجية المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كنغ في اعتماد
التمرد والعصيان المدني بدلا من العنف حتي في مواجهة السلاح
الاسرائيلي، فالعنف هو سلاح الضعيف اما عدم العنف فهو
سلاح القوي .
ان يصدر هذا الكلام، وبهذا الوضوح، عن احد احفاد الملك
عبد العزيز آل سعود الذي وحد المملكة بالسيف، امر غريب،
ويثير العديد من علامات الاستفهام حول التوجهات الجديدة،
وغير المألوفة، لبلد طالما تغني بالجهاد، واعتز برفع رايته،
وانطلقت من اراضيه الدعوة المحمدية، وجيوش الفتح الاسلامي.
هذا الكلام ربما يبدو مقبولا لو انه صدر عن بابا روما،
او عن الأم تريزا، او حتي عن سلالة المهاتما غاندي، ولكن
ان يصدر عن الأمير تركي الفيصل فانه يحتاج الي اكثر من
وقفة لمناقشته بالعقل والمنطق والاستناد الي الوقائع التاريخية
والسياسية المعروفة.
فالأمير تركي الفيصل هو الذي اشرف، من خلال موقعه السابق،
كرئيس لجهاز الاستخبارات في بلاده علي تسليح وتجنيد المجاهدين
الافغان، وتسهيل انضمام عشرات الآلاف من الشبان العرب
الي حربهم المقدسة لإخراج القوات السوفييتية من افغانستان،
وتحرير هذا البلد المسلم من الشيوعية الملحدة.
المملكة العربية السعودية انفقت اكثر من عشرين مليار
دولار في حينه لدعم الجهاد الافغاني، وفتحت جميع مساجدها
للأئمة والخطباء الذين كانوا يلقون خطبا نارية تأييدا
له، وحثا للمصلين للتبرع لنصرته، وللشباب لشد الرحال طلبا
للشهادة. وتأسست من اجل هذا الغرض جمعيات ومنظمات اغاثة
جري رصد مئات الملايين من الريالات لدعم انشطتها.
الأمير تركي الفيصل لم يطالب الافغان باتباع اسلوب
غاندي في العصيان المدني باعتباره الوسيلة الافضل لطرد
القوات السوفييتية من بلادهم، رغم انهم اقرب الي الهند
من فلسطين، ويجاورونها جغرافيا، وخضعوا للاحتلال البريطاني
في الفترة نفسها التي خضعت الهند له.
ونذهب الي ما هو ابعد من ذلك، ونذكّر الأمير تركي الفيصل
بأن بلاده لم تطالب الكويتيين، عندما احتلت القوات العراقية
بلادهم، باللجوء الي النضال السلمي اللاعنفي، للتعامل
مع هذا الاحتلال، بل سارعت الي الاستعانة بأكثر من نصف
مليون جندي امريكي بكامل عتادهم، لإخراج هذه القوات، والانتقام
من النظام العراقي بالقاء اكثر من مئة الف طن من المتفجرات
علي مدنه وقراه، وانفقت حوالي ستين مليار دولار من ميزانيتها
الخاصة لتحقيق هذه المهمة.
الأمثلة كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها جميعا، وما يصلح
للهند ليس من الضروري ان يصلح لفلسطين، ومقابل هذا النموذج
الغاندي اللاعنفي هناك اكثر من مئة وخمسين دولة في العالم
انتزعت استقلالها من امبراطوريات اكثر قوة من الدولة العبرية،
عن طريق الكفاح المسلح.
غاندي الفلسطيني لم يولد بعد!
|
اننا لا نقول ان هذا الخيار اللاعنفي خيار خاطئ، فالفلسطينيون
جربوه اثناء انتفاضتهم الاولى، انتفاضة الحجارة، بل وتفاوضوا
مع الاسرائيليين علي حل سلمي وهو ما عرف بعد ذلك باتفاق
اوسلو، وتنازلت قيادتهم عن ثمانين في المئة من ارض فلسطين
التاريخية مقابل دولة علي عشرين في المئة، ولكن ما حدث
هو المزيد من المستوطنات والمزيد من الاهانات وبقية القصة
معروفة.
الرد الاسرائيلي الوحشي علي الانتفاضة الفلسطينية السلمية
هو الذي طورها الي انتفاضة مسلحة، والحصار العربي الخانق
لهذه الانتفاضة هو الذي ادي الي اختراع الصواريخ الحالية
التي تقلق الاسرائيليين، وهو الذي اوجد القنابل البشرية
وثقافة العمليات الاستشهادية.
نحن علي ثقة ان الأمير تركي وهو الرجل المثقف والخبير،
الذي تخرج من جامعة اوكسفورد العريقة، وتتلمذ علي يد والده
الراحل الملك فيصل الذي كان ابرز من رفع راية الجهاد لتحرير
القدس المحتلة، واستخدم سلاح النفط بفاعلية لنصرة قضايا
الأمة في مواجهة البغي الاسرائيلي، ودفع حياته ثمنا لهذه
المواقف، نحن علي ثقة ان الامير تركي يعرف هذه الحقائق
اكثر منا، وما يحيرنا هو هذا التغير الكبير في مواقفه
ومواقف اسرته الحاكمة، تجاه قضية فلسطين، وقضايا العرب
الاخري، وخاصة في العراق.
نأمل ان لا تكون هذه المواقف هي مقدمة لمرحلة قادمة
يكون عنوانها فك ارتباط المملكة بهذه القضايا، والانكفاء
داخليا لمعالجة همومها الداخلية، وابرزها المواجهات مع
تنظيم القاعدة، وهي مواجهات لا تتم علي الطريقة الغاندية
علي اي حال بل بالسيف والبندقية.
نتوقع من الأشقاء في السعودية ان يكونوا اول من يسارع
لنصرة اهل فلسطين والعراق الذين يواجهون المجازر يوميا،
الفلسطينيون علي ايدي العنصرية الاسرائيلية، والعراقيون
علي ايدي الطائفية البغيضة وآلة القتل الامريكية.
نفهم ان يوجه الأمير تركي الفيصل النصائح للفلسطينيين
لو كانت حكومته تجيش الجيوش لنصرتهم، وتقدم لهم عشر ما
قدمته للأفغان او غيرهم، ولكنها لا تفعل حاليا، علي حد
علمنا، الا مساعدة الوسطاء للافراج عن الجندي الاسرائيلي
الأسير.
في جميع الاحوال نتقدم للأمير تركي الفيصل بالشكر الجزيل
علي نصائحه، ونؤكد له ان غاندي الفلسطيني لم يولد، وربما
لن يولد، لأن الاسرائيليين ليسوا مثل البريطانيين، ولان
ظروف الاحتلال في البلدين مختلفة تماما. فلم نقرأ او نسمع
عن محمد درة هندي ، ولم نشاهد هدي غالية هندية تتمرغ في
رمال بحر غزة المعجونة بدماء افراد اسرتها التي مزقت اجسادهم
قذيفة اسرائيلية.
ختاما نقول بأنه يبدو ان مفهوم الأسرة الحاكمة السعودية
للجهاد هو ذلك الذي يمارس ضد اعداء امريكا، ولتحقيق مصالحها
الاستراتيجية مثلما حصل في افغانستان والكويت، ولكن عندما
يمارسه البعض ضد امريكا مثلما هو حاصل في العراق، وضد
اسرائيل مثلما هو حاصل في فلسطين، فإن هذا ليس جهادا،
وانما هو عنف ان لم يكن ارهابا، وهذا ما يفسر هذا الحماس
للجهاد علي الطريقة الغاندية.
عبد الباري عطوان
القدس العربي 12/7/2006
|