السعودية في الفخ الأميركي ـ الاسرائيلي
من تفكيك المقاومة الى تفكيك الشرق الاوسط
لم يشفع لها كل التدابير اللاحقة التي حاولت بها تغطية
الموقف المخزي الذي أعلنت عنه في بداية العدوان الاسرائيلي،
فقد أرادت تلميع صورتها دولياً من خلال تحميل المقاومة
اللبنانية مسؤولية العدوان، فتشوّهت صورتها شعبياً على
المستوى العربي والاسلامي، بعد أن أسفر المخطط الاميركي
ـ الاسرائيلي عن بشاعته، فقد أصبح البيان السعودي ـ الفضيحة
جزءاً من مكونات هذا المخطط، حيث بات ينظر الشارع العربي
والاسلامي الى الحكومة السعودية بوصفها جزءاً من معسكر
العدوان الاميركي ـ الاسرائيلي على لبنان شعباً ودولة
ومقاومة. فقد ذكرت القيادات السياسية والدينية في لبنان
بأن قمة الثماني المؤيدة في قرارها من السعودية ومصر والاردن
أطلقت يد اسرائيل في تدمير لبنان وقتل شعبه، من أجل اسقاطة
الممانعة في العالم العربي.
خسرت السعودية في محاولة بناء صورتها المشوّهة عربياً
واسلامياً، فلم يعد ينظر اليها عربياً سوى دولة مناهضة
لمصالح العرب والمسلمين، واذا ما تكشّفت تفاصيل المخطط
الاميركي ـ الاسرائيلي على لبنان والمنطقة بصورة عامة،
فإن السعودية ستجد نفسها في مربع الاعداء، ما لم تنسحب
على وجه السرعة من مخطط (الشرق الاوسط الجديد) الذي تبين
أنه خلفية العدوان الاسرائيلي على لبنان، وأن القضية لم
تكن مقتصرة على جنديين أسيرين، بل هي محاولة لاعادة تركيب
المنطقة وفق المخطط الاستراتيجي الاميركي الاسرائيلي.
أثبتت المداولات الدبلوماسية حول العدوان على لبنان
أن السعودية لم تكن أثيرة لدى واشنطن، ولن تكون وخصوصاً
حين تكون القضية متعلقة مع الكيان الاسرائيلي، فالمبادرة
السعودية التي حملها الامير سلطان الى باريس واجهت رفضاً
أميركياً وإسرائيلياً، وأن الموفدين عن الملك عبد الله
وزير الخارجية سعود الفيصل ورئيس مجلس الامن الوطني بندر
بن سلطان عادا أدراجهما خائبين من قمة الثماني التي خطفت
واشنطن قرارها وارادتها.
كان بإمكان السعودية أن تدرك في مرحلة مبكرة بأن خطأها
الفادح لن يتم تداركه من خلال تحالفها الاستراتيجي مع
واشنطن، التي لن تساوم على تحالفها المصيري مع الكيان
الاسرائيلي، ولذلك لم تجد في واشنطن معيناً لها على الخروج
من المأزق الذي وجدت نفسها فيه حين أعلنت في بيانها الفضيحة
الاول عن تحميل المقاومة اللبنانية مسؤولية العدوان الصهيوني
الهمجي على لبنان.
لاشك أن الحكومة السعودية قد تفاجأت بهمجية العداون
الاسرائيلي، وكانت تعتقد، شأنها شأن عدد آخر من الحكومات
العربية، أن الآلة العسكرية الصهيونية ستكتفي بتدمير البنية
التحتية للمقاومة اللبنانية لا أن تقطّع أوصال لبنان شعباً
وأرضاً، كما تفاجأت، وهنا مربط الفرس، أن العدوان الصهيوني
واجه مقاومة عنيدة حققت ما عجزت عنه دول عربية أخرى في
حروبها مع الدولة العبرية، وكشفت هذه المقاومة عن عمق
الخلل في بنى الحكومات العربية التي أفرطت في عقد صفقات
الاسلحة المليارية فوجدت طريقها الى المخازن وليس الى
الجبهات، فيما تحوّلت الصفقات الى وسيلة لنهب المال العام.
تنبّهت القيادة السعودية الى الابتزاز الاميركي ـ الاسرائيلي
لموقفها المتخاذل، ولكن ولات حين مندم، فقد تمسكّت الحكومة
العبرية بالموقف الاولي للسعودية ومصر والاردن كيما تسقط
حمم قنابلها الغبية على المدنيين الابرياء وراحت تعبث
بآلة الدمار في كل أرجاء لبنان المقاوم.
