نكبة أخرى للسياسة الخارجية السعودية
الحصـاد المـرّ فـي لبنـان
لا يبدو أن الحكومة السعودية فرحة بنتائج العدوان الاسرائيلي
على لبنان الذي دام ثلاثة وثلاثين يوماً (12 يونيو ـ 14
يوليو)، فقد جاء رهانها خاسراً كما الولايات المتحدة وقوى
الرابع عشر من آذار. فالصدمة التي تعرّضت لها السعودية
في هذه الحرب كانت باهظة بصمود المقاومة اللبنانية التي
بهرت العدو قبل الصديق، حين حطّمت أسطورة الجيش الذي لا
يقهر واستطاعت أن تلحق به خسائر مازالت القيادة السياسية
والعسكرية الاسرائيلية تحصيها وتتجرع مرارتها. الرهان
على تحطيم المقاومة وتفكيك حزب الله هو ما دفع 4بالحكومة
السعودية الى الانجراف مع الموقف الاميركي ـ الاسرائيلي،
فقد منحت الادارة الاميركية القيادة الاسرائيلية فرصة
تلو أخرى لتحقيق أهدافها في اجتثاث حزب الله خلال ثلاثة
أيام، محثوثة بوهم التفوق الميداني ومعوّلة على مقولات
سابقة أنتجتها الحروب السابقة بين العرب والدولة العبرية،
من قبيل أن اسرائيل قادرة على احتلال لبنان بفرقة موسيقية،
وأن اجتياح لبنان ليس أكثر من نزهة.
مضى الاسبوع الأول، وبرغم الدمار الهائل الذي أحدثه
الطيران الاسرائيلي في البنية التحتية والمدنية في لبنان،
ولم تظهر أية مؤشرات على انكسار المقاومة اللبنانية بل
كانت صليات الصواريخ تنهمر على شمال فلسطين والمستوطنات
الاسرائيلية، وطلبت القيادة السياسية والعسكرية في الدولة
العبرية إسبوعاً إضافياً وبقي الوضع الميداني ثابتاً فيما
بدأ التحالف الدولي الاميركي ـ الاوروبي يشهد تصدعاً عكس
نفسه على الوضع العربي وبالتحديد على الدول الثلاث السعودية
ـ مصر ـ الاردن التي اصطفت بمواقفها المعلنة خلف العداون
الاميركي ـ الاسرائيلي على لبنان.
ومع بداية الاسبوع الثالث، بدأت ملامح سقوط الرهان
الدولي تلوح في الأفق، حيث تعالت الاصوات بوقف الحرب،
إثر انسداد الطريق في وجه القيادة الاسرائيلية التي لجأت
الى حليفها الاميركي للتحرك الدبلوماسي العاجل من أجل
ترتيب مخرج لائق لها من هذه الحرب الخاسرة قبل أن تلحق
الهزيمة العسكرية الماحقة بجيشها وبالدولة العبرية.
دخلت السعودية كطرف في العملية السياسية ولكنها لم
تحقق أي إنجاز دبلوماسي فقد عادت أدراجها خائبة من روما
وبروكسل، وفي حقيقة الأمر ان حليفها الاميركي لم يمنحها
تقديراً سياسياً تعوّض به عن موقفها المخزي حين حمّلت
الضحية مسؤولية العدوان، فخسرت عربياً واسلامياً ودولياً.
حاولت أن تعوّض الخسارة بخسارة أخرى حين أصرّت على
موقفها حتى بعد وقف الاعمال العدائية في الرابع عشر من
يوليو، وراحت تتحدث عن (حكمة) موقفها المخزي في اليوم
الأول للعدوان الاسرائيلي على لبنان، رافضة نتائج الحرب
بانتصار المقاومة، في الوقت الذي اعترف العدو نفسه بالهزيمة،
وهو ما جاء على لسان شاؤول موفاز (يجب أن نقول الحقيقة:
لقد هُزمنا) وما ذكرته صحيفة هآرتس (لم تكن صفعة لنا بل
ضربة قاضية).
