الغطاء الثقافي لفضيحة السلطة
النـخبـوي الـخـانـع
يكتسب النخبوي صفته وموقعه كونه متميّزاً، مختلفاً،
منفصلاً عن السائد، والشائع، والرتيب في مجتمعه، ويكتسب
صفته أيضاً كونه يحمل تطلعاً، طموحاً، رؤية نحو تغيير
مجتمعه، وهي مهمة تندمج في نسيج الوعي النخبوي، ذلك الوعي
التغييري، النضالي، الاصلاحي. ولأنه كذلك، فهو يرفض التماهي
مع الواقع، سواء كان إجتماعياً أم سياسياً، ويرفض أن يتحوّل
الى بوق في أوركسترا الدعاية التابعة للسلطة، والسبب ببساطة
لأن الاخيرة مسؤولة عن صناعة الواقع الذي يرفضه النخبوي.
النخبوي متمرد بطبعه، بحكم تكوينه الثقافي، ولذلك فهو
يخضع لضغط الاحتواء والتدجين من قبل السلطة بدرجة أولى،
بما يفضي الى تشويه وعيه ووظيفته التغييرية، ويتم تسخير
طاقته الفكرية في مشروع السلطة وتبرير سياساتها، بل وتوفير
غطاء ثقافي كثيف لمواقفها حقاً كانت أم باطلاً، بما ينزع
عن النخبوي صفته ويتحول الى مجرد مكتسب، مستثمر، وسلطوي،
وهذا ناشىء عن خلل ليس في وعيه ولكنه في علاقة النخبوي
مع محيطه الاجتماعي.
أزمة النخبوي في ديارنا تكمن ليس في عزلته ولكن في
انحلاله وجبنه، فهو يريد مكسباً وانتصاراً ناعماً ويريد
تغيير الكون بمنديل حريري، في زمن يتدجج فيه دعاة الديمقراطية
والليبرالية في الغرب بكل أنواع الاسلحة الفتّاكة والدموية.
نتيجة امتحان النخبوي في التحديات تأتي دائمة سالبة، فقد
تعوّد على جلسات التنظير المفصولة عن أي فعل، فكل سلاحه
كلمة باردة جرى تدجينها خلال عمليات تجبين متبادل في مجالس
نخبوية فارغة، أو إشارات تهديد ناعمة من السلطة وأصحاب
النفوذ، أو جهاز الهلع الذاتي الذي ينتصر دائماً.
النخبوي في ديارنا أدمن ثقافة التبرير لكل ما يفقده
مكسباً في اليد أو مصلحة مأمولة، فهو يصطفُّ تلقائياً
مع السلطة ويتحوّل ناطقاً غير رسمي بإسمها.. المسافة الفاصلة
بين الشعب والسلطة في وعي النخبوي مرسومة بحدود المصلحة
الخاصة.
النخبوي يرسم خط الرجعة قبل التفكير في الولوج الى
خط الممانعة والتحدي، فهو أسير عالم منفصل عن المجتمع،
يعيش عزلة نرجسية ويتبّرم من تخلف مجتمعه، ولكنه ليس على
استعداد للتقدم خطوة باتجاه تغييره أو التعايش مع همومه،
النخبوي يناضل من أجل تغيير وضعه الخاص وليس تغيير المجتمع،
بمعنى أنه يفني طاقته لجهة العثور على موقع وليس صنع واقع.
مشكلة النخبوي في ديارنا تكمن في تداخله مع شبكة مصالح
السلطة فهو لا يريد تغييرها قبل أن يطمئن الى غياب مصدر
تهديد لمصالحه، وبالتالي قلة هي التضحيات التي يقوم بها،
كما هي قلة المواقف الباسلة التي يسجّلها.. هو يريد مكافأة
عالية لفعل ضئيل.
قد ينخرط النخبوي بقصد أو أحياناً ببلاهة في معارك
السلطة التي قد يكون محرّضها الايديولوجي على النقيض من
مبادىء وأفكار يؤمن بها هذا النخبوي، فتجده أحياناً جزءاً
من فتنة طائفية لكونها تبطن مكاسب سياسية خاصة غير منظورة،
وقد تجده ناطقاً غير رسمي لتبرير مواقف السلطة لكونها
على الضد من مواقف خصومها الوهميين، وقد يفعل النخبوي
ذلك زلفة للسلطة، وتثميراً لموقف مجاني يقدّمه رجاء الحصول
على مكافأة مأمولة يحصل عليها لاحقاً.. النخبوي هنا يفقد
استقلاليته المفترضة عن السلطة كونه ممثلاً عن مصالح المجتمع
وهمومه.
