خلفيات تمّرد قطر ودول الخليج ضدّ (الشقيق الأكبر)
السعودي
هل لدى المملكة السعودية مشكلة مع جيرانها الخليجيات؟
نعم. قد لا تعود المشكلة الى الحدود المتنازع عليها
والتي لم تحل حتى الآن مع بعض جيرانها الخليجيات كقطر
والإمارات، بقدر ما هي مشكلة أفرزها النظام السياسي في
المملكة الذي يعيش عقلية الماضي الإستعلائية في التعامل
مع نظرائه الخليجيين من جهة، والجمود السياسي الذي حاول
الخليجيون التمرّد عليه في منطقة مضطربة وأوضاع إقليمية
ودولية شديدة التغيّر.
لم يعد الخليجيون في الجملة ينظرون الى المملكة كـ
(أخ أكبر) واجب الإحترام والطاعة، وذلك لأسباب ومتغيرات
عديدة يرفض ذلك الأخ الإعتراف بها. فـ (الأخ الأكبر) لازال
ينظر الى إخوته على أنهم مازالوا (صغاراً) يستطيع أن يستعرض
عليهم عضلاته ويبسط عليهم حمايته، في حين أن أولئك (الأخوة)
شبّوا على الطوق، وصاروا كباراً يمكنهم تدبر أمورهم بأنفسهم،
أو لنقل بأقل قدرٍ من الإعتماد على أخيهم الأكبر، الذي
توقّف لديه عنصر الزمن، ومازال يعيش عقلية السبعينيات
والثمانينيات من القرن الماضي.
و (الأخ الأكبر) من جهة ثانية، لم يدرك بعد ما فعلته
السنون به، فهو يتجاهل حقيقة أنه (هرم) وأحاطت به أمراض
(الشيخوخة) وأنه لم يعد قادراً حتى على توفير الحماية
لنفسه، وجلب الإحترام لذاته، فضلاً عن أن يوفرهما لإخوته
الآخرين الذين يظنّ أنهم مازالوا صغاراً. (الأخ الأكبر)
لا يريد ان يرى صورته الحقيقية في أعين إخوته الصغار..
إنهم يرونه (الرجل المريض) الفاشل في سياساته الخارجية
والداخلية. فاشل في توظيف ثروة البلاد على وجه صحيح، وهو
الأكثر فساداً، والأكثر استعصاءً على الإصلاح السياسي
والإقتصادي، وعلى مواكبة المخاطر المحيقة به واتخاذ الإجراءات
العاجلة لمحاصرة المرض الآخذ بالإنتشار في كل خلايا جسده.
لم يعد (الأخ الأكبر) النموذج الذي يمكن للإخوة (الشباب)
أن ينسجوا على منواله لا في تطوير بلدانهم ولا في مواجهة
التحديات التي تستهدفهم.
أمير قطر: فشل السعوديون في الإطاحة به
|
الدول الخليجية ـ من الناحية الفعلية ـ تشعر بعبء هذا
(الأخ الأكبر) الذي يدفعهم في كثير من الأحيان الى إعلان
التمرد عليه، بعضهم بعلانية وصراخ، وبعضهم الآخر يمارس
التمرد بصمت وبقدر أقل مما يرى (الأخ الأكبر) أنه استفزاز
له، وعدم تقدير لمكانته بين العائلة الخليجية. (الأخ الأكبر)
بالنسبة لدول الخليج الأخرى يريد أن يتوقف الزمن لديهم
كما توقف لديه، ويريد منهم الإلتزام بسياساته ورؤاه السياسية
كما يراها هو بعينيه ويفكر فيها بعقله. وغالباً ما تضيق
الفسحة السياسية لديهم رغم تغير الزمان والأفكار والبشر
في دول الخليج كلها بل وفي العالم.
و(الأخ الأكبر) الذي فشل حتى في أن يكون مرجعاً لمشاكل
إخوته الصغار، وفضل أن يكون جزءً من المشكلة، لا يقبل
من أي منهم التحاكم الى غيره حتى لو كان مؤسسة دولية،
ولا يقبل بأن ينسق الأشقاء الصغار مواقفهم دون أخذ رأيه
حتى وإن كان الشأن داخلياً لدولتين خليجيتين. أكثر من
هذا يبدي الأخ الأكبر انزعاجه من الإتفاقات الثنائية بين
دول الخليج سواء في المجال الإقتصادي أو الأمني، مع أن
السعودية تعدّ أكبر معوّق أمام اتفاقات جماعية اقتصادية
أو أمنية، بسبب شروطها المتزايدة التي تتيح لها التدخل
في شأن أشقائها الصغار.
