العقلية الطائفية
السلفيّة تبرر العدوان الإسرائيلي على لبنان
لماذا تثير المقاومة الاسلامية اللبنانية ممثلة في
حزب الله هذا الضجيج الطائفي كله، مع أنها بشهادة المراقبين
والعارفين بتجربة حزب الله مقاومة نموذجية في مثلها وشعاراتها
وقضيتها بوصفها حركة تحرير لأرض محتلة وحركة مقاومة ضد
الاعتداء والغطرسة الصهيونية، فقد ظلت بنادق المقاومة
مصوّبة طيلة أكثر من عقدين تجاه عدو واضح هو الكيان الاسرائيلي
الغاصب للأرض. في المقابل، لم تثر ما يسمى بالمقاومة العراقية
هذا الضجيج برغم انغماسها في المستنقع الطائفي، واستهدافها
للمدنيين بحيث لم تعد تفرّق بين الطفل العراقي والجندي
الاميركي فكلاهما هدف مفتوح لعملياتها الانتحارية، الى
جانب كونها تحمل قضية جدلية، أي مثار اختلاف بين الطيف
السياسي الداخلي فضلاً عما تثيره من اشكالات على المستوى
الديني ـ المذهبي.
والسؤال: لماذا يطرح البعد الطائفي حين تكون القضية
مرتبطة بحزب الله، أو إيران أو الشيعة في السعودية، وكأن
هناك من يتعمّد تأكيد هذا البعد وخصوصاً في قضية بمثل
هذا الوضوح كقضية المقاومة اللبنانية رغم كونها وطنية
وإسلامية والأهم أنها مقاومة مشروعة ونزيهة، ولماذا يغفل
البعض عن أن هذه المقاومة حققت نجاحاً باهراً في العام
2000 حين حررت القسم الأكبر من الأرض فيما عجزت دول عربية
أخرى عن استعادة أراضيها عن طريق القوة بل عن طريق المعاهدات
المذلّة، ولم تحصد هذه الدول من عملية السلام المذل سوى
التنازل الملغوم. لماذا ينسى المغرمون بالخوض في الوحل
الطائفي، أن شعارات المقاومة اللبنانية كما شقيقتها الفلسطينية
كانت دائماً إسلامية وحدوية، فقد منح حزب الله انتصاره
في سنة 2000 لكل لبنان ولكل الأمة بما في ذلك أعداء المقاومة،
فقد نال الجميع وسام شرف الانتصار وتحرير الارض دون عناء.
ولماذا يثار البعد الطائفي، في حين كان خطاب المقاومة
اللبنانية وحدوياً، وهي التي التحمت بالقضية الفلسطينية
ودافعت عنها إعلامياً وسياسياً وتالياً عسكرياً، ونأت
حتى بعد أن جهرت الحكومة السعودية ببيانها المشين في ادانة
المقاومة، وبعد صدور فتاوى من علماء دين كبار في المدرسة
السلفية تبالغ في النكير على المقاومة اللبنانية لا لشيء
سوى لأن أفرادها ينتمون الى الشيعة، الى درجة أن شيخاً
صحوياً مثل سفر الحوالي يفتي بعدم جواز الدعاء لحزب الله
في مقاومته للعدوان الاسرائيلي في محاضرة له في بريدة
بتاريخ السادس من أغسطس. لماذا كل هذا الجنوح في الخصومة،
والى متى نبقى أسرى جهل بالواقع والاندفان في التاريخ
المكتوب بمداد مشبوه. وحتى على فرض وجود خصومة فهل من
الحكمة في شيء أن يستغل بعض الطائفيين ظروف الحرب الهمجية
الاميركية الصهيونية على شعب لبنان لتصفية حسابات وهمية
لا توجد الا في جماجمهم.
