ردود الفعل على (هيئة البيعة)
تفكيك العصبة السديرية أم صراع أجنحة مؤجـّل
تباينت ردود الفعل على إعلان الملك عبد الله عن (هيئة
البيعة) شهر أكتوبر الماضي، بين من وصفها بأنها قفزة في
الهواء ومن اعتبرها تحولاً جوهرياً في السلطة، وآخر صوّرها
على أنها ترحيل لمشكلة عميقة تهدد بانفراط عقد الحكم،
وآخر وضعها في سياق الانتقال نحو الحكم الدستوري، وهناك
من أدرجها في إطار تسليم السلطة للجيل الثالث. غير أن
الأمر الأهم هو أن (هيئة البيعة) قدحت شرارة نقاش جدي
حيال مشكلة الحكم في السعودية، ويعنينا بدرجة أساسية معرفة
أبعاد هذه التشكيلة الجديدة، وماذا تعني بالنسبة لأجنحة
الحكم المتصارعة، وماذا تعني أيضاً بالنسبة للرأي العام
المحلي؟. مصادر مقرّبة من العائلة المالكة ذكرت بأن إعلان
هيئة البيعة كان ضربة موجعة إن لم يكن قاصمة للجناح السديري،
الذي أسقط الملك من يد أقطابه ورقة الحسم في المرحلة المقبلة،
فيما تنفّست الأجنحة الأخرى الصعداء، خصوصاً مع رواج شائعات
عن إحتمال حصول أمير غير سديري على منصب ولاية العهد في
مرحلة ما بعد عبد الله. تحدّث البعض عن الأمير طلال، الأوفر
حظاً حسب هذه المصادر، باعتباره حائزاً على قبول الأجنحة
الأخرى، من غير الجناح السديري بالطبع، إلى جانب تأييد
عدد من الليبراليين والوطنيين له لقربه منهم. وقالت المصادر
بأن الأمير طلال بدا مسروراً للغاية بقرار الملك، كونه
حرر الاجنحة الأخرى قاطبة في العائلة المالكة من هاجس
رافقهم طيلة سنوات، ويخشون من أن يصبح الكابوس حقيقة مرعبة
لهم، دع عنك السكان المحليين الذين يضعون أيديهم على قلوبهم
فيما لو وصل سلطان الى العرش.
خالد الدخيل: من مرجعية التقاليد الى مرجعية
القانون
|
مهما يكن، فإن إعلان هيئة البيعة شكّل مادة للتحليل
على أفق واسع لمسألة الحكم، وسنحاول هنا تسليط الضوء على
بعض ما ذكره عدد من المراقبين والخبراء والمهتّمين بالشأن
السياسي السعودي.
نبدأ بما نقلته وكالة رويتر للأنباء في السادس والعشرين
من أكتوبر الماضي تحت عنوان (السعودية: الأمراء الشباب
قادمون) عن محللين قولهم (أن تحرك السعودية هذا الشهر
ـ أكتوبر ـ لإضفاء الصفة الرسمية على الخلافة يمهّد الطريق
لصعود حكام أصغر سناً الى السلطة ويرمي لمنع الخلاف الداخلي
بين الجيل المقبل من الأمراء). وتضيف الوكالة نقلاً عن
محللين (أن هذه الخطوة تهدف الى ضمان الإستقرار عندما
تنتقل الخلافة من أبناء عبد العزيز الذين يعتقد أن أصغرهم
في الستينات من العمر إلى أحفاده).
ونقلت رويترز عن خالد الدخيل، أستاذ علم الاجتماع السياسي
بجامعة الملك سعود قوله (أن الخلافة هي من أكثر القضايا
أهمية بالنسبة لاستمرار أي نظام سياسي وأن المرسوم الملكي
يملأ فراغا دستوريا بعد أن أدركت القيادة أن الجيل الجديد
من الحكام سيحتاج لآلية أكثر تطوراً). كما نقلت رويترز
عن دبلوماسي غربي في الرياض قوله (أدركوا أن الخطر الاساسي
الذي يتهدد حكمهم الان هو الخلاف الداخلي)، وأشار الى
أن سقوط دولة سعودية سابقة خلال منتصف القرن التاسع عشر
كان سببه الصراع على الخلافة.