أكثر من هذا، فإن النظام السياسي لـ (الأخ الأكبر)
جامدٌ، أدّى الى تحوّل السعودية من واحة مزعومة للإستقرار،
الى مزرعة للعنف والتطرّف وعدم الإستقرار. والجمود ليس
في مسألة النهج السياسي فحسب، بل في كل شؤون الدولة الإقتصادية
والثقافية والإجتماعية أيضاً.. وهو جمودٌ مدمّر لأركان
الدولة ولكنه نتيجة طبيعية لجمود العقلية الحاكمة نفسها،
خاصة مع ملاحظة أن من يقودوا النظام السياسي السعودي قد
تجاوزوا الثمانين عاماً أو شارفوا على الثمانين، في حين
وصلت قيادات شابة الى الحكم في قطر والبحرين والإمارات،
وأما في الكويت وعمان فإن (الطاقم السياسي) الحاكم فيها
أكثر شبابية بما لا يقاس بالسعودية نفسها.
لهذا، تجمّدت عقلية الأخ الأكبر، وتوقفت عن الإبداع،
وأصبحت عاجزة عن مواجهة التحدي الداخلي والخارجي في آن،
وكل ما يقدمه ذلك الأخ لإخوته مجرد نسخ قديمة مكررة لسياسات
تجاوزها الزمن ويريد فرضها عليهم. وتكون المسألة أكثر
إيلاماً حين يحاول (الأخ الأكبر) إملاء سياساته الفاشلة
داخلياً على إخوته، فهو لا يريد إصلاحات سياسية، ولا انفتاح
نسبي على قواعدهم الجماهيرية عبر سياسات محسوبة ولكن ضرورية،
مثلما هو الحال في البحرين التي تلقى ملكها عتباً شديداً
من ولي العهد السعودي الأمير سلطان ومن آمراء آخرين، قابله
بالشرح والتوضيح. لكن ليس كل أمراء الخليج ممن يمتلكون
القدرة على تحمّل هذا النوع من التدخل الفجّ، الذي يتعاطى
مع كل الشعوب دون مراعاة أوضاعها الخاصة، خاصة وأن دول
الخليج الأخرى لا تحتاج الى (دعم مالي) سعودي مثلما هي
البحرين، التي تتلقى دعماً سنوياً تقلص منذ عام، وقيل
أن سبب ذلك هو ما اعتبره آل سعود خطوات سياسية غير محسوبة
تؤثر على الوضع السعودي الملاصق. فقطر والإمارات والكويت
وعمان تعيش وضعاً اقتصادياً أفضل بكثير من وضع السعودية،
بل حتى البحرين نفسها والتي تعيش على مساعدات من الكويت
والإمارات والسعودية، زاد فيها دخل الفرد السنوي عن نظيره
السعودي (احصاءات عام 2005).
في المحصلة النهائية، فإن دول الخليج، وهي تتعامل مع
العقلية السعودية، تجد نفسها مجبرة على الصدام معها بصورة
او بأخرى. ليت المسألة تتوقف عند حدّ خلافات حدودية ـ
كما هي الحال مع قطر والإمارات ـ أو مصالح اقتصادية دفعت
دول خليجية لتوقيع اتفاقات اقتصادية ثنائية بينها وبين
الإتحاد الأوروبي من جهة وبينها وبين الولايات المتحدة
الأميركية من جهة ثانية، وهي أمور انتقدت كثيراً من قبل
السعوديين، وتوجه النقد لأقرب نظام خليجي ـ حتى الآن ـ
للسعودية وهي البحرين. وليت المسألة أمنية ثنائية غير
قابلة للحلّ، فكل دول الخليج اضطرت الى أن تتفاهم ثنائياً
بدل الإلتزام باتفافية أمنية مشتركة فرضتها السعودية بحيث
تسمح لها بالتدخل. حتى مسألة الجواز المشترك فشلت بسبب
السعودية، في حين تم ومنذ سنوات استخدام البطاقة الشخصية
في السفر بين مواطني دول الخليج، ولم تشذ سوى السعودية،
التي شعرت بالإنزعاج لاستخدام البطاقة بدون إذنها أو رغبتها.
العقلية السعودية المتخلّفة والجامدة هي مصدر الإزعاج
لدول الخليج عامة، وهي سبب التمرّد الصامت والعلني، وهي
سبب مشكلة المواطنين السعوديين أنفسهم مع نظامهم السياسي،
كما هي سبب مشكلة بقية دول الخليج مع ذلك النظام. وحتى
الآن يبدو الإنشقاق عن الموقف السعودي، وعدم الإكتراث
ـ كثيراً ـ برأي (الأخ الأكبر) آخذ بالتزايد، فالأخ الأكبر
غير قابل وغير قادر على إصلاح نفسه ورؤيته لنفسه ولمن
حوله وللأوضاع الإقليمية ولشعوب المنطقة، و (الإخوة الصغار)
لا يستطيعون ـ وإن أرادوا ـ التسمّر والتحجّر عند رغبة
ومواقف (الأخ الأكبر) دونما مراعاة لأوضاعهم المحلية الخاصة،
سواء بشأن الضغط المحلي المطالب بالمزيد من الإصلاحات
السياسية، أو بشأن التنمية الإقتصادية، أو حتى بشأن السياسة
الخارجية، سواء اتفقت مع السعودية في بعض الجوانب أو خالفتها
في جوانب أخرى.