إن دعوة المجتمع الدولي الى (القيام بواجبه، للضغط
على اسرائيل لارغامها على وقف فوري للقتال، الذي تجاوز
الحدود) لم تكن مجرد دعوة عابرة اعتادت البيانات السعودية
عليها، فقد هالها الدمار الرهيب الذي لحق بلبنان، واكتشفت
بأنها وقعت في (كمين) سياسي أميركي ـ اسرائيلي، وأن بيانها
الأول جرى توظيفه في خدمة تدمير لبنان، وأن ما قامت من
تخصيص منحة مالية لصندوق إعادة الاعمار لم يكن سوى جزءا
من مسعى الخلاص من عقدة الذنب، وإغمار الموقف المخزي،
وهو ما دفعها لتكثيف جهودها الدبلوماسية والاعلامية والسياسية
في سبيل إعادة بناء صورتها العربية والاسلامية، بعد أن
خرجت المظاهرات الشعبية في كل أرجاء الوطن العربي منددة
بموقف السعودية والاردن ومصر، والذي تم تصويره كمثلث شر
عربي يوفّر الغطاء السياسي للعدوان الاسرائيلي ـ الأميركي
على لبنان.
خدعه السديريون أم الأميركيون؟
|
لهجة الدبلوماسيين السعوديين كانت واضحة في توترها
وانفلاتها بعد ردود الفعل على موقفها، فقد خرج وزير الخارجية
السعودي الامير سعود الفيصل عن اللياقة الدبلوماسية حين
خاطب وزير الخارجية السوري وليد المعلم في اجتماع القاهرة
الاستثنائي لوزراء خارجية الدول الاعضاء في الجامعة العربية
بأسلوب يتسم بالفضاضة حين تمنى المعلم بأن تقف الدول العربية
الى جانب المقاومة اللبنانية ضد العدوان الصهيوني، فرد
سعود الفيصل بأن ذلك (لن يكون سوى في أحلامك)، وكأن الوقوف
الى جانب لبنان أصبح ذنباً. لقد أوغل الدبلوماسيون السعوديون
في الاصرار على موقف أقلّ ما يقال عنه بأنه (غير مسؤول)
فضلاً عن تداعياته الكارثية على مسار الحرب في شقيها العسكري
والدبلوماسي.
إن التطورات الميدانية والسياسية فرضت نفسها على السلوك
السعودي الرسمي، فقد وجدت نفسها محشورة في زاوية حادة،
الأمر الذي كلّفها ثمناً غالياً على المستوى الدبلوماسي
والسياسي والشعبي، وراحت تشرح موقفها وجهودها الدبلوماسية
لوقف اطلاق النار، ولكنها لم تتخلّص من المكابرة الوهمية
في شرح الموقف الفضيحة. فقد وزعت السفارة السعودية في
بيروت بيان الديوان الملكي الصادر في 25 يوليو الماضي
جاء فيه:
لقد قامت المملكة العربية السعودية بدورها الذي يفرضه
عليها واجبها الديني والقومي في شأن الاوضاع في المنطقة
وتداعيات الاحداث في لبنان والاراضي الفلسطينية المحتلة،
فحذّرت وأنذرت ونصحت، ولم تأبه بمزايدات المزايدين، ولم
تكتف بذلك بل سعت منذ اللحظة الاولى الى وقف العدوان وتحركت
على أكثر من صعيد، وبأكثر من وسيلة، لحث المجتمع الدولي
على إرغام اسرائيل على وقف النار.
وقد أوفدت سمو وزير الخارجية وسمو الأمين العام لمجلس
الامن الوطني، الى مقابلة فخامة الرئيس الاميركي في واشنطن،
وابلاغه وجهة نظرها حول النتائج الخطيرة التي تترتب على
استمرار العدوان والتي لا يمكن لأحد أن يتنبأ بعواقبها
اذا خرجت الأمور عن السيطرة، كما كلّفت المندوبين الشخصيين
زيارة عواصم الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن لابلاغ
الرسالة نفسها فقد أعلن العرب السلام خياراً استراتيجياً
للأمة العربية، وتقدموا بمشروع واضح منصف يتضمن إعادة
الاراضي العربية المحتلة في مقابل السلام ورفضوا الاستجابة
للاستفزاز، وتجاهلوا الدعوات المتطرفة التي تحارب السلام،
الا أنه ينبغي القول أن الصبر لا يمكن أن يدوم الى الأبد،
وأنه اذا استمرت المواجهة الوحشية العسكرية الاسرائيلية
في القتل والتدمير فإن أحداً لا يمكنه أن يتوقع ما قد
يحدث، وعندما يقع المحظور لا يجدي الندم).
(لذا تتوجه المملكة الى المجتمع الدولي كله، ممثلاً
في الامم المتحدة، والى الولايات المتحدة الاميركية بصفة
خاصة، بمناشدة وتحذير. تناشد المملكة العربية السعودية
الجميع أن يتحركوا وفقاً لما يمليه عليهم الضمير الحي
والشرائع الاخلاقية والانسانية والدولية. وتحذّر الجميع
من أنه اذا سقط خيار السلام نتيجة للغطرسة الاسرائيلية
فلن يبقى سوى خيار الحرب، وعندها لا يعلم الا الله، جلّت
قدرته، بما ستشهده المنطقة من حروب ونزاعات لن يسلم من
شرها أحد، حتى الذين تدفعهم قوتهم العسكرية الآن الى اللعب
بالنار. إن المملكة العربية السعودية، والى جانب تحركها
السياسي، تشعر بأن المأساة الانسانية في لبنان وفلسطين
تتطلب دعماً سخياً من كل عربي وكل مسلم وكل انسان شريف،
ومن هذا المنطلق، وجه خادم الحرمين الشريفين، رعاه الله،
الى حملة تبرعات شعبية تبدأ غداً الاربعاء (26 يوليو)
داعياَ كل مواطن ومواطنة لما عرف من الشعب السعودي الأبي
من سخاء ووفاء وحمية لأمتيه العربية والاسلامية).