النخبوي في ديارنا عقيم الانتاجية لأنه يخضع تحت تأثير
ممليات الواقع المعيوش سلطوياً واجتماعياً، فتجده سلفياً
حين يكون تهديد السلطة من زاوية سلفية، وتجده رسمياً حين
يكون تهديد السلطة من زاوية تغيير شكل الحكم.
النخبوي النجدي يختلف بالتأكيد عن النخبوي الحجازي،
كون الأول مازال ينظر الى الدولة بوصفها امتيازاً نجدياً
مهما اختلف معها، ولكن النخبوي غير النجدي فله حسابات
مختلفة، ولديه قابلية الاستقلال والاحتفاظ بهويته كنخبوي
منفصل عن فلك السلطة، ولديه قابلية تمثيل المجتمع تمثيلاً
صادقاً.
بعض من قدّموا مواقف حول بيان الحكومة الاول بشأن الحرب
العدوانية الاميركية الاسرائيلية على لبنان قد انساقوا
مع موقف الحكومة، وإن أقصى ما يقال عن تلك المواقف بأنها
خارج لحظة وعي في لحظة حاسمة. فقد تحوّل بعض أفراد النخبة
الى أكثر من شارحين للبيان السعودي الذي كان بكل المعايير
فضيحة سياسية، فقد برر بعض مثقفينا هذا الموقف (المشين)،
وتمادوا في تبريره حين دبّجوا مقالات في شرح (الحكمة!!)
من البيان إمعاناً في تبرير موقف كنا نتمنى لو وجد طريقه
تحت الارض، حيث المثوى الطبيعي لمثل هكذا بيانات.
تفسير مواقف هؤلاء المثقفين لا يحتاج الى مزيد من العناء،
فحين ينكفىء النخبوي على ذاته يصبح أقرب الى همومه الخاصة
منه الى هموم مجتمعه، وبالتالي فهو يفبرك معايير تقترب
من تعضيد السلطة، بما هي مركز لتجميع المكاسب، وحاصل جمع
القوة، وهو ما يدفع النخبوي للانتقال الى المجال الحيوي
للسلطة وليس المجتمع.
فوجيء كثيرٌ منا من انثيال بعض أفراد النخبة المثقفة
نحو تسويغ فضيحة البيان السعودي الاول من العدوان الصهيوني
على لبنان، فيما كانت بوادر (الخديعة الاميركية ـ الاسرائيلية)
تتكشّف تدريجياً، حيث تم توظيف البيان السعودي في توفير
غطاء سياسي عربي لعدوان همجي صهويني ينزل حمماً على الاطفال
والنساء والشجر والحجر في لبنان. كان يفترض من النخبوي
(عقلنة) الموقف السعودي الاول، والخروج من شرنقة الرؤى
الضيقة، والانعتاق من تركة الماضي، واستعادة الوعي بأزمة
العلاقات الدولية، واختلال التوازن بين القوى، بل والأهم
من ذلك طبيعة الدولة العبرية القائمة على العدوان والهمجية
والغطرسة ودور القوى الكبرى في توفير الغطاء السياسي والعسكري
واللوجستي لها، وهو ما بدا فاضحاً بعد أيام من العدوان،
حيث أهملت الولايات المتحدة وأوروبا كل المناشدات العربية
والدولية لوقف اطلاق النار. لم يدرك النخبوي في ديارنا
أنه سيخسر في (مضاربة) سياسية واضحة النتائج سلفاً، فراح
النخبوي يصاهر بين وعيه ومصلحته، ليسوق موقفاً متهافتاً
بل وفضيحة سياسية بامتياز في وقت كانت الصدمة واضحة لدى
النخب العربية من بيان سعودي منفلت من عقاله، فقد أصاب
البيان ضمير العرب والمسلمين، خصوصاً بعد أن سمعوا عن
الترحيب الاسرائيلي به.