السعودية هي الأقل في الإصلاح السياسي وفي النمو الإقتصادي،
وهي الأكثر تعلقاً بالأيديولوجيا المتطرفة، وبالتالي لا
نموذجها السياسي ولا الإقتصادي ولا خيارها العقدي مغرٍ
لأحد، هذا إن لم تكن الأيديولوجيا السعودية ـ الوهابية
تبعث الكثير من القلق في أكثر من بلد خليجي (عمان التي
قيل أن محاولة انقلاب قامت بها خلايا وهابية قبل عامين،
والكويت التي جرت فيها تفجيرات شارك فيها سعوديون، والبحرين
التي يتغذّى فيها التيار الوهابي بدعم مباشر من السعودية،
وقيل أنه ألقي القبض على عناصر تسعى لممارسة العنف قبل
عامين أيضاً).
التمرّد الخليجي
قطر ليست الدولة الوحيدة التي يمكن وصفها بالمتمردة
على (الأخ السعودي الأكبر) فقد سبقها ولحق بها آخرون.
الكويت والى ما قبل الغزو العراقي لها كانت (ترفع خشمها)
على السعودية، وكانت تحاول تأسيس دور مستقل لها على صعيد
العلاقات الخارجية، حتى أن الملك فيصل قال ذات مرة هازئاً:
(الدول العظمى ست، وعدّ منها الكويت)! ولكن الكويت ـ بحسب
تعبير أحد المسؤولين النجديين ـ قد تم (كسر خشمها) بعد
الغزو العراقي وموقف الملك فهد من ذلك الغزو الذي أفضى
الى إعادة العائلة الحاكمة في الكويت الى عرشها. منذ ذلك
الحين تتجنب الكويت ـ الرسمية ـ وليس القوى الشعبية بالضرورة،
التعرّض للسعودية ومواقفها السياسية، وتحاول بقدر الإمكان
الإقتراب من الموقف السعودي في الشؤون الخارجية مع إعطاء
الذات فسحة كبيرة في مجال إدارة الأوضاع الداخلية حتى
وإن اختلفت السياسة مع ما تتمناه السعودية.. كل ذاك جاء
تقديراً لجميل الأخيرة الذي لا يُنكر في حرب (تحرير الكويت).
سلطنة عُمان كانت دوماً تنتهج سياسات مغايرة عن بقية
دول الخليج وليس السعودية فقط، ولكنها لا تسعى الى الإثارة
السياسية أو الإعلامية، فقد حافظت على استقلال قرارها
السياسي بأقل قدرٍ من الصخب وبأقصى جهد من الإنزواء عن
الأضواء. من الأمثلة الجديرة بالإلتفات في النموذج العماني،
موقف عمان من مقاطعة مصر بعيد توقيع اتفاق كامب ديفيد.
فهي لم تعترض على قرار قمة بغداد بمقاطعة مصر سياسياً،
لكنها لم تطبقه. وقد فعلت الشيء ذاته مع ايران، فهي لم
تعترض على قرارات مجلس التعاون في الوقوف الى جانب العراق
في حربه مع ايران، لكنها لم تقحم نفسها في دعم مادي وإعلامي
وسياسي لا محدود، كما فعلت الكويت والسعودية مثلاً. يكفي
أن ندرك بأن رئيس وزراء اسرائيل اسحاق رابين قد زار العاصمة
العمانية مسقط، دون ان تثير الزيارة تداعيات كبيرة، فهل
هناك أحدٌ يتذكر هذا الأمر اليوم؟! هل ندد السعوديون بذلك
بمثل ما فعلوا بأقل منه فيما يتعلق بقطر مثلاً، او حتى
البحرين نفسها التي كان لها بعض الروابط مع اسرائيل؟
ينبغي التذكير أن سلطنة عمان تميل الى الإبتعاد عن
المشاكل، وتسعى للحلول الوسط حتى وإن بدا ذلك وكأنه تفريط
بحقوقها، مثلما حدث بشأن ترسيم حدودها مع اليمن ومع الإمارات.
وعمان ـ عموماً ـ محافظة لا تبحث عن (دور سياسي) لتلعبه،
ولسان حالها يقول: (رحم الله امرئا عرف قدر نفسه).. هي
لا تبحث عن زعامة، ولا عن أضواء، وهي تهمة أطلقتها السعودية
على كل من قطر وقبلها الكويت، وربما يأتي دور البحرين
في المستقبل غير البعيد! إن حاولت النأي عن أن تكون مجرد
(برغي) في (ماكنة) السياسة الخارجية السعودية.