وعلّقت الوكالة بالقول (قبل ذلك كان للملك وحده الصلاحية
الكاملة في تسمية ولي العهد رغم أن دبلوماسيين غربيين
يقولون ان مثل هذه القرارات غالباً ما تجري مناقشتها داخل
الأسرة المالكة. لكن مع تقدم أبناء الملك عبد العزيز في
السن وازدياد عدد أحفاده الكبير بالفعل كان يتعين على
النظام الملكي أن يضع نظاماً رسمياً للخلافة).
ونقلت الوكالة عن الدكتورة مي يماني، قولها بأن القرار
(يفتح الباب لأحفاد الملك عبد العزيز، إنه يضع قاعدة وآليات
لتجنّب الخلافات الداخلية على السلطة (...) والتي تزيد
احتمالات حدوثها بين الأحفاد وبين أبناء عبد العزيز)،
وأضافت (هذا هو البلد الوحيد في العالم الذي تعدُّ فيه
شاباُ وأنت في الستين).
ونقلت رويترز عن دبلوماسي غربي قوله (هذا تطور كبير
وواع للغاية، سيزيد من نفوذ الأجيال الأصغر). وأضاف (العديد
من أبناءه (الملك عبد العزيز) يتقدّمون في السن عاماً
بعد عام، ولهذا فإن المجازفة بحدوث أزمة أخرى طويلة المدى
بسبب صحة الملك مثلما حدث مع الملك (الراحل) فهد ستزيد).
وقال الدبلوماسي (سيكون هناك عدد أكبر ومتزايد من الأمراء
الأصغر سناً، وبالتالي سيتسع نطاق العوامل التي توضع في
الإعتبار بخلاف السن).
ونشرت صحيفة (القدس العربي) الصادرة في لندن، مقالاً
في 27 أكتوبر بعنوان (هيئة البيعة السعودية: هل ترد للملك
باليسار ما منحه الملك باليمين) للكاتب صبحي حديدي. وأفرد
الكاتب مساحة لوضع هذا التطور في سياق مجريات ما بعد مبايعة
عبد الله ملكاً على السعودية وضمن مبدأ التوريث، وهو العرف
الذي سرى في كل العهود السابقة. ويقدّم الكاتب خلفية تاريخية
لهذا المبدأ بالقول (حين اضطر مؤسس المملكة الى تطبيق
مبدأ الزعامة المركزية، فانه في الآن ذاته كان يستجيب
صاغراً لواحد من أخطر مقتضياتها: الإلغاء التدريجي لامتيازات
وأعراف وأنماط عيش الدولة ـ القبيلة حيث الديرة عالم صغير
متماسك متلاحم مهما امتد في الفيافي والقفار.
والأرجح، حسب حديدي، أن معركة إبن سعود مع العشائر
لم تنتهِ حتي يومنا، أو هذا على الأقل ما يستنتجه أندرو
هيس في دراسة موسعة نشرتها مجلة الشؤون الدولية مؤخراً،
ولم يتمكن من بسط السلطة المركزية على العشائر ورسل الموت
والدعاة الوهابيين المتناثرين هنا وهناك في أرجاء المملكة
إلا بعد العام 1930. واذا كانت أسلحة الحديد والنار قد
نجحت في تطويعهم عسكرياً، فان أصول الدين واصلت بقاءها
في نفوسهم، واتخذت شكل مؤسسة عقائدية مستقلة جبّارة، تتبادل
التأثير والتأثر والشد والجذب مع بيروقراطية الدولة وشروط
العصر وعواصف التحديث التي كانت تهبُّ بين الحين والآخر
لأسباب موضوعية صرفة.
