معوّقات المشروع الوطني

حين يطرح موضوع الإصلاح تبرز على الفور جهتان تعارضانه: المؤسسة الدينية الرسمية والعائلة المالكة.

الاتفاق بين هاتين القوتين حول هذا الأمر وأمور أخرى لم يعد أمراً سهلاً لبروز عوامل محلية وخارجية تعيق استمراره وتفرض على العائلة المالكة حسم ثنائيات متعارضة غير قابلة ـ ضمن الظروف الموضوعية ـ للاستمرار.

الوهابية أو الديمقراطية: من الصعب أن تكون هناك حريات وديمقراطية (أو شورى) بوجود الوهابية متحكّمة على الأفكار والعقول. فالأخيرة ـ كما أثبتت الممارسة منذ أن قامت ـ تمثل النقيض الحاد لكل ما يمت للاعتدال والحرية والتعددية. لقد ارتبطت دائماً بالواحدية الثقافية والفكرية، وأصبحت مقرونة بالهيمنة على الأفكار والتوجهات والأشخاص.

وارتبطت أيضاً ودائماً بالاستبداد السياسي، تشرعنه كي يشرعن تحكّمها في الممارسة الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي أفضى الى ازدواجية حادّة في الشخصية السعودية وفي ممارساتها. وارتبطت الوهابية دائماً بتحطيم الخصوم الفكريين والسياسيين عبر مسالك العنف الجسدي والمادي، والإقصاء شبه التامّ للمختلف حتى ضمن الفضاء الخاص، كما ارتبطت بتأكيد المختلف بشأنه مهما صغر وترجيح المصلحة الخاصة بالمذهب ورجاله على مصلحة المملكة كنظام سياسي حاكم وكشعب ودولة تضجّ بحقيقة التعدد في أصول سكانها وجغرافيتها وثقافتها ومذاهبها ومصالح فئاتها السياسية والإجتماعية.

والوهابية بعد هذا وذاك، نقيض للتسالم الإجتماعي والإستقرار السياسي، وتتبنّى النقيض للهوية الوطنية وأهدافها الوحدوية، ومتطلباتها الأساسية عبر الإشراك السياسي للجمهور في عملية صنع القرار، فهي تؤمن بأحقيّة العلماء (الوهابيين دون غيرهم) كشركاء وحيدين مع العائلة المالكة في تقرير مصير البلاد والعباد، وهي بهذا تؤمن باستخدام السلطان لتحقيق رؤيتها الضيّقة والخاصّة في نوعية المجتمع الذي يراد صياغته وصنعه، ونوعية السياسة الداخلية والخارجية التي يجب انتهاجها بغض النظر عن المصلحة العامّة المتحققة من ذلك.

لهذا كله، يصعب تصوّر قيام نظام سياسي بهامش مقبول من الحريّة، مع الإحتفاظ بدور منفرد ومتميّز وقوي للوهابية.. لذلك ليس من المستغرب أن تتوجّه كثير من سهام دعاة الإصلاح السياسي في المملكة الى المذهب الرسمي (الوهابي) باعتباره عقبة حقيقية، إن لم يكن العقبة الكأداء التي تستبطن معظم المشكل السياسي الخانق.. ولذا أيضاً، نجد أن سهام وفتاوى تكفير رموز الوهابية المتطرّفة لا تتوجّه في معظمها إلاّ الى دعاة الإصلاح والإنفتاح المعروفين كرموز في المجتمع، إمّا باعتبارهم علمانيين أو روافض أو صوفية أو سلفيين معتدلين انحرفوا عن جادّة الصواب.

وفوق هذا، ليس من المستغرب استخدام العائلة المالكة للوهابية كترس تتحصّن به في مواجهة خصومها السياسيين أو من تعتقد أنهم كذلك.

وفي المقابل، قد نفهم حقيقة لماذا تتعرّض العائلة المالكة للنقد من قبل كلا الطرفين: دعاة الإصلاح، ورموز السلفية الوهابية المتطرفة. الأولون يرون أن العائلة المالكة تحابي المتطرفين، وبالتالي فنقدهم لها يتساوق إن لم يتساوى مع نقد الوهابية، ومتطرفة الوهابية يطالبون بالمزيد من تكميم الأفواه، والمزيد من السلطات، والمزيد من التهميش للقوى المخالفة لهم.