ما بين سلطنة عمان والسعودية، إذن، ليس منافسة سياسية،
ولا أطماع تتستر خلف حدود مختلف عليها، ولا نيّة مبيّتة
لـ (مناكفة) السياسة السعودية. ومع هذا، ما أن يُذكر إسم
السعودية أما المسؤولين العمانيين، حتى يقف شعر جلودهم!
والتفسير سهل بسيط: السلطنة ترى أن السعودية تمثل عامل
عدم استقرار سياسي داخلي.
يا لسخرية الأقدار!
السعودية تريد أن يُنظر اليها على أنها حامية دول الخليج
الصغيرة والضعيفة، فإذا بها تصبح مهدداً ومخيفاً لها،
تماماً مثلما هو انقلاب الحال بالنسبة للسعودية نفسها
مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث تحولت الأخيرة ـ بنظر
العائلة السعودية المالكة ـ من حامية لنظام الحكم السعودي،
الى مهدد لصلب النظام والدولة.
معلوم أن المذهب الرسمي في عمان هو المذهب (الإباضي)
وهو بنظر المذهب الرسمي السعودي ـ الوهابي مذهب (بدعي)
وأتباعه مشركون، شأنهم شأن أتباع مذاهب إسلامية عديدة.
والعمانيون لهم تجربة تاريخية مريرة مع السعوديين لازالت
مستمرة لأكثر من قرنين، فقد احتلت أجزاء كبيرة من عمان
مراراً وتكراراً من قبل القوات السعودية وعلى خلفية دينية/
طائفية.. ولا يعتقد العمانيون ان السعوديين توقفوا عن
منهجهم التدخل في شأن عمان الداخلي ـ كما في شأن دول خليجية
أخرى ـ ولكن عبر توسيع النفوذ الوهابي. وقيل ان القيادة
العمانية استفزّت كثيراً فيما أعلن عنه من محاولة انقلاب
قام بها (وهابيون) قبل نحو عامين، وقالت بعض الأنباء أن
السطان نفسه ذهب الى الرياض محتجاً على ذلك التدخل السافر.
إن مجرد وجود (مذهب أباضي) في عُمان يستفزّ الوهابيين،
ويحفّزهم على التدخل، في حين تواجه فتاوى التكفير والتحريض
والشتم القادمة من السعودية بقدر كبير من الإنضباط ـ تماشياً
مع الموقف الرسمي العماني.
تجدر الإشارة الى أن علاقة الأسرة الحاكمة في السلطنة
مع قادة المذهب الأباضي لم تكن مريحة كثيراً، وكانت البلاد
قبل نحو نصف قرن أشبه ما تكون مقسمة بين الداخل العماني
الذي تحكمه (الإمامة) وبين المتخارج منه الذي كان منطقة
حكم آل تيمور. وقد خاضت الحكومة معركة فاصلة مع قوات (الإمامة)
في الخمسينات الميلادية أنهت حكم الإمامة، وهرب الإمام
غالب الى السعودية واستقرّ في المنطقة الشرقية (الخبر).
ومنذ ذلك التاريخ، كان حكام عمان يرون أن (إحياء الإباضية)
يعني أنهم بإزاء مشكلة قادمة، فتصدوا لها، لكنهم ما أن
وجدوا الخطر (الوهابي) التكفيري الداهم، حتى أفسحوا المجال
لمفتي السلطنة وغيره بالعمل بشكل حرّ. وبهذا يمكن القول
أن (الضغط السعودي ـ الوهابي) قد يدفع ببعض دول الخليج
الى انتهاج سياسات لا تميل إليها بالضرورة.
الإمارات هي الأخرى، وكما هو معروف بالضرورة عنها،
بلد يميل الى الهدوء والتعايش والبناء. بلدٌ يميل الى
التمايز عن الآخر من خلال نجاحه في التنمية الإقتصادية،
ولا يبدو أنه يبحث عن تبني مشاريع سياسية معينة. المشروع
الوحيد المتميز الذي تقدمت به كان قبيل الحرب الأميركية
على العراق، والذي حمل دعوة لصدام حسين لكي يستقيل ويجنب
بلاده الحرب، الأمر الذي ارتدّ على الإمارات شتائم وإهانات،
تبيّن لاحقاً أن مشروعها كان رشيداً. عدا عن هذا، وحتى
مسألة الجزر مع إيران، فإن تصعيدها بين الفينة والأخرى
كان بدفع مصري أولاً وسعودي ثانياً يستهدف زيادة النفوذ
السياسي للبلدين في الإمارات ودول الخليج الأخرى.