السعودية، كما قوى الرابع عشر من آذار في لبنان، بدأت
تحيك قصة انتصار من نوع آخر (الانتصار الحقيقي هو انتصار
الاعمار) كما جاء على لسان وزير الخارجية الامير سعود
الفيصل. ومن السخرية بمكان، أن حتى الانتصار لم تنل منه
حصة بحجم دعواها، فقد سبقت قطر والامارات وايران وسوريا
واليمن والكويت في تقديم تعهدات بالمشاركة في إعادة إعمار
قرى وبلدات وجسور وطرقات ومؤسسات عامة وغيرها، فيما بدت
المساعدات السعودية باهتة، خصوصاً وأن تلك المساعدات وجدت
طريقها الى القوى السياسية اللبنانية الحليفة لها والتي
بدأت تفوح رائحة الفساد من داخلها بفعل سرقة المساعدات
الخارجية وبيعها، أي أنها وضعت بيضها في سلة مشبوهة.
إن التشويه الذي لحق بصورة الحكومة السعودية لدى الغالبية
العظمى في لبنان لا يقل عنه لدى الغالبية العظمى من العرب
والمسلمين من طنجا الى جاكرتا والذين أعربوا بصدق ووفاء
عن تضامنهم مع المقاومة اللبنانية وصمودها وفي الوقت نفسه
عبّروا عن غضبهم على حكومات عربية مثل السعودية والاردن
ومصر لمواقفها المخزية والمتواطئة مع العدوان الاميركي
ـ الاسرائيلي.
وضعت الحرب العدوانية أوزارها، وسقطت قائمة الاهداف
المعدّة سلفاً في تقويض المقاومة اللبنانية وأظهرت الاخيرة
استعداداً فائقاً لمرحلة ما بعد الحرب، فهي الآن تدير
باتقان معركة البناء والاعماء. وهناك بلا شك قضايا عالقة
ربما توارت خلف دخان الحرب ولكنها لم تقفل، وهي المتعلقة
بالموقف السعودي من المقاومة. أسئلة عديدة تطرح الآن حول
خلفيات هذا الموقف، وما هي علاقة الحكومة السعودية بقيادة
حزب الله، وماهي الاسباب التي دفعت بالحكومة الى تبني
موقف يتسم بالعدائية ضد المقاومة، وهل هناك دور لقوى الرابع
عشر من آذار في تخريب العلاقة بين قيادة حزب الله والحكومة
السعودية، وهل الموقف الرسمي السعودي يعبّر عن إجماع داخل
الطبقة الحاكمة في السعودية أم أنه يقتصر على جناح ولي
العهد واخوته سلمان ونايف.
الحكومة السعودية لم تفصح حتى الآن عن موقفها، فيما
تركت كتيبة من رجالها في الماكينة الدعائية الرسمية وشبه
الرسمية للذهاب بعيداً في ترصين الموقف السعودي والدفاع
عنه بلغة موتورة لا تخلو من ابتذال وإسفاف. في المقابل،
التزمت قيادة حزب الله مستوى لائقاً في التعبير عن تحفظها
على الموقف السعودي، ولم تخرج عن نطاق (العتاب الاخوي).
في المقابلة التي أجرتها جريدة (السفير) اللبنانية
مع الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والمنشورة
في الخامس من سبتمبر طرح سؤال حول تأثيرات البيان الأول
الذي أصدرته الحكومة السعودية في تعليقها على اندلاع العدوان
الاسرائيلي على لبنان، حين وصف البيان عملية أسر الجنديين
بـ (المغامرة غير المحسوبة)، على علاقة الحزب بالحكومة
السعودية؟ أجاب نصر الله قائلاً: (بالنسبة الى ما صدر
من مواقف عن السعودية في البداية وكذلك البيان الصادر
عن القمة المصرية الاردنية وأجواء الاجتماع الاول لوزراء
الخارجية العرب في القاهرة، بالحد الادنى واذا اردنا أن
نخفف لهجتنا نقول انه كان من حقنا أن نعتب ولا يجوز أن
يحزنوا او يتألموا). وفي رده على تقييم السعودية لعملية
أسر الجنديين الاسرائيليين، تحدث عن كارثية أثر البيان
السعودي على لبنان حيث وظّف الاسرائيلي والاميركي، حسب
نصر الله، هذه المواقف (لتغطية الحرب الاسرائيلية الاميركية
على لبنان). وأشار نصر الله الى أكثر من مجرد بيانات وقال
مانصه:(كان الاسرائيليون قد استندوا الى أكثر مما قيل
في البيانات الرسمية العربية المعلنة عندما تحدثوا عن
اتصالات تقوم بها حكومات عربية من أجل أن تبارك لهم حربهم
على لبنان وتدعوهم للاستمرار فيها حتى القضاء على <حزب
الله>).