الشرنقة الطائفية : ثنائية أخرى تكشف عن أزمة بدأت تظهر بعد أحداث سبتمبر 2002، وهي أن العائلة المالكة وُضعت اليوم أمام خيار الإستمرار في احتضان الوهابية والتستر على خطاياها وتشجيع ممارساتها، وخيار البقاء في الحكم. لقد طال بقاء النظام السياسي محبوساً في شرنقة المذهب، وآن له أن يخرج منها قبل أن يخسر القائمون على رأسه الحكم بقضّه وقضيضه.

لقد أدّى الإنحباس في الشرنقة المذهبية، الى نتائج خطيرة للغاية أوقعت المملكة اليوم شعباً وحكومة في مآزق لا يعلم أحدٌ الى أين ستنتهي، وصار على الشعب أن يدفع ثمن أخطاء فئة متحكمة في السياسة (العائلة المالكة) والدين (الوهابية).

عدم الخروج من الشرنقة أدّى كما هو واضح اليوم الى التالي:

أميركا أو الوهابية: ثنائية ثالثة محرجة ليس لها من حلّ في الأُفق. إما خيار الوهابية أو العداء لقوى إقليمية ودولية لا قبل للمملكة بمواجهتها جميعاً، ولا الفرار ـ في المدى المنظور ـ من آثار استعدائها.

الوهابية حين بروزها الأخير أثناء تأسيس الدولة كانت لا ترى غير أتباعها مسلمين، والبقية جميعاً بلا استثناء كفرة ومشركين. على هذا قام بنيان الدولة السعودية، عبر شرعنة التوسّع العسكري واعتبار ديار الآخر ديار كفر وبطلان. والآخرون عاملوها بالمثل، عداءً بعداء، وتكفيراً بتكفير.. سواء في مصر أو الأردن أو العراق، أو اليمن ودول الخليج العربي نفسها، فضلاً عن الأبعدين تركيا العثمانية وايران الشيعية، إضافة الى مسلمي القارة الهندية.

بتأسيس الدولة، حاول الملوك السعوديون تلطيف ملمسها، بعد أن توقف التوسّع (أي الجهاد الوهابي) فأمنت الدول المجاورة من تغوّلها، وبدا أنها قد ضُبطت عبر مأسستها وتقاسمها للحكم في بعده الديني. وشيئاً فشيئاً، عاودت الروح الجهادية من جديد، فجرى قذفها بوجه الآخر الخارجي تشيع تكفيره، وتحرّض عليه، مترافقاً مع رصد الإمكانات المادية الكبيرة التي جاءت بها إيرادات النفط. لقد وجّهت ضد مصر الناصرية، وضد بعثية العراق، وضد ثورية وشيعية إيران، وجاءت أحداث احتلال افغانستان فدفع الأمراء بأتباعها الى محرقته ليمارسوا الجهاد ضد الشيوعية.

أميركا والغرب عامة كانا الرابح الأكبر من تلك المعارك، لم توجه لهم طعنة أو ضربة، ولم يلتفت أحدٌ من أتباعها الى احتلال لبنان أو فلسطين إلاّ لماماً وكلاماً.

كان جهيمان يريد إعادة الفريضة الغائبة ولكن أين؟ حسب شعره المنشور: الى دول الجوار (في الخليج تحديداً)، وكانت الرموز المتطرفة تبدي تأففاً متصاعداً من تعطيل الجهاد الذي كان سبباً في ثورة الإخوان الأولى في العشرينات الميلادية، فجاءت أفغانستان مثل (كوّة) أو (فرجة) تنفيس للشعور بالاحتقان الداخلي، فتضخمت عضلات الأتباع، وسقطت مهابة الدولة ونظام الحكم الذي أصبح هو الآخر هدفاً لمرماهم.