لكن الإمارات بشكل عام، وأبوظبي بشكل خاص، وأمير هذه
الأخيرة بشكل أكثر خصوصية، لا يرتاحون من السياسة السعودية،
ولا يجارونها ـ فيما لا يقبلون به ـ إلا مضطرين حفاظاً
على الإطار الوحدوي العام لدول مجلس التعاون، فيما ينصب
الجهد الخارجي للسياسة الإماراتية على الجانب الإغاثي
المشهود له في عدد من بلدان العالم العربي كالعراق ولبنان
وفلسطين ومصر وغيرها. وهو جهد، كما يتضح منه، أكثر بعداً
عن التسييس، وأقرب الى العمل الإنساني الخالص، البعيد
عن المنّ، كما يفعل السعوديون خاصة في سنيّهم الأخيرة.
مشاكل الإمارات مع السعودية في بعضها له علاقة بالحدود
بين البلدين منذ اشتعالها في الخمسينيات من القرن الماضي،
أي توابع قضية البريمي وتداعياتها. وأضيفت بعض المشاكل
الحدودية الأخرى المتعلقة بقطر والإمارات، والمشاريع الإقتصادية
التي كان ينوي القيام بها الطرفان الأخيران، لولا تصدي
السعودية، كما هو الحال بشأن مشروع الجسر بينهما والذي
قتله السعوديون ـ فيما يبدو ـ في مهده عبر التهديد المباشر.
قطر المشاكسة
لا يكاد يخلو يوم من مقالة تتعرّض لقطر في صحيفة سعودية
أو أكثر، وفي هذه الأيام دخلت قناة (العربية) على الخط
لتصطاد كل شيء يمتّ للتنقيص والتعريض بقطر وقيادتها فتقوم
بنشره، شأنها في ذلك شأن كل الأدوات الإعلامية الرسمية.
هكذا تفعل الشرق الأوسط، مثلاً، والتي سببت مشكلة حادّة
ـ لاتزال قائمة ـ بين قطر والأردن، بسبب مقالة كتبها أحد
كتابها الأردنيين المحسوبين على النظام الأردني، تعرّض
فيها لزوجة أمير قطر، الأمر الذي دفع الأخير الى التوصية
بـ(عدم تمديد) إقامة الكثير من الأردنيين العاملين في
قطر، فاستوجب ذلك تدخل (القصر) الأردني كون الكاتب (وزيراً
سابقاً) وأبدت الحكومة الأردنية استعدادها للإعتذار، والإتيان
بالكاتب ليعتذر هو الآخر، ولكن الدوحة أصرّت على أن يعتذر
الملك الأردني نفسه، وقد اعتبر ذلك الطلب أكثر مما تتحمّله
القضية أو ما أُسمي بـ (التواضع الملكي).
لماذا قطر مشاكسة للسعودية؟ هكذا يتساءل السعوديون،
مسؤولين وإعلاميين. هؤلاء يجيبون أن قطر تبحث عن زعامة،
وأنها تتعمّد إهانة السعودية. وقد يكون بعض هذا صحيحاً.
لكن ما يميّز التمرد القطري على السعودية تحديداً، هو
أن التمرد مكشوف وعلنيّ، وهذا الإنكشاف غير مألوف لدى
السياسيين الخليجيين. فالعادة، أن تجري المعارك في الخفاء،
أو يعبّر عن الإمتعاض في المجالس الخاصة. لكن الحالة القطرية
تستدعي قراءتها بصورة مختلفة.
قطر، والى وقت قريب، وربما الى الآن، تعتبر الدولة
الخليجية الوحيدة التي تتبنّى المذهب الوهابي، وهو تبنٍّ
غير أيديولوجي بحيث يحكم مسار الدولة ونهجها، فتسعى لنشره
وتقيّم علاقاتها مع الآخر سواء كان مواطناً أو دولة أو
جماعة على أساس قربها منه، كما هو الحال في السعودية التي
كان المذهب مشاركاً في تأسيس الدولة نفسها، ولازال قادة
المذهب يشاركون في إدارة الدولة وأجهزتها ويطبعونها بطابع
المذهب الخاص. وتبني المذهب الوهابي في قطر لا يحمل أيضاً
صفة مناطقية ملتحمة معه كما هو الحال في السعودية، ولا
يأخذ صفة الإستعداء للآخر المختلف بين المواطنين أو خارج
حدود الوطن. ومع هذا، فإن قطر وخلال سنوات وجود الشيخ
يوسف القرضاوي الطويلة ودوره المتميّز وحضوره المتواصل
في الشأن الديني الداخلي، قد طُعّمت بأفكار من خارج إطار
المذهب، فصار لقطر وجهاً دينياً مقبولاً في كل بلدان العالم
الإسلامي بما فيها السعودية نفسها، دون أن تتخلّى عن الميول
السلفية الداخلية، او تواجهها كونها متبناة من شرائح مجتمعية.