وهكذا فان صيغة التعاقد بين المؤسسة السياسية والمؤسسة
الدينية فرضت على النظام إعتماد مزيج من سياسات القوة
بما تتضمنه من إضعاف للإمتيازات القبلية، وتوطيد للقرابات
والولاءات، ودعم للأسس الإدارية وللبيروقراطية الضرورية
الوليدة، وإتمام للزواج الناجح بينها وبين شركات النفط
العملاقة، واستيراد التكنولوجيا، والمضي قدماً في التحالفات
الإقليمية والدولية، وتطبيق إستراتيجية أمنية إنعزالية
وجامدة ووقائية... في آن معاً.
وكانت أربعة عقود من التصارع بين السلطة القبلية وسلطة
الفتوى والسلطة المركزية قد أقنعت إبن سعود باستحالة إغفال
أي منها لصالح أخرى، فأوصى أبناءه بإدامة التوازن الدقيق،
وبذل آخر ما تبقى في جعبته من حنكة سياسية في ضمان خط
تعاقبي آمن في وراثة العرش. ولكن تحوّل المملكة الى منتج
أساسي للنفط في عهد الملك سعود، وتجاوز سقف المليون برميل
يومياً، أسند للعائدات النفطية وظيفة سوسيولوجية جديدة
وخطيرة هي تدمير هياكل التوازن التي شيّدها إبن سعود،
خصوصاً ذلك التشارك القلق بين القِيَم القبلية وأصول الدين
ونظام الادارة. والخبرة التي راكمتها الأسرة الحاكمة في
تدبير الشأن القبلي لم تستطع تقديم إجابات مناسبة على
أسئلة وتحديات العمران والتحديث (التي أضعفت الأواصر القبلية
بالضرورة)، وتوزيع عائدات النفط (التي ضاعفت ايقاع الولاءات
الشخصية وعلاقات الاستزلام)، والظواهر السياسية الاقليمية
والدولية في ظل المد القومي العربي واشتداد الحرب الباردة.
وربما كان العجز عن تقديم تلك الاجابات هو العامل الأكبر
وراء قرار الأسرة الحاكمة بتنحية سعود وتنصيب فيصل، وذلك
بغرض مواجهة تلك التحديات دون المساومة علي مبادئ التركيبة
السعودية، أي سلطة آل سعود، واستمرار الشراكة مع سلطة
الفتوى والقراءة الوهابية للاسلام عموماً، فضلاً عن توطيد
علاقات القرابة والولاء الشخصي.
ويختم حديدي بالقول: أن تلك السيرورات هي ذاتها التي
استولدت ما يُسمي بـ القوى الليبرالية أو التكنوقراط أو
دعاة الإصلاح في صفوف المثقفين خصوصاً، وتوجب أن تشكل
قطباً موازياً موضوعياً للقطب العقائدي الوهابي المشيخي،
الذي التحم الآن بهيكليته القبلية وبات الحامل الرسمي
للقِيَم القبلية والأعراف والتراث والماضي التليد والدين...
ههنا التركة الثقيلة المعقدة التي يجابهها آل سعود اليوم،
والتي لا تدفعهم الى التكاتف الأقصى حول الملك الجديد،
في أي وكل ملف يخص أمن الحكم واستمراره فحسب، بل تزجهم
ـ على نحو لا مثيل له منذ تأسيس المملكة ـ في صراع شرس
من أجل البقاء.
عمرك ستين عاماً، إذن أنت شاب!
|
هذا مشهد، يقول حديدي، يقوم على وضع عالق ومعضلة مفتوحة
ومأزق مستديم، وعلاجه بحاجة ماسة الي ما هو أكثر جذرية
من محض هيئة بيعة ترد للملك باليسار ما منحه الملك باليمين!