حاول بعض أفراد النخبة أن يفسّروا ردود الفعل العربية
والاسلامية على البيان السعودي، فأعادوا توزيع (التركة
الطائفية) السعودية بامتياز والمنتجة خلال الحرب العراقية
الايرانية، وأرادوا بذلك تغليف ردود الفعل برداء طائفي
لعلهم يدفعون عن البيان السعودي صفته كـ(فضيحة). ومن اللافت
في تفسير النخبوي الخانع جنوحه الى تقديم شهادة براءة
مفتوحة للسلطة بأثر رجعي عن دورها الطائفي في الماضي،
فيما نعلم جميعاً ان التراث الطائفي في مناهجنا التعليمية،
وفي سياسات الدولة على مستويات الشراكة السياسية، والتوظيف،
وتوزيع الخدمات، بل والعلاقة بين فئات المجتمع والدولة
قائمة في الاصل على أساس طائفي، بل إن الدولة لم تقم الا
على قاعدة طائفية، ولم تكن فتوى ابن جبرين العضو السابق
في هيئة كبار العلماء ولا الثقافة الطائفية التي اندلعت
نيرانها في مقالات، ومواقع حوارية تابعة لوزارة الداخلية،
وكذلك الصمت الفاضح للحكومة ومؤسستها الدينية عن العدوان
الصهيوني على لبنان سوى تعبيراً بليغاً عن الطائفية السياسية
المتجذّرة في بنية الدولة السعودية.
بعض مثقفينا هالهم رد الفعل العربي والاسلامي على البيان
السعودي فوضعوا لرد الفعل هذا قياسات طائفية، حين فسّروه
على أنه نابع من خلفية طائفية، فيما كان الشارع العربي
برمته ينتفض غضباً على الموقف السعودي غير المسؤول والاستسلامي،
فبالغوا في القول خطئاً بأن (الموقف السعودي الرسمي من
نبذ الطائفية معروف ومشهود وموثق) ولا ندري هل ضعف ذاكرة
بعض مثقفينا أم قلة بضاعتهم في التاريخ الحديث هو ما يدفع
بهم لتقديم موقف مبتذل يجانب الحقيقة بل وينقلب عليها.
لم يكن ثمة حاجة لأن يستغل أحد البيان السعودي طائفياً،
ولم يكن أحد يجهل أن الطائفية كانت محرّضاً فاعلاً في
المواقف السعودية الرسمية: فماذا نفسّر قبول السعودية
بالهيمنة الاميركية ورفضها لامتلاك ايران للسلاح النووي،
وكيف نفسّر انغماس مواطنين سعوديين في برك الدم العراقية.
لو اختار بعض مثقفينا مدخلاً مختلفاً لتبرير البيان
السعودي غير المدخل الطائفي لكان أحرى بهم من استعمال
هذا المدخل الذي يكاد يفوق في وضوحه قضايانا الوطنية.
ليست الطائفية بحاجة الى مغرضين، فالبيان كان واضحاً وقد
فهمه الجاهل والعالم، بل ان استدراكات الحكومة السعودية
بعد ردود الفعل على البيان تنبىء عن اكتشاف متأخر لخطأ
فادح ارتكبته الحكومة، ويكفي فيه الخطأ أنه جرى استغلاله
من قبل الدولة العبرية في تقطيع الاوصال واسقاط كل المحرمات
في عدوانها على لبنان.
تحدّث البعض عما أسماه بـ (الاستغلال الطائفي) لبيان
الحكومة السعودية في الثاني عشر من يوليو، أول يوم للعدوان
الصهيوني على لبنان، على أساس أن البيان السعودي لم يكن
محثوثاً باعتبارات طائفية، وأن هناك من خلط بين الموقف
السياسي والانتماء المذهبي، تماماً كما خلط كثيرون بين
حوادث الحادي عشر من سبتمبر والاسلام، وهي مقارنة رديئة
للغاية كون البادىء بالعدوان هو الجانب الاسرائيلي، وأن
القضية المتنازع عليها هي قضية مشروعة لبنانياً: تحرير
الاسرى، وردع العدوان، وتحرير الارض، ولا يجوز الربط والمقارنة
بين هجمات سبتمبر التي قتلت أبرياء وبين همجية العدوان
الصهيوني المدعوم أميركياً على لبنان.