قطر، إذن، كانت الأقرب مذهبياً الى السعودية، ولأن
المذهب بالنسبة للسعودية قضيّة كبرى حاكمة على الشأن السياسي
الخارجي، أي في التعاطي مع الدول الأخرى، كانت قطر المقربة
الى السعوديين، بل وأحياناً المفضلة لديهم.. فما الذي
قلبَ الموضوع رأساً على عقب؟
إن مطالعة العلاقات السعودية القطرية تختصر قراءة المشكلة
الحقيقية بين السعودية ومن تسميهم بأشقائها الخليجيين.
كانت هناك مشكلة حدود مع قطر، تضاعفت باستيلاء السعودية
على أراض قطرية، وقطعت التواصل البري بينها والإمارات،
حاول القطريون في بداية الستينيات الميلادية من القرن
الماضي حلّها بالإتفاقات، ولكن المشكلة اندلعت من جديد
في بداية التسعينيات حول منطقة الخفوس وبدأت بهجوم سعودي،
حيث قتل حرس حدود قطريون. واخذت المشكلة أزمة متصاعدة
لتشمل بعض المناطق البحرية رأت قطر تأجيرها على أميركا
لتضع الأخيرة في مواجهة مع السعودية، كما يقول السعوديون.
أعقب هذه الفترة وقوع مشكلتين حساستين: الأولى وتتعلق
بإعداد السعوديين لانقلاب عسكري يقوده الأمير السابق لقطر
الشيخ خليفة آل ثاني، الذي احتضنته السعودية واتخذها مركزاً
له. ويعتمد الإنقلاب على ثلاثة أذرع: 1) تتولى السعودية
تمويل وتدريب عناصر قبلية ـ من قبيلة بني مرة التي تستوطن
في الأصل أراض سعودية ومنحت الجنسية القطرية ـ كما وتقوم
بالتنسيق في هذا الشأن، إما عن طريق إقناع بعض رؤساء القبيلة
بالإغراء من أجل المشاركة، أو بتوفير غطاء بشري في حال
نجح الإنقلاب. 2) يتولى الأمير السابق بالتعاون مع البحرين
ـ التي كانت لاتزال تصارع قطر من أجل السيادة على بعض
الجزر الحدودية والفشوت البحرية ـ بالإتصال بعناصر قيادية
داخل الحكومة القطرية والعائلة الحاكمة فيها إما لتجنيدها
لصالح الإنقلابيين أو لتحييدها. 3) استخدام الأراضي السعودية
للإنطلاق زحفاً باتجاه اسقاط نظام الحكم القطري.
قطر اكتشفت ما أسمته بالمؤامرة، واتهمت السعودية خاصة
بتدبيرها، وقيل أنها حازت على الكثير من الوثائق الورقية
والمصورة للقاءات وتدريبات تكشف حجم التدبير السعودي،
وقيل أنه كان من المفترض نشر تلك الوثائق على شاشة التلفزيون،
ولكن لأمر ما ارتأت الحكومة القطرية تأجيل النشر.
المسألة الثانية تتعلق بالخلاف البحريني القطري حول
الحدود البحرية (جزر حوار وفشت الديبل)، وقد أخطأت السعودية
لانحيازها التام الى جانب البحرين، الأمر الذي أخرج (الأخ
الأكبر) من صفته (كبير العائلة) الذي يتخاصم المختلفون
لديه، خاصة وأن السعودية نفسها لديها مشكلة لم تحل الى
الآن مع قطر حول الحدود، بل حاولت معالجتها بفرض الأمر
الواقع أو بالقوة العسكرية.
هاتان المسألتان وغيرهما من الممحاكات بين السعودية
وقطر، دفعت الأخيرة الى (إعلان تمردها) على السعودية ودورها
على مستوى مجلس التعاون وعلى المستوى الإقليمي والدولي.
وحين دشنت قطر قناة (الجزيرة) واستخدمتها بكفاءة في سياستها
الخارجية، أضيف الى الخلافات بين البلدين الشيء الكثير،
وشكت السعودية من أن قطر أخذت بدعم معارضيها بصورة مباشرة،
مالياً وإعلامياً، الى الحدّ الذي رأى بعض الإعلاميين
السعوديين المحسوبين على النظام، ضرورة (تأديب) قطر عبر
تجريد حملة عسكرية سعودية ضدها نظير تطاولها على سمعة
السعودية وأمنها.