رؤية أخرى يقدّمها الكاتب فؤاد ابراهيم في صحيفة (الأخبار)
البيروتية بتاريخ 27 أكتوبر بعنوان (هيئة البيعة: التسوية
المؤجلة لشكل الحكم السعودي)، حيث ذكر بأن رحيل الملك
فهد في نهاية تموز 2005 يعد بداية مرحلة جديدة غير مسبوقة
في تاريخ العائلة المالكة، وقال ما نصه: (فمن جهة أصبح
دور الملك مقيداً بأوضاع حكم بالغة التعقيد، الأمر الذي
يحول دون حيازته صلاحيات مطلقة، بحسب النظام الأساسي للحكم
الصادر في آذار 1992). ويعلّق الكاتب قائلاً: (ويعود هذا
الخفض لسلطة الملك إلى تنامي قوى أخرى داخل الجهاز الإداري
للدولة، باتت تملك قدرة على التأثير، سلباً أو إيجاباً،
في سياسات الدولة وتوجهاتها، بما فرض معادلة جديدة للحكم
تقوم على توازن قوى للسلطة). ومن جهة ثانية، حسب الكاتب،
فإن الوضع الجديد بالقوى الفاعلة فيه ينذر بمستقبل أشد
تعقيداً مما هو عليه إذا بقي تقليد توارث السلطة بالطريقة
السائدة، حيث ستقع الدولة حكماً في قبضة الجناح السديري).
ويلفت ابراهيم الى أن هذا المسار التقليدي، فيما لو
جرى بالطريقة السابقة، لا بد أنه سيبعث هواجس الأجنحة
الأخرى في العائلة المالكة، التي تجد نفسها تدريجياً خارج
تخوم السلطة. وهناك خشية حقيقية لدى تلك الأجنحة من اختزال
الحق التاريخي لسلالة المؤسس في الجناح السديري، لذلك
يرى المراقبون أن رسالة (هيئة البيعة)، المعلن عنها في
العشرين من تشرين الأول، تبطن نية كسر الاحتكار المستقبلي
للسلطة من الجناح السديري، وفتح أفق القسمة لاستيعاب الأربعة
والعشرين ابناً للملك المؤسس على قيد الحياة.
وقال الكاتب بأن قرار الملك عبد الله تأليف هيئة البيعة
يشدد في استهدافاته المفصح عنها، أي تنظيم شؤون الحكم
ومبايعة الملك وولي العهد، على آلية صناعة الإجماع داخل
العائلة المالكة، ويظهر من فحوى القرار الجديد، وكذلك
السياق العام لعلاقة الأطراف الضالعة في الحكم، أن الهيئة
جاءت في سياق تجاذب داخلي كان مكتوماً منذ مرض الملك السابق
فهد عام 1996 وحتى رحيله في آب 2005، ثم بقي هذا التجاذب
مكبوتاً منذ اعتلاء عبد الله العرش في آب 2005.
ويشدد الكاتب على أن (الانتقال من التوافق الودي الى
القانوني، بوحي من هيئة البيعة ذاتها، ينطوي على تعقّد
الروابط داخل العائلة المالكة، في غياب شخصية نافذة تملك
قدرة معنوية كالتي كانت لدى الملوك السابقين. وفي واقع
الأمر يبدو أن مضمون الدور الموكل إلى الهيئة يشي بخلافات
عميقة داخل البيت الحاكم إزاء مرحلة ما بعد الملك عبد
الله، الذي يبدو أنه حسم السؤال حول منصب النائب الثاني
بطريقة تمنحه إبراء ذمة من الأطراف كافة).
مهمة الهيئة، كما تقضي الفقرة الثالثة من مشروع نظام
هيئة البيعة، مرتبطة بمرحلة ما بعد الملك عبد الله، وهذا
يعني إقفال ملف القضية المتعلقة بتعيين نائب ثان للملك،
باعتبار أن هذا التعيين سيكون من اختصاصات الهيئة الجديدة،
التي يفترض أن تكون حافظة نموذجية للسلطة خلال المرحلة
الانتقالية، قبل حسم منصب ولي العهد، مدار الخلاف في المرحلة
المقبلة.
ويصل الكاتب الى أن الهيئة قد تضطلع بدور فض المنازعات
وتشكّل آلية لصناعة التوافق داخل العائلة المالكة حيال
القضايا الخلافية، التي تنبعث من نهاية كل عهد وبدء آخر،
أو في حال إحداث تغييرات في المناصب، أو نشوب خلاف بين
الكبار. بمعنى آخر، إن الهيئة، وإن اشتغلت وظيفياً على
اختيار ولي عهد للملك بدرجة أساسية، إلا أنها بلا شك تتجه
تدريجياً كي تصبح مرجعية نهائية للعائلة من أجل تنظيم
العلاقة في داخلها في ما يرتبط بشؤون العرش والحكم.