حين نشر موقع السي ان ان الاميركي مقالاً حول الموقف
السلفي من العدوان الاسرائيلي على لبنان لم يكن علماء
الوهابية يدركون بأنهم باتوا جزءاً من العدوان وشركاء
في سفك الدم العربي والاسلامي، بل لم يصلهم نبأ أنهم أصبحوا
في منطق العدوان الاسرائيلي حلفاء ضمنيين، ومباركين لعملياته
الوحشية. فبينما وفّرت الحكومة غطاءً سياسياً للعدوان،
ووفّر بعض كتّابنا غطاءً ثقافياً، وفّر أيضاً بعض العلماء
السلفيين مثل ابن جبرين وسفر الحوالي غطاءً دينياً، فمثل
تلك الكتابات الطائفية التي بلغ فيها الاسفاف والاسراف
في الخصومة والاقتلاعية مستوى يبعث على الغثيان والسخط
من أولئك الماسكين بمصادر توجيه الرأي العام الديني السلفي.
فالى جانب انحباسهم في رؤية دينية وتاريخية متعفّنة بوحي
من هوسهم بالخلافات المذهبية التي تلتهم وعيهم السياسي،
فإنهم يتحوّلون الى صيد سهل سواء للسلطة أو حتى للقوى
المعادية للأمة العربية والاسلامية لأن تستعملهم أسلحة
في معاركها.
حين تصدر فتوى من عالم وهابي تقضي بأن يكون الشيعة
أسوأ من اليهود والنصارى، أو أن يركّب عالم آخر صورة مفبركة
عن الشيعة وخطرهم الافتراضي على الأمة، لم يدرك هذا العالم
بأن ذلك كله بات صالحاً للاستعمال اسرائيلياً وأميركياً.
لم يخطىء وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر حين
قال بأن (على الحكومات السنيّة أن تتحمل مسؤوليتها) في
هذه الحرب، فهو يدرك بأن الطائفية وحدها الفتيل الاسرع
لاشعال حريق الخلاف السياسي وعزل المقاومة الاسلامية في
لبنان عن محيطها العربي، عبر تصوير الحرب وكأنها ضد مؤامرة
شيعية، أو كأن القتال الدائر بين الكيان الاسرائيلي الغاصب
والمقاومة اللبنانية له وجه آخر هو حرب سنية شيعية، وكأن
اسرائيل تحوّلت الى دولة تدافع عن حقوق السنة في وجه المعسكر
الشيعي المؤلف من ايران وسوريا وحزب الله. الكاتب الاسرائيلي
الصهويني دانييل بايبس يقول في مقالة بعنوان (الحرب غير
الضرورية لاسرائيل) بأن (اسرائيل تقوم بالدور القذر بالنيابة
عن الحكومات العربية)، في إشارة واضحة الى أن هذه الحكومات
مجمعة على مخطط تصفية المقاومة اللبنانية، وأن إسرائيل
في حربها ضد لبنان هي للقيام بمهمة تصفية المقاومة نيابة
عن تلك الحكومات. لم يكن هذا التحليل طوباوياً فقد عبّرت
عدد من الحكومات العربية عن تلك الرغبة ضمنياً حين أدانت
أسر الجنديين الاسرائيليين وطالبت ببسط الحكومة اللبنانية
سيادتها على كامل الاراضي في إشارة غير مباشرة الى تصفية
المقاومة، برغم علم الجميع بأن الجيش اللبناني لا يمتلك
من رصيد الممانعة بالقدر الذي يردع العدوان الاسرائيلي
أو يحول دون تماديه كما تفعل المقاومة، فالكل يعلم أن
الاخيرة أقوى من الجيش النظامي ولو كان هذا الجيش هو المسؤول
عن حماية الجنوب لوصلت قوات العدو الاسرائيلي الى بيروت
خلال أقل من ثمانٍ وأربعين ساعة كما حصل في الاجتياحات
السابقة.
رغبة الحكومات العربية تلتقي هي الاخرى مع رغبة بل
ومخطط قوى الرابع عشر من آذار التي لم تخف نواياها قديماً
وقبولها المكتوم بالعدوان الصهيوني، وكأن الجميع متفق
على تطبيق قرار 1559 القاضي في أحد بنوده بتجريد حزب الله
من سلاحه تحت مسمى الميليشيات المسلّحة.
كان مشيناً من علماء سلفيين أن يقبلوا هذا التوظيف
الصهيوني للخدمات المجانية التي قدّموها بسبب الافتتان
بالسجالات الطائفية. لقد وجدت اسرائيل سلوة في فتاوى أئمة
الوهابية في دعم عدوانها على لبنان، ولم يكن مستغرباً
أن تعيد الصحافة الاسرائيلية نشر فتوى ابن جبرين ضد حزب
الله، كما هو الحال بالنسبة لبيان الحكومة الصادر في اليوم
الاول للعدوان الهمجي على لبنان في الثاني عشر من يوليو
الذي لقي ترحيباً من قبل الكيان الاسرائيلي.