ما جرى بعدئذ كان واضحاً. من جهتها لم تأل قطر جهداً
إلا وأثبتت، ومن خلال مواقفها السياسية وإعلامها، اختلافها
عن الموقف السعودي، وقد تعمّدت زيادة التوضيح والتحدي
بصورة لافتة. زيادة على ذلك، قامت قطر بتنشيط دورها السياسي
الخارجي منذ نحو عقد، في وقت كانت فيه السياسة الخارجية
السعودية تعيش عصراً غير مسبوق من الجمود والترهّل، بسبب
مشاكل داخلية وغياب الملك فهد عن المسرح السياسي بسبب
مرضه، الأمر الذي ولد فراغاً سياسياً على مستوى الساحتين
الخليجية والعربية، حاولت قطر والأردن وحتى اليمن، فضلاً
عن إيران شغره. هذا النشاط القطري نظر اليه السعوديون
بعداء، واعتبروه موجهاً ضدهم من قبل دولة (لا تمتلك مواصفات
الزعامة) بقدر ما تسعى الى (الإثارة).
المهم أن قطر ميّزت نفسها في عدد من القضايا: ما يتعلق
بقيادة حماس حيث استضافت بعض قيادتها، ما يتعلق بتواجد
القوات الأميركية في قاعدة العديد، فتح مكتب تجاري لإسرائيل،
علاقات أفضل مع إيران والسودان واليمن، تأسيس علاقات أقوى
مع ليبيا بأكثر مما يرغب السعوديون، الموقف من أحداث ما
بعد العراق حيث جندت قطر إعلامها ومواقفها ضد الوضع الجديد،
مواقف التأييد الإعلامي على الأقل مع بن لادن والقاعدة،
وأخيراً الموقف من حزب الله والحرب الأميركية الإسرائيلية
على لبنان.
في العمق، فإن الإختلاف بين الموقفين السعودي والقطري
يمكن (هضمه) مثلما هضمه السعوديون مع دول خليجية أخرى:
عمان والبحرين مثلاً. لكن السعوديين ينظرون الى الموقف
القطري على قاعدة العداء للسعودية وإثبات الذات المغالى
فيها، وليس على قاعدة التعدد في المصالح والرؤى، وهو أمرٌ
لا تقبله السعودية أيضاً ولكنها لا تنظر اليه بعدائية
شديدة. فقطر مثل سلطنة عمان في مسألة التعاطي مع اسرائيل
بأبواب نصف مفتوحة، في حين ان علاقة الأردن ومصر والسلطة
الفلسطينية مع اسرائيل لا تثير مشكلة لدى السعودية، التي
لا تطرح خياراً مختلفاً في الأصل. ولكن السعودية ايضاً
تعتبر الخليج (حريماً) خاصاً بها لا تتسامح بتنوع المواقف
السياسية فيه. والموضوع من إيران أيضاً ليس موضوعاً متفقاً
بشأنه. فالإمارات رغم مشكلة الجزر لها روابط اقتصادية
ضخمة مع طهران، والموضوع السياسي وحتى الأمني لا يثير
مشكلة كبيرة، كون القوة الإيرانية ـ ومهما بلغت من القوة
ـ لا تستطيع مناطحة النفوذ الأميركي الحاضر بقوة في الخليج.
والكويت اضافة الى عمان والبحرين لها علاقات طيبة مع ايران،
وفلسفتها جميعاً تقوم على (عدم مناطحة الثور) بل تهدئته
عبر المصالح المشتركة، وهذا رأي السعودية ـ مخففاً ـ ولكن
الأخيرة لا تقف عنده، فالسعودية التي تنافس النفوذ الإيراني
سياسياً أقل انضباطاً بتلك السياسة.
وأما القواعد العسكرية القطرية المفتوحة للقوات الأميركية،
فيوجد نظيرها او ما يقل عنها في البحرين وعمان والإمارات
والكويت والسعودية نفسها. أي أن كل دول الخليج تتواجد
بها قواعد أميركية، وبالتالي، فإن ما هو حلال (يخشى الجهر
به) سعودياً، مكشوف ومعلن من قبل القطريين وغيرهم. لكن
السعوديين، ومن باب المشاحنة، تقصدوا قطر بالذات، مع أن
عمر القواعد العسكرية في البحرين وعمان والسعودية أطول
بكثير من عمر نظيرتها القطرية.
عدا عن المقالات السعودية الساخطة على قطر وعلى (قناة
الجزيرة) فإن السعوديين شعروا ومنذ عامين على الأقل بأنهم
قد امتلكوا سلاحاً إعلامياً موازياً للجزيرة: (قناة العربية)،
الأمر الذي شكل ـ بنظرهم ـ بعضاً من الردع فيما اعتبروه
تمادياً من الجزيرة في مهاجمتهم. لكن قناة الجزيرة، والسياسة
القطرية عامة، انتابتها فورة نشاط غير مسبوقة بمجرد وقعت
أحداث لبنان الأخيرة: اختطاف الجنديين الإسرائيليين ووقوع
الحرب. اتخذ السعوديون موقفهم المعروف، فظهر الموقف القطري
المخالف. اعتادت (الجزيرة) ان تراهن على مشاعر المواطنين
العرب العاديين لأسباب لا تخفى على ذي بصيرة، وهو ما شهدنا
نظيره فيما يتعلق بالأوضاع في العراق وأفغانستان.. واعتادت
(العربية) المراهنة على الموقف الرسمي السعودي، كما هو
الحال في كل الإعلام السعودي.