إن إدخال قضية حوادث الحادي عشر من سبتمبر في إطار
قضايانا العربية والاسلامية المشروعة: قضية فلسطين، والعدوان
الاسرائيلي على لبنان هي من باب تبرير العدوان، وتوفير
الذريعة له بالتمادي مع أن هذا الاسلوب يستهدف في الاساس
الدفاع عن البيان السعودي ـ الفضيحة، وهذا الخلط يلتقي
مع خطاب الرئيس الاميركي بوش حين وضعنا جميعاً في جبهة
الارهابيين لدفاعنا عن قضايانا المشروعة، ولوقوفنا مع
حق المقاومة في فلسطين ولبنان ضد العدوان الاسرائيلي الهمجي.
فكما بلعت الحكومة السعودية الطعم الذي دسّه الاميركيون
والاسرائيليون اليها حين أوهموها بأن ما قام به حزب الله
من أسر الجنديين هو المبرر للعدوان الاسرائيلي وليس الاخير
جزءاً من تبييت أميركي ـ اسرائيلي لفرض خارطة شرق أوسط
جديد، تستهدف تبديل وتعديل الكيانات السياسية القائمة
بما في ذلك السعودية التي مازالت في رسم المخطط التقسيمي
الاميركي، كذلك بلع بعض مثقفينا طعم (الحرب على الارهاب)
ولكن بطريقة مختلفة، حين وضعوا المقاومة الفلسطينية واللبنانية
في قائمة الشبكات المسلّحة مثل تنظيم القاعدة، لتبرير
الحرب على المقاومة تحت عنوان الحرب على الارهاب.
ينزع بعض مثقفينا الى تحميل الشارع مسؤولية مواقفهم
التقسيمية حين يمطرونه بمواقف غير مسؤولة وفي وقت تشهد
ساحتنا غلياناً ضد العدوان، والخديعة، والاستهتار بكرامة
أمة بأكملها، ويطالبون من يسمونهم بـ (العقلاء) بأن يتدخلوا
للجم المشاعر، ولكن ضد من؟، وفي أي وقت؟ وهم ينظرون الى
تهافت وخذلان وهوان القادة العرب أمام الغطرسة الاميركية
ـ الاسرائيلية.
يجب علينا كإصلاحيين التأكيد مجدداً على ثوابتنا القومية
والاسلامية، وألا ننسى في غمرة انشغالاتنا السياسية الوطنية
بأننا أبناء أمة تواجه تحديات من قوى ظالمة تتخفى تحت
شعارات: الديمقراطية، والليبرالية، وحقوق الانسان وهي
لا تختلف عن القوى الظلامية في بلداننا التي تتخفى تحت
شعارات: الاسلام، والوحدة الوطنية، وقضايا الامة العربية،
فهي قوى تتوسل بشعارات سامية وكبرى لاخفاء أو شرعنة طغيانها.
إننا كإصلاحيين، ليبراليين ودينيين، ضد أي مساومة على
قضايا الامة سواء كانت من أمريكا أو الانظمة العربية ويجب
الاعلان عن هذا الموقف دائماً.
فالغرب سخر من وعينا جميعاً حتى باتت قباحاته تتقيأ
على لسان الرئيس الاميركي بوش الذي باع دماء ضحايا شعبه
في الحادي عشر من سبتمبر في حروب ضد شعوب العالم بإسم
مسرحية هزيلة عنوانها (الحرب على الارهاب) حتى بتنا كشعوب
ونخب وقوى اصلاحية وحركات مقاومة جميعاً في مرصد الحرب
على الارهاب.
يكفينا مهازل هذا العالم الموبوء بكل أشكال الاجرام
والهمجية، وأن التعامل بالمبادىء والمثل يصبح غباءً محضاً،
لأن من يصنعون القرار يلجأون الى منطق القوة وليس الى
قوة المنطق. وأن إضبارة حقوق الانسان والديمقراطية تصبح
مجرد أسلحة ابتزاز بيد زعماء عصابات بحجم قوى عظمى، لا
يعنيهم من قضايا الانسان الا ما يعزز الهيمنة والطغيان
والغطرسة.
|