من جانبه كتب خالد الدخيل مقالاً بصحيفة الاتحاد الاماراتية
في 25 أكتوبر الماضي بعنوان (نظام هيئة البيعة يدشن حكم
الجيل الثاني)، وذكر بأن تساؤلاً عن مستقبل عملية انتقال
الحكم كان ملحّاً في السنوات الاخيرة. وقال (لم يعد هناك
مفرٌّ من مواجهة أن المرحلة الجديدة تتطلب الانتقال من
مرجعية التقاليد والأعراف إلى مرجعية القانون والدستور.
مثل هذه الخطوة مقدمة ضرورية لخطوات إصلاحية أخرى، سواء
ما تعلق منها بالدستور أو بالجوانب الأخرى للدولة. عدم
الاعتراف بذلك، وعدم مواجهته، أو كما بدا الأمر، من قبل
قيادة الدولة كان يثير التساؤل).
وعلّق على اعلان الهيئة بالقول (بصيغته التي صدر بها
يمثل نظام 'هيئة البيعةب تعديلاً دستورياً للنظام الأساسي
للحكم الذي صدر عام 1412 ?ـ/1992م). وقال بأن النظام الجديد
جاء بتعديلات ثلاثة: الاول والأهم، بحسب وجهة نظره، إنتقال
صلاحية اختيار ولي العهد من الملك إلى هيئة البيعة، مما
يعني الاعتراف بأن الدولة تجاوزت مرحلة التأسيس، وأن الوقت
قد حان لبدء مرحلة البناء السياسي، ببعديه المؤسساتي والدستوري.
اللافت أن هذا التعديل ترك الباب مفتوحاً أمام أن يكون
الملك، بعد انتهاء حكم الأمير سلطان بن عبد العزيز، من
أحفاد المؤسس وليس من أبنائه بالضرورة، كما كان عليه الأمر
حتى الآن.
الثاني: أن النظام وضع، ولأول مرة، ((القدرة الصحية))
شرطاً لتولي سلطات الملك، وسلطات ولي العهد، والاستمرار
في توليهما. واعتبر هذا التعديل نقلة دستورية جديدة، حيث
كانت التقاليد تجعل من الحالة الصحية للملك ولولي العهد
أمراً غير مطروح للمساءلة. مع التعديل أصبح الأمر على
العكس من ذلك.
الثالث: ولأول مرة، يساوي، نظام الهيئة، بين جميع أبناء
الملك عبد العزيز وأحفاده في حق تولي الحكم وفقاً للضوابط
والإجراءات التي حددها. الصلاح والكفاية هما الشرطان الوحيدان
المطلوب توفرهما لأي مرشح. وهذا يفتح المجال أمام العملية
السياسية داخل الأسرة لأن تأخذ مجراها في اختيار الملك
وولي عهده وفقا لاعتبارات سياسية عدة يأتي في مقدمتها
التوازنات السياسية داخل الأسرة الحاكمة، ومدى قدرة أي
مرشح على توظيف هذه التوازنات لمصلحته. ولحظ الدخيل بأنه
لم يرد في النظام أي ذكر لمنصب النائب الثاني، مما يعني
استبعاد هذا المنصب في هذه المرحلة على الأقل. الأمر الآخر
واللافت أيضاً أن النظام الجديد استبعد أي دور لمجلس الوزراء
أو مجلس الشورى في عملية انتقال الحكم. هذا على الرغم
من أن هذين المجلسين يُمثلان السلطتين التنفيذية والتشريعية
في الدولة، وخاصة مجلس الوزراء، الذي يجمع بين هاتين السلطتين،
ويرأسه الملك. يعني هذا الاستبعاد أن النظام جعل مسألة
حسم انتقال الحكم محصورة داخل الأسرة الحاكمة، وبالتالي
شأناً دستورياً متميزاً أو منفصلاً عن المؤسسات الدستورية
الأخرى للدولة).