لقد اكتشفت الحكومة السعودية مؤخراً بأن بيانها يفتقر
للحكمة والعقل، قبل أن يسقط صمود المقاومة اللبنانية حكمة
القادة العرب، بحيث أصبحت الحكمة هي المعادل السياسي للاستسلام،
وهو ما تنبّهت اليها الحكومة لاحقاً حين انقلب الشارع
العربي والاسلامي ضد قادته وأصبح مصطفاً خلف المقاومة
اللبنانية الباسلة، والتي فرضت معادلتها على الاقطاب الكبرى
في الساحة الدولية. مصادر لبنانية ذكرت بأن سفيري السعودية
ومصر أبلغ الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله
اعتذار حكومتيهما على خلفية المواقف الاولى التي اتخذوها
ضد المقاومة اللبنانية، وأبديتا اعجابهما بصمود المقاومة
اللبنانية التي لم يكن يتوقع كثيرون بأنها قادرة على التصدي
للعدوان الاسرائيلي ـ الاميركي وتسجيل أروع الملاحم البطولية
ضد الجيش الاسرائيلي، والتصرّف بذكاء بارع في إدارة المعركة
ضد الصهاينة، وهو ما انعكس لاحقاً على اعتدال لهجة المقاومة
اللبنانية التي نأت لاحقاً عن انتقاد السعودية ومصر والاردن
على مواقفهم المذّلة والمنحازة لصالح المعتدي الاميركي
ـ الاسرائيلي، وفضّلت المقاومة اللبنانية تجاوز الخلافات
السياسية حفاظاً على وحدة الموقف الوطني اللبناني والعربي
والاسلامي ازاء العدوان الاسرائيلي.
علماء السلف الذين تمسّكوا بموقفهم المناوىء للمقاومة
انطلاقاً من قاعدة الخلاف المذهبي خسروا ليس الشارع العربي
والاسلامي الذي عبّر عن غضبه العارم إزاء فتاوى حمقاء،
الأمر الذي دفع علماء آخرين في المدرسة السلفية لتقديم
مواقف مختلفة. لقد حاول بعض المعتدلين في المجتمع الديني
السلفي تخفيف وطأة تلك الفتاوى الغبية فضاعفوا جهودهم
من أجل استصدار فتاوى وآراء معتدلة أو مواربة إزاء دعم
المقاومة اللبنانية، بالرغم من عبء التركة الطائفية على
كاهل المشايخ السلفيين الذين شاركوا فيما مضى في ضخ ثقافة
طائفية في الشارع السلفي ويعجزون الآن عن الخلاص من تداعياتها
وضغوطها.
لقد أجهضت (مغامرة) حزب الله (حكمة) السعودية، فالصمود
الباهر لرجال المقاومة شكّل فضيحة للسعودية ولقوى الاستسلام
في الوطن العربي بما في ذلك علماء سلفيين جاهروا بعدائهم
للمقاومة اللبنانية على قاعدة مذهبية، وناصروا بلا وعي
العدوان الاميركي ـ الاسرائيلي على لبنان والامة بأسرها
تحت شعاري (الحرب على الارهاب) ومخطط (الشرق الاوسط الجديد).
لقد فرضت انتصارات ومفاجئات المقاومة اللبنانية نفسها
على الساحتين العربية والاسلامية وهي ما دعت الشيوخ السلفيين
مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ عوض القرني والشيخ محسن
العواجي الى المطالبة بدعم المقاومة اللبنانية، على غرار
الفتاوى الصادرة عن حركات إسلامية وعلماء كبار في العالم
الاسلامي التي اعتبرت المقاومة اللبنانية بكونها أنزه
مقاومة على وجه الارض.
شباب السلفية يبدون اعجابهم بصمود ومقاومة حزب الله،
ويتمنون لو أن حزباً سنيّاً كان هو صاحب هذه الكرامة البطولية،
فقد تربى هؤلاء على عداومة وخصومة الشيعة واعتبارهم أسوأ
من اليهود والنصارى، هكذا نصّت فتاوى عدد من علماء الوهابية،
وليست المقاومة جزء من الرأسمال الشعبي الاسلامي الممانع.
