تعقيم المشروع الوطني
خطاب التفوق لدى الدولة والمؤسسة الدينية
يفترض قيام الدولة ـ باعتبارها إطار دستوري ناظم لعلاقة
الأفرد والجماعات ـ أن يحدث تحولات إجتماعية عميقة تمحى
فيها الروابط والنظم والقيم التقليدية، وتحلّ مكانها روابط
أخرى متطورة محكومة بقوانين دستورية تسري على كل الافراد
المنضوية داخل الاطار الجديد ـ الدولة بدرجة متكافئة.
أي بمعنى آخر، أن الدولة بما هي كيان سياسي واجتماعي يمثّل
بديلاً موضوعياً عن الكيانات الاجتماعية التقليدية تستند
الى منظومة قيم وقوانين أعطت للواقع الاجتماعي شكلاً جديداً،
وبالتالي بدّلت رؤى الافراد والجماعات لأنفسهم ولمن يحيط
بهم.
لقد كان الجدل بعد قيام الدولة السعودية عام 1932 يحوم
حول جدّية انهيار النظام الاجتماعي القديم بكل قيمه وقياساته
لصالح منظومة الدولة بقوانينها وقيمها. ولكن بعد مرور
أكثر من سبعة عقود على قيام الدولة يتساءل البعض عن شيء
مريض في العلاقة بين الدولة والمجتمع. أهي الدولة ذاتها؟
أم هو المجتمع؟
يقابل هذه الحيرة سؤال آخر جوهري: هل المطلوب من الدولة
الغاء الروابط التقليدية، أم أن الدولة تستعين بالنظام
القديم من أجل تحقيق مكاسب جديدة. وهل أن الطبقة الحاكمة،
مثلاً، تستند في سيطرتها على الدولة عن طريق استعارة القيم
والروابط التقليدية، وبالتالي فهي تضمن امتيازاتها الحالية
عن طريق نموذج قديم.
في واقع الأمر أننا نواجه خطراً مزدوجاً: الاول يكمن
في تشويه وظيفة الدولة ذاتها، بما هي صيغة توافقية تفضي
الى حفظ المصالح العمومية وتحقق قدراً أعلى من الانسجام
الداخلي، والآخر : تعميق الانقسام الاجتماعي عبر آلية
الدولة التي يفترض أن تكون إطاراً لتعايش مشترك ومتكافىء
بين فئات المجتمع، والأهم أنها خيار تعاقدي يخلص الى ترتيب
صفوف المجتمع على خط استواء.
إن مسألة تنظيم الروابط الداخلية قد تبدو مهمة رئيسية
للدولة، ولكن لا تكفي، بل قد تنطوي على مخاطر غير منظورة
في المستقبل في حال أخفقت الدولة عن مواصلة إدارة العملية
التنظمية. الجوهري في هذه المسألة هو أن تكون الدولة قادرة
على تنسيج الفئات الاجتماعية في رابطة عليا تكون أساساً
لتشكيل قاعدة الوحدة المجتمعية وصولاً الى تحقيق فكرة
تطابق حدود الدولة مع حدود الامة، حيث تكون سيادة الدولة
تمظهراً وتعبيراً عن سيادة المجتمع الذي تنظّمه الدولة
عبر آليات قانونية ودستورية.
ولكن، كل هذا لم يقع، ويمكن أن يخيّل الينا، في هذا
الموضوع على الأقل، أن مشوار توليد المجتمع المتناغم مع
متطلبات الدولة وبالعكس يقودنا الى حلقة نقاش فارغة. ما
حصل بالتحديد منذ نشأة الدولة السعودية، أن الاخيرة تحوّلت
الى كيان سياسي يحتفظ بخصائص المجتمع التقليدي والقيم
القبلية، بما يوحي بأن الدولة أصبحت آلية تمكين تهدف الى
إعادة إنتاج أوضاع ما قبل قيام الدولة.
ثمة أمر آخر له صلة وثيقة بعملية التحول، ويرتبط بالمجتمع
الديني السلفي، الذي كان يفترض أن يشهد عملية إصلاح داخلية
تتصل بقيمه التقليدية وبخاصة القبلية في سبيل الانصهار
في كيانين: الأول، المجتمع الديني الكبير بوصفه إطاراً
لتنوعات دينية فرعية، والثاني الدولة بوصفها إطاراً لجماعات
اجتماعية وسياسية متنوعة، وما يلتقي عليه هذان الكيانان
هو قاعدة المساواة، باعتبارها أولاً قيمة دينية علياً
وثانياً كونها شرطاً من شروط الدولة التي ارتضى الجميع
أن تكون ناظماً لروابطهم.
وفيما قبل المجتمع الديني السلفي كيانية الدولة القائمة
إطاراً لممارسة النفوذ والسلطة، بحسب رؤية العائلة المالكة
التي طبّقت رؤيتها الخاصة للدولة، التزم المجتمع الديني
السلفي موقفاً متنافراً مع المجتمع الديني الكبير، فأصبح
المجتمع الديني السلفي يمارس قيمه التقليدية بمقاييس قبلية
ولكن تحت ظلال ومظلة الدولة، فغفل عن قيم الدين المتسامحة
واستعار من سياسة التمييز المتّبعة من قبل الدولة القائمة
والمؤسسة في طبيعتها على قيم تقليدية قبلية.