وفي مرحلة الاعمار نصّ بيان الديوان الملكي: (يسرّ
المملكة أن تكون أول المساهمين في هذا المجهود. وفي هذا
السياق، وجّه خادم الحرمين الشريفين بتخصيص منحة قدرها
خمسمئة مليون دولار للشعب اللبناني لتكون نواة صندوق عربي
دولي لاعمار لبنان. كما وجّه حفظه الله بايداع وديعة بألف
مليون دولار في المصرف اللبناني المركزي دعماً للاقتصاد
اللبناني. كما وجه، حفظه الله، بتخصيص منحة مقدارها مئتان
وخمسون مليون دولار للشعب الفلسطيني لتكون بدورها نواة
لصندوق عربي دولي لاعمار فلسطين)
وأضاف البيان (وتدعو المملكة العربية السعودية حكومة
وشعباً جميع الدول العربية والاسلامية ودول العالم كافة
الى التصدي لدورهم ومسؤولياتهم تجاه ما يحدث، لكي يتمكن
المجتمع الدولي سوياً من تقديم عون فاعلٍ ملموس ينفع الاشقاء
أكثر مما تنفعهم عبارات الشجب والاستنكار).
وبالرغم من أن البيان لقي ترحيباً دبلوماسياً شكلياً
من القيادات السياسية اللبنانية، فإن ذلك لم يغير حقيقة
كون السعودية اقترفت خطأً فادحاً منذ بدء العدوان، فأرادت
تصحيح خطأها بتعويضات زهيدة مادية ومعنوية. وكانت قيادات
سياسية لبنانية قد استغربت بيان السعودية الاول وشككت
في حكمة القيادة السياسية السعودية، حيث ألمحت هذه القيادات،
كما جاء في تصريحات رئيس وزراء اللبناني الاسبق الدكتور
سليم الحص، الى أن هناك جهة في داخل الحكومة السعودية
قد صاغت البيان في مناصرة لقوى لبنانية والتي تلتقي مصالحها
مع اسرائيل والادارة الاميركية في ضرب المقاومة وتحويل
لبنان الى دولة مرتهنة للنظام الدولي بصفته الاميركية
الاسرائيلية.
لقد تنبّهت قيادات سياسية لبنانية الى أن ثمة صراعاً
خفياً داخل الحكومة السعودية وهو ما يفسّر عدم انضباط
الايقاع السياسي في هذا البلد، فقد حمّلت قيادات لبنانية
مسؤولية الموقف اللامسؤول للثالوث السديري، الذي يمثّل
السند الرئيسي لقوى 14 آذار في لبنان ممثلة في: الشيخ
سعد الحريري، ووليد جنبلاط، وسمير جعجع، وأمين الجميل.
مبادرة الامير سلطان التي حملها الى باريس جاءت عقب
الحديث عن (الشرق الاوسط الجديد) الذي تضمّن تهديداً غير
مباشر للسعودية، التي شعرت بأنها غير مأمونة في أية ترتيبات
جيوسياسية أميركية. عادت نغمة التقسيم مجدداً عبر لافتات
الشرق الاوسط الجديد أو الكبير، وهو أمر يثير مخاوف السعودية،
التي تدرك بأن تلك الترتيبات هي بغرض تحقيق التفوّق الاسرائيلي
في الشرق الاوسط، وتحويل دوله الى مجرد كيانات هزيلة تابعة
أو خاضعة للنفوذ الاميركي ـ الاسرائيلي.
كانت الحكومة السعودية تعتقد بأن الأمر سيقتصر على
تفكيك المقاومة اللبنانية التي تختلف حكماً معها لأنها
هشّمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر وفضحت الانظمة العربية
في صمودها وانتصارها، ولكن مخطط التفكيك بدا وكأنه شامل
يمتد الى الخارطة الجيوسياسية للشرق الاوسط، وهنا تكمن
الخديعة ولسان حال الحكومة السعودية يقول بأنها قد لفّت
الحبل حول عنقها.
أرادت العائلة المالكة أن ينتهي نموذج المقاومة اللبنانية
قبل أن يسري عدواه الى داخل أراضيها، فهو نموذج له قابلية
الاستنساخ ويمتلك من المصداقية كنموذج بصرف النظر عن هويته
كيما يحقق انتشاراً واسعاً، ولكن اكتشفت بأن من تخندقت
معهم ضمنياً لضرب المقاومة اللبنانية وجّهوا لها طعنة
في الظهر، حين قرروا بأن يكون القضاء على المقاومة اللبنانية
مقدمة ومدخلاً لتغيير وجه الشرق الاوسط برمته.
|