هذه الازدواجية بين الاعجاب والخصومة كانت مفهومة خصوصاً
حين تغيّرت معادلة المواجهة بين القوات الصهيونية والمقاومة
اللبنانية، ولاسيما بعد مجزرة قانا في الثلاثين من يوليو
الماضي، حيث بدا جليّاً أن عدواناً اسرائيلياً شرساً قد
كشف عن همجيته في قتل الاطفال والنساء، وأن الضمير العربي
والانساني قد أصيب في موطن كرامته وبشراسة واستهتار، وأن
الصمت العربي الرسمي الفاضح كان وراء إقدام الصهاينة على
اقتراف جريمة تحت جنح الظلام فيما كانت السفسطات الطائفية
الفارغة تمنح القتلة إذناً شفهياً بسفك الدم العربي ببرودة.
إن تلك الازدواجية في الموقف السلفي كانت متوقعة، ومن
شأنها أن تخلّف حزمة من الاسئلة المرتبطة بالتلقين الايديولوجي
في مقابل الواقع منعكساً في مشاهد العدوان التدميري الهمجي،
وإذ لا يمكن الانفصال كلياً عن عالم عريض يمتد من المغرب
الى اندونيسيا ويجتازه الى شعوب عديدة في العالم شهدت
انتفاضات متسلسلة ضد العربدة الاميركية ـ الاسرائيلية
وسحق الكرامة الانسانية بصورة علنية وفاضحة. فقد رأى العالم
بأسره التدبير الاميركي السافر في عدائه في منح آلة الحرب
الصهيونية فرصتها الكاملة في تدمير لبنان وقتل شعبه، كما
رأى العالم في المقابل صمود المقاومة وبسالتها في التصدي
للجيش الاسرائيلي الذي سلبت منه أسطورته الوهمية وأصبحت
هي المقاومة التي لا تقهر.. كل ذلك عكس نفسه، رغم إصرار
علماء متخشبيّن في مواقفهم الطائفية، على مواقف عدد من
مشايخ الصحوة الذين نأوا عن الوقوع في الخدعة الطائفية،
مطالبين بوضع الخلافات المذهبية جانباً لوجود تحديات تمسّ
الجميع.
مقالة الشيخ محسن العواجي (اللهم انصر المقاومين الابطال
واشدد وطأتك على المعتدين الانذال) محاولة للاقتراب من
نقطة التشابك في التكوين الايديولوجي السلفي الذي مازال
يضع خطاً حكمياً يصنّف فيه من هم في قائمة الاحزاب الشرعية
ومن هم في قائمة الاحزاب الضالة. قد يفسّر البعض مضمون
مقالة العواجي بأن نداءه لنصرة حزب الله ليس على قاعدة
توافق مذهبي أو حتى اسلامي عام بل على قاعدة خصومة مع
اسرائيل فلو كان حزب الشيطان يحارب امريكا لحظي بدعم العواجي.
وحتى بهذا المنظور السلبي في تحليل المقالة، فإن العواجي
يبدو تقدمياً ويخطو خطوة في الاتجاه الصحيح كونه يحقق
في ذاته صفة (العالم بأهل زمانه)، وأنه يقبل بالقسمة كتعبير
عن التسوية وتطبيق مبدأ الاولويات.
مشايخ السلفية ممزقون.. تلك حقيقة بدت واضحة بعد اسبوعين
من العدوان الاسرائيلي على لبنان واستبسال المقاومة اللبنانية
في معركة الكرامة والشرف والعزّة للأمة العربية والاسلامية،
فقد بات الانقسام واضحاً على مستوى القيادات السلفية متحدّراً
الى القواعد والاتباع الذين عانوا من إنفصام في الوعي
السياسي والمذهبي، فبين تراث طائفي يطأ بثقله ذاكرة أجيال
لم تجد فيه ثغرة لرؤية الآخر مختلفاً عن تصويرات صانعي
التراث الطائفي المحقون بالكراهية، وبين حقائق ترسمها
المقاومة اللبنانية وتنعكس في خطابها الديني الوحدوي.
|