وبالرغم من أن نصر الله تحفّظ على الشق الثاني من الادعاء
الاسرائيلي حول اتصالات رسمية عربية، الا أنه قال (من
خلال قراءة المواقف الرسمية العربية المعلنة من الحرب
على لبنان والمقاومة وهم أصدروها رسمياً، بالحد الادنى
اقول: قصدتم ام لم تقصدوا فلقد شكل موقفكم غطاءً للعدو
أو بالحد الادنى، تخلياً عن لبنان وعن المقاومة فيه التي
قلتم جميعا أنكم تعتزون بها في العام الفين وقمتم بتهنئتها
بانتصارها).
نصر الله الذي خفف من وطأة الآثار الكارثية للموقف
السعودي، خصوصاً بعد أن أظهرت المقاومة صموداً باهراً
أراد أن يفتح صفحة جديدة مع الحكومات العربية التي كانت
لحزب الله علاقة من نوع ما معها مثل السعودية ومصر.
يقول نصر الله (في ما يخص الاخوة السعوديين، اذا كان
هناك عتب فهو أكبر، لان العلاقة معهم كانت متطورة وحصلت
لقاءات كثيرة بيني وبين السفير السعودي في بيروت الدكتور
عبد العزيز خوجة وكذلك مع مسؤولين سعوديين جاؤوا الى بيروت.
كما أن الملك عبد الله بن عبد العزيز قال كلاماً طيباً
في أكثر من مناسبة سواء في ما يتعلق بحزب الله والمقاومة
أو بالنسبة اليّ شخصيا... حتى انه قبل اسبوع من الحرب
نُقل عن الملك عبد الله قوله ان السيد حسن نصر الله هو
إبننا العزيز ونحن نوصي به ونراهن عليه... الخ).
في سؤال حول عدم تلبية دعوة الحكومة السعودية بزيارة
المملكة قال نصر الله (نعم وجهت الدعوة اليّ لزيارة المملكة،
وطالما ان الموضوع أثير في وسائل الاعلام، فسأتطرق اليه.
عندما أبلغني السفير السعودي في بيروت الدعوة قلت له إنني
أقبلها من الناحية السياسية والاخوية وأنا أعتز بها ولا
مشكلة سياسية بتلبيتها إنما المشكلة أمنية وأنا لا أستطيع
أن أسافر ولذلك لم أذهب الى الحج منذ العام 1986 ليس لأنني
لا أحب الذهاب الى الحج بل لأسباب أمنية أيضا طالما أن
أمنية كل إنسان مسلم وخاصة المتدين أن يذهب الى الحج.
انا محروم من هذه النعمة ومن تأدية العمرة وكل سنة كانت
توجه اليّ الدعوة الى الحج كنت أعتذر لأسباب أمنية).
ويضيف نصر الله (لم يكن لدينا أي تحفظ سياسي على الدعوة
لزيارة المملكة. أنا فهمت في المقابل، أن بعض المسؤولين
في المملكة يعتقدون أن ما يحول دون تلبيتي للزيارة توصيات
إيرانية وسورية. هذا غير صحيح نهائياً. على كل حال سوف
تأتي الايام وتثبت أن أكبر حركة سياسية إستقلالية في لبنان
عن أي محور أو دولة هي <حزب الله> ولكن أريد ان أصحح الاستنتاج
الخطأ لدى بعض المسؤولين في المملكة وأقول لهم إنه عندما
عرف الايرانيون والسوريون بوجود الدعوة بادروا الى تشجيعي
على تلبيتها وقالوا إن ذلك من شأنه تطوير العلاقات أكثر
مع المملكة وذلك على عكس ما يظن بعض المسؤولين السعوديين.
حقيقة الامر وأكرر ذلك أن السبب أمني بحت وأنا أبلغت السفير
السعودي في بيروت إنني شخصيا لا استطيع الذهاب لكن أي
أخ آخر في الحزب يمثل الامين العام سواء في شورى القرار
أو الوزير محمد فنيش، وقلت لهم هذه الاسماء عندكم، ومن
ترغبوا باختياره ودعوته من (حزب الله) من دون أن أحرجكم
أنا بالتسمية، يذهبْ كممثل عني شخصيا وعن قيادة الحزب
وأنا أفوضه بما قد يناقش معه من قضايا، لكنهم لم يعطوا
جوابا وهذا قبل الحرب الاخيرة. أكرر الاسباب امنية وليست
سياسية ونحن مهتمون كثيراً بالعلاقة وتطويرها وتحسينها).