ولابد من الاسهاب قليلاً في توضيح هذه النقطة بالغة
الحساسية، خصوصاً حين نتحدث عن مجتمع ديني يفترض امتثاله
لاملاءات القيم الدينية والاحكام الشرعية التي نسخت قيم
وعادات قبلية ذات طبيعة عنصرية، مع التذكير بأن الدين
لم ينشأ لالغاء القبيلة بصورة كاملة، فقد بارك الدين في
مناسبات عديدة تلك الوشائج والقيم النبيلة القارّة في
بنية القبيلة.
في المأثور الديني نقرأ:
ـ من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم
القيامة مع أعراب الجاهلية.
ـ فان كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال
و محامد الأفعال و محاسن الامور.
ـ العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يري الرجل شرار
قومه خيراً من خيار قوم آخرين، و ليس من العصبية أن يحب
الرجل قومه، و لكن من العصبية ان يعين قومه علي الظلم.
ـ من تعصّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربقة الايمان من
عنقه
تفتح هذه الجواهر في تراثنا الديني والتي تمثل بحد
ذاتها قيماً دينية وإنسانية عليا الباب على قضية بالغة
الخطورة والحساسية، وهي قضية النسب كمفردة في الثقافة
الدينية المكتومة، والتي تعكس الى حد كبير حالة مرضية
يعيشها المجتمع الديني السلفي، حيث يتداخل العنصر القبلي
القائم على الاحساس المفرط بالتميّز والتي جاءت العقيدة
السلفية الوهابية لتسبغ عليه وشاحاً دينياً عبر قسّمة
العالم الى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، ليس
في الآخرة بل في الدنيا أي أن الخطاب الديني السلفي يؤسس
لحالة تمييز يختلط فيها القبلي بالديني، والدنيوي بالأخروي،
فتصنيف البشر أخروياً يسبقه تصنيف آخر في الدنيا، حيث
تنتفي المساواة في الدنيا والآخرة.
لا يعلن رجل الدين السلفي عن نزعته القبلية واعتزازه
بأصوله العشائرية على حساب قيمه الدينية أحياناً، ولكنه
لا يقدر على اخفائها في ممارساتها وسلوكه وعلاقاته. هو
لا يرتضي أن تدفعه الحاجة الى الاقتراب من مسألة الرابطة
بين معتنقه الديني ورابطته القبلية، ويتمنى أن لا يتورط
في يوم ما الى الدخول في حلقة نقاش دينية يكون محورها
مسألة من هذا القبيل، إذ سيكون في مواجهة أمام القيم التي
يشيعها في العلن ويضمرها في القلب.
يبالغ رجل الدين السلفي كما رجل الدولة في الحديث عن
أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الجميع في هذا الوطن
هم مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات ولا فرق بين مواطن
في نجد عن آخر في الحجاز أو الجنوب أو المنطقة الشرقية.
يسوء رجل الدين السلفي كما رجل الدولة من آل سعود عنصر
المساواة في رسالة الاسلام، ليس بين المرأة والرجل بطبيعة
الحال فدون ذلك خرط القتاد، ولكن بين المسلمين ليس في
العالم بل داخل الدولة، فهم يمقتون الحديث النبوي الشريف
الذي يقول (لا فرق لعربي على أعجمي الا بالتقوى)، أو الآية
المباركة: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وإن مرّ عليهما
فلا يتوقف عن دلالاتهما لما يتطلبه من مكاشفة مع الذات
قبل الآخر.
إن مثل هذه النقطة بما تحمل من قدر كبير من الاستفزاز
تتطلب غوصاً عميقاً في هذا التزاوج بين القيم الدينية
والتراث القبلي والذي يفضي الى صنع أفراد ينزعون الى تشكيل
إطار عصابي جماعي يستند على قاعدة الاحساس بالتفارق مع
الآخر، بدفع من قيم قبلية تكسوها قشرة دينية.
فالاحساس بالتفوق دينياً واجتماعياً هو ما يدفع رجل
الدين السلفي الى استعمال أقصى الأحكام ضد الآخر وليس
الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أو الاحساس
بالحاجة الى الحرية الفكرية، فهو يعكس نزعة التفوق بداخله
عن طريق مواقف وأحكام صارمة، وهي تعكس في الوقت نفسه رؤيته
للآخر الذي لا ينتمي اليه. بيد أن المشكلة لا تقف عند
هذا الحد، فحتى داخل المجتمع الديني السلفي ثمة تمايزات
على قاعدة النسب، حيث يتم تصنيف أفراد المجتمع بحسب انتماءاتهم
القبلية، فهنا يتم التحاكم على أساس معيارية غير دينية:
الاعراق العليا والأعراق السفلى.