لقد كان الرهان السعودي (المغامر) خاسراً منذ لحظاته
الأولى، نظراً للقراءة المغلوطة للوضع اللبناني، ولحزب
الله وحماس تحديداً، وهنا ـ كما يقول بعض السعوديين ـ
وجدت الجزيرة والمسؤولون القطريون الفرصة المواتية لضرب
السعودية تحت الحزام، يعضدها في ذلك نخبة العالم العربي
والجمهور العربي والمسلم في كل مكان. وقامت الجزيرة بالتركيز
على البيان السعودي (المغامر) لأيام وأيام من خلال المقابلات
والأخبار، الأمر الذي دفع بالسعوديين الى شنّ حملة مضادة
بتصيد أي خبر ينشر في أي مكان في الدنيا يمكن تحويره وتحليله
ضد قطر. وبعكس تغطية العربية التي وجدت من الصعوبة بمكان
مجابهة المشاعر العربية العامة فركزت على الخسائر اللبنانية
وعلى الأصوات المعارضة وعلى عمالة حزب الله، كانت تغطية
الجزيرة تركز على (النصر) وعلى (المقاومة الشجاعة) وعلى
خسائر اسرائيل وعلى (الوحدة الإسلامية) مقابل فتاوى الطائفية
الوهابية ضد حزب الله. ومعلوم في النهاية من كسب مشاعر
الرأي العام العربي والإسلامي.
سياسياً، كانت قطر من الدول المتميّزة في موقفها في
اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، حيث سعت مصر
والسعودية والأردن الى إدانة حزب الله بدل ادانة اسرائيل،
فردت قطر بأن هناك مشاعر الرأي العام العربي التي يجب
احترامها، فظهرت السعودية بمظهر المؤيد لإسرائيل وهو ما
أشار اليه السيد حسن نصر الله. ربما أرادت قطر أن يكون
موقفها من الحرب الأميركية الإسرائيلية على لبنان متميزاً
الى أبعد الحدود عن الموقف السعودي الذي اضطر الى وضع
قطر كما هي حماس وحزب الله في دائرة الإستهداف طيلة أيام
الأزمة، أزمة حرب الـ33 يوماً. فالإغاثة القطرية سبقت
السعودية، بل سبقت كل الدول العربية والإسلامية اللهم
إلا سوريا في حضورها الواضح عبر فرق الخويا التي كانت
منتشرة من الحدود السورية اللبنانية الى أقصى مناطق الجنوب،
وهي مناطق لسخرية الأقدار لم تصلها الدولة اللبنانية نفسها
بعد أسابيع من وقف اطلاق النار، وكان الحضور القطري برجال
قطريين وليسوا مستأجرين، وليس لمجرد توفير بعض المواد
الإغاثية.
لقد اختفى الدور السعودي السياسي وحتى المصري والأردني
لصالح الدور القطري الذي تجلى في اجتماع وزراء خارجية
الدول العربية في بيروت، والذي أوكل لقطر والإمارات التفاوض
باسم العرب لتعديل قرار مجلس الأمن. وبعد أن أوقفت الحرب
كان أمير قطر أول رئيس دولة عربية يزور دمشق وبيروت ويتفقد
الضاحية الجنوبية ـ معقل حزب الله، وليعلن من هناك عن
مشروعية استخدام سلاح النفط في المعركة مقابل تصريحات
سعودية مناقضة. بل كانت قطر أول دول عربية تعلن استعدادها
لتعمير أربع مدن أو قرى مهدمة بالكامل. ثم كانت الخطوط
القطرية أول خطوط عربية تخرق الحصار الجوي، الذي لم تستطع
اسرائيل مواجهته إلا بإجهاضه عبر القول أنها سمحت للخطوط
القطرية بفعل ذلك وأنها قد استثنتها من الحصار، في حين
حاولت السعودية الحطّ من الخطوة القطرية.
وملخص القول أن دول الخليج جميعاً تعاني من علاقاتها
مع السعودية، وهي تضع اللوم على العقلية الحاكمة وطبيعة
النظام السياسي السعودي نفسه. ولكن هذه الدول تختلف في
كيفية مواجهة معاناتها تلك بصورة لا تستفز (الأخ الأكبر)
عدا قطر.
|