وعن محاولات لاعادة ترميم العلاقة بين حزب الله والحكومة
السعودية، ذكر نصر الله بأن هناك أصدقاء مشتركين لبنانياً
(سعوا لإعادة التواصل والاتصال وليست لدينا أية موانع
في ذلك، لا بل حصلت في الآونة الاخيرة اتصالات وان شاء
الله الامور تتحسن الى الامام).
لا شك أن الحكومة السعودية خسرت كثيراً في هذه الحرب،
وهي تدرك تماماً بأن بيانها الاول قد جلب لها نقمة وغضباً
على المستوى اللبناني والعربي والاسلامي، ولذلك سعت الى
تعويض تلك الخسارة من الطرف الذي أدانته، أي المقاومة
اللبنانية، لاعتقادها بأن لا شيء يمكن تعويض خسارتها وترميم
صورتها وسمعتها الا عبر قيادة حزب الله الذي لقي دعماً
شعبياً عربياً واسلامياً واسعاً.
طلبت السعودية من قيادة حزب الله ممثلة في السيد حسن
نصر الله أن ينوّه بالمساعدات السعودية للبنان بالاسم
ولكن قيادة المقاومة رفضت ذلك، بسبب الموقف السلبي خلال
العدوان الاسرائيلي على لبنان واعتبرت ذلك خيانة لدماء
الشهداء حيث اعتبرت المقاومة البيان الفضيحة سبباً رئيسياً
في تدمير لبنان، وقد اكتفى السيد حسن نصر الله بتقديم
الشكر لكل الدول العربية التي أعلنت عن مساعدات دون تحديد،
وهو ما أغاض الحكومة السعودية، وظهر ذلك على لسان وزير
الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل الذي اعتبر الانتصار
الحقيقي هو الانتصار في الاعمار، في مزايدة واضحة على
انتصار المقاومة الذي لم تهضمه القيادة السعودية، بل اطلقت
العنان لوسائل اعلامها باستعمال لغة مشحونة بعبارات التشهير
والسخرية من انتصار المقاومة وصمود الشعب اللبناني على
طريقة قوى الرابع عشر من آذار.
لقد فتحت قيادة حزب الله الباب أمام السعودية مرة ثانية
من أجل تصحيح أخطاء فادحة في سياستها الخارجية، ولكن فيما
يبدو أن ثمة أطرافاً عدة تسهم في استدراج القيادة السعودية
للبقاء على موقفها. ولا شك أن دور وزير الخارجية الامير
سعود الفيصل الذي بات أكثر متشدداً من ذي قبل يميل الى
السير في الرهان الدولي المدعوم أميركياً واسرائيلياً.
زيارة كوفي أنان الى السعودية في الخامس من سبتمبر
كانت محاولة لاعادة بناء الموقع السعودي على المستوى الاقليمي
بدرجة أساسية، حيث أعلن من جدة عن دور السعودية في أمن
المنطقة وعملية السلام في الشرق الاوسط وفي إعادة إعمار
لبنان. فقد أشاد أنان في المؤتمر الصحافي مع وزير الخارجية
سعود الفيصل بدور السعودية، وقال بأن لها دوراً إقليمياً
ودولياً في التأثير إيجاباً تجاه تطبيق القرار 1701 (مثلما
هو نفوذها المعترف به في المساعدة على حل جميع قضايا المنطقة،
بما فيها العراق وفلسطين). ولم ينس أن يذكّر أيضاً من
جدة بالاتفاق الذي تم التوصل اليه بين حزب الله واسرائيل
لجهة تبادل الاسرى وأنه سيعين ممثلاً سرياً عنه للقيام
بهذه المهمة.
عملية ترميم صورة الحكومة السعودية شملت أيضاً المعتقلين
السعوديين في غوانتنامو، الذين لم يحظوا باهتمام يذكر
خلال سنوات سابقة، ولم تفق الحكومة من سباتها الا بعد
أن ارتفعت أصوات عوائلهم الغاضبة على اهمال الحكومة، وبعد
أن أوصل المعتقلون أصواتهم بالموت، فأفرجت السلطات الاميركية
عن ثلاثة منهم جثثاً فعادوا توابيتاً الى وطنهم.
السياسية الخارجية السعودية تشهد وضعاً مربكاً للغاية،
وهي تتكبد خسائر على المستوى العربي والاسلامي بل والدولي،
وأن الخروج من القمقم الاقليمي لجهة الانفتاح على الواقع
الدولي لم ينقذها من كوارث سياسية، وهي تكشف عن غياب استراتيجية
واضحة في السياسة الخارجية.
|