وقد كان للطبقة الحاكمة دور مركزي في إضفاء مشروعية
على المفتونين بالاحساس بالتفوق، أي أن سياسة الدولة وخطابها
وسلوكها يشجِّع على رسم صورة مثالية عن الذات، حيث أن
سياسات التمييز على أساس قبلي ومناطقي ومذهبي ترسّخ الاحساس
بالتفوق لدى رجل الدين السلفي. ثمة تمايزات دون شك تضيق
دوائرها داخل التكوين الواحد: النجدي، والقبلي، والسلفي..
حيث يبقى الباب مفتوحاً لسلسلة غير منقطة من التمايزات
تتحدر من الاعلى الى أن تصل الى أصغر دائرة يمكن استعمال
فيها الاحكام الاقصائية.
للاقتراب من نقطة الخطر في هذه القضية الشائكة، نسلط
الضوء على الحكم القضائي الذي أصدره قاضي أحد المحاكم
السعودية هذا الشهر (سبتمبر) بفسخ عقد زواج بسبب أن الزوج
غير مكافىء في النسب لزوجته، كما يقول نص الحكم، أي ان
الزوجة تنتمي الى قبيلة أرفع شأناً بمقاييس القاضي من
قبيلة الزوج. والغريب في خاتمة الحكم القضائي أن القاضي
برأ ساحته وأخلى مسؤوليته بأن حكمه بفسخ نكاح الزوجين
ليس إثباتاً لنسب أحد طرفي القضية. وهنا يقع التناقض في
أصل الحكم وموضوعه وغايته، فهو يصدر حكماً في قضية لا
يدرك حيثياتها وتفاصيلها. وجه الغرابة في حكم القاضي هو
التعارض مع القيم الدينية التي تبطل التمايز على أساس
عرقي وتجعل من التقوى معياراً دينياً في الروابط الزوجية:
من جاء منكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.
وجه الغرابة الآخر أن حكم الفسخ جاء على الضد من رغبة
الزوجين، أي خلافاً لارادتهما باستمرارهما كطرفين في عقد
الزواج ونقضاً لحق من حقوق الانسان بحسب الشريعة الاسلامية
والشرائع السماوية والانسانية. الزوجة التي اعتبرت عملية
الفسخ باطلة رفضت التعاطي معه بوصفه شرعياً وأصرّت على
البقاء مع زوجها وطفليها، وهو ما أدى بها الى الحجز النسائي
الذي يطلق عليه تخفيفاً لوطأة المصطلح (اصلاحيات) وهذا
أدهى وأمر حيث أصبحت هذه المرأة في عداد النساء اللاتي
هن بحاجة الى إعادة تأهيل أخلاقي.
القضية تتلخلص هنا في عنصر (النسب)، الذي يؤسس للحكم
القضائي في قضايا لا يجوز فيها تحكيمه، فضلاً عن غياب
الاعتبارات الانسانية في مثل هذه الحالة، حيث أن للزوجين
طفلتين، وأن هذا الحكم قد أدى الى تحطيم أسرة بكاملها،
وعطّل سنّة اجتماعية والهية، كما أن الحكم يستبطن اعتراضاً
على سنة الله وقدره في خلقه، بأن خلقهم شعوباً وقبائل
بألوان وانتماءات متفاوتة، ولكنه لم يفرض عليهم أحكاماً
تميزهم عن بعض، وحاشا لله أن يسّن تشريعات لخلقه وهو الذي
اختار لهم أن يكونوا من هذا العرق وذاك وهذه القومية أو
تلك دون أن يكون هذا التفاوت تفاضلاً، بل جعلهم متساوين
مكرّمين أحراراً مختارين.
القاضي يعبّر عن واقع قائم وليس مثالاً نافراً، فهو
ينتمي الى المجتمع الديني السلفي الذي مازال محكوماً بأعراف
القبيلة وتقاليدها، وأن الدولة أضفت مشروعية على الواقع
من خلال سياساتها التمييزية التي تمفصلت على اجهزة الدولة.
في لقاء مع أحد رموز التيار الصحوي، سألته عن مبرر
قطيعته مع صاحبه ومن جملة ما ساقه من مبررات أنه لا ينتمي
الى نسب ذي شأن (أي ليس إبن قبيلة أو عائلة حسب اللفظ
الشائع). وهنا يندّس العنصر القبلي بأصله الجاهلي في اللاوعي
الديني السلفي، إذ لا يكتفي بتمييز من هو قبيلي ومن هو
خضيري بل يندغم في التراتبية القبلية ذاتها، إذ لا يعدو
مجرد انتماء لقبيلة فرضتها السنن الطبيعية، بل الانتماء
القبلي يحدد انخفاض شأن الفرد وعلوه في التشكيلات القبلية
ذاتها. الاعتزاز بالانتماء القبلي يتجاوز حدّه الطبيعي
ليجعل منه معياراً في العلاقة وتحديد المسافة مع الآخر
موقفاً ورؤية وتقديراً، وإن المساحة المتبقية لعامل الدين
يصبح عاضداً ومؤازراً للقيم التقليدية وليس محواً لها.
|