وأميركا التي كانت تفاخر بالإسلام السعودي المعتدل (الوهابية) وترفعه مقابل إيران ولبنان والسودان والجزائر وغيرها، وكانت تتمنّى لو أن النموذج السعودي (الفريد) جرى تعميمه.. النموذج (المعقلن) المدار من قبل السلطة السياسية السعودية المحافظة التي ترسم له فضاء معاركه، وتحدد له خصومه.. لكنها اكتشفت متأخرة أنها كانت مخطئة في تقييمها.

أميركا والغرب تعايشا مع الوهابية منذ نشأتها ولم يصطدما بها، بل موّلوها ـ كما هو معروف في التاريخ ـ لتقضي على خصوم النظام السياسي المتوازي مع خطط البريطانيين ومن ثم الأميركيين.. اليوم أصبحت أميركا مستهدفة لأول مرة في تاريخ الوهابية. وهكذا، أصبحت العائلة المالكة المتكئة في الأساس على عكازين متناغمين متآلفين الى حد كبير: الوهابية حامية الداخل الشعبي وأميركا حامية النظام خارجياً، متعاديين متناقضين، لا تستطيع العائلة المالكة فوقهما إلاّ الإهتزاز والترنّح.

منذ بداية التسعينيات وعودة من سمّوا بـ (الأفغان العرب) الى ديارهم، تزايد قلق دول الجوار، بل والأبعدين العرب والمسلمين من تلك العودة التي كشفت عن تصادم عنفي بينهم وبين أنظمتهم. وبتتبع الخيوط التي كانت على الدوام تؤدي الى دور للمملكة ومؤسساتها وفكر رجال دينها، انبعث تاريخ الخوف القديم من تمدد الوهابية (يعتبر الوهابيون ذلك من مفاخرهم كون جميع الأنظمة تستهدفهم عربية كانت أم إسلامية فضلاً عن الانظمة الغربية). لم تفلح الدبلوماسية السعودية الهادئة في تلطيف الأجواء، وإقناع الآخر بأن المتطرفين لا يمثلون إلاّ جناحاً صغيراً يمكن استئصاله. وبعد أحداث نيويورك وواشنطن (غزوة مانهاتن!) وما نتج عنها من إملاءات وضغوط أميركية.. بدأت تلك الدول العربية والمجاورة تحرّض وتشير بأصابع الإتهام الى السعودية ونظام الحكم فيها بمؤسساته ورجاله. بالنسبة لكثير من تلك الدول، أدت أحداث نيويورك الى استحضار تاريخ الوهابية القديم خاصة في دول الخليج العربي واليمن والأردن، فظهر بينها من انتعش مما حدث، وشمت بنظام الحكم السعودي، واستحضر ثارات التاريخ، وتمنّى المتمنّون أن لو عاد الوهابيون الى قمقمهم في نجد، وأن لو تحوّلت السعودية الى دويلات (أو دول حتى لا يغضب البعض!) وتم تالياً تحجيم السعوديين في إطار مملكتهم القديمة وفي دائرة الوهابية: نجد.

الولايات المتحدة اليوم تضغط بشدّة على العائلة المالكة لقصقصة أجنحة الوهابية، أو تحجيم دور الدين في عملية صناعة القرار السياسي عموماً، وتضع ذلك في كفّة، والإستمرار في علاقات متميّزة، مع ما تعنيه من استمرار لحماية نظام العائلة المالكة في كفّة أخرى. الرفض يعني ـ كما تلوح بوادره ـ زعزعة نظام الحكم، وتقسيم المملكة، وهذا الخيار الأخير بُدئ بالعمل به فعلاً والبحث عن وجوه سعودية تستكمل صناعة السيناريو القادم، متزامناً مع تحريض بعض دول الجوار لأميركا لكي تقدم على ذلك. الأمراء السعوديون المتنفّذون اليوم في حيرة من أمرهم، والحقيقة فإن وضعهم صعب للغاية، فهم لم يفكّروا أن ثنائية صعبة كهذه يمكن أن تواجههم في يوم ما. وفي حين أن الشارع السعودي في مجمله، بغض النظر عن الموقف الأميركي، يميل الى تحجيم الوهابية.

الصفحة السابقة