مضاوي الرشيد: آل سعود مشغولون بتوزيع الإرث
|
المحامي عبد الرحمن اللاحم، الاصلاحي السابق، يميل
الى إسباغ مسحة إيجابية على هيئة البيعة في مقالة نشرتها
صحيفة الرياض في 30 أكتوبر بعنوان (هيئة البيعة والتحديث
الدستوري في السعودية)، حيث اعتبرها (خطوة إصلاحية رائدة
تضاف للخطوات الإيجابية السابقة التي تأتي في سياق عملية
التحديث الدستوري في المملكة العربية السعودية حيث أكمل
هذا النظام خطوة البناء الدستوري الأولى التي تمثلت في
إصدار حزمة الأنظمة الدستورية المتمثلة في الأنظمة الأساسية
الثلاثة (النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الشورى ونظام
المناطق) والتي تمثل من الناحية الموضوعية - إضافة إلى
نظام مجلس الوزراء - الدستور المكتوب للدولة).
ويلفت اللاحم الى أهمية المادة الخامسة والعشرين من
النظام الجديد كونه ينص على أنه لايعدل ـ أي النظام ـ
الا بأمر ملكي بعد موافقة هيئة البيعة، وبالتالي فإنه
لا يمكن تعديله بالإرادة الملكية المنفردة مما يعطي قواعده
ونصوصه قوة وسمواً على كافة القواعد القانونية الأخرى
سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة.
ويمضي اللاحم للقول بأن من أهم إيجابيات إصدار هذا
النظام أنه سيساهم بشكل كبير في تعزيز الاستقرار السياسي
المؤسس على وثائق دستورية ومؤسسات تحكمها منظومة من القواعد
القانونية التي عالجت وبشكل دقيق كافة الجوانب المتعلقة
بتداول السلطة داخل الأسرة الحاكمة، مما يمهد الطريق لمواصلة
تنفيذ المشاريع التنموية والإصلاحية وسيعطي دفعة قوية
للحراك التحديثي داخل المجتمع خصوصاً وأنه جاء ليعالج
قضايا بالغة الحساسية لا تقارن بالكثير من القضايا (الإجتماعية)
التي عرقلتها قوى الممانعة الدينية بذرائع متعددة لكنها
تجتمع كلها تحت لافتة (الخوف من التجديد والرهبة من التحديث).
واعتبر اللاحم بأن إصدار النظام خطوة إصلاحية تضاف
إلى خطوات أخرى للملك عبد الله نحو ترسيخ فكرة المأسسة
وسيادة القانون والإنفتاح على المبادىء الحديثة. وخلص
للقول بأننا بإزاء وثبة دستورية باتجاه ترسيخ الشرعية
السعودية الجديدة التي ستكفل استقراراً للمستقبل السياسي
في السعودية من شأنه أن يدفع عجلة التنمية والإصلاح لمزيد
من التقدم في ظل الإرادة السياسية للملك عبدالله والتي
تحمل في جعبتها كما في قلوب المواطنين الكثير من الآمال
والتطلعات.
الدكتورة مضاوي الرشيد كتبت مقالاً في (القدس العربي)
في 30 أكتوبر بعنوان (النظام السعودي: أمرهم سرٌ بينهم).
وذكرت بأن (هيئة البيعة هذه بيروقراطية جديدة ابتدعها
مستشارو الملك الحالي كغطاء دستوري لما يعرف بمجلس الأسرة.
الهيئة مشروع مستقبلي لا يفعل حالياً إذ أن الملك وولي
عهده قد استثنيا من التطبيق فليس لهيئة البيعة صلاحية
ولا دور في المرحلة الآنية ويبدأ عملها بعد رحيل هؤلاء
حسب نص إصدار نظامها. تحتكر مجموعة أبناء عبد العزيز مقاعد
الهيئة وكذلك ابناؤهم الذين يمثلون أبا عاجزاً أو متوفياً
ويعتمد هذا التمثيل على من يختاره الملك. كذلك يختار الملك
وولي العهد أحد ابنائه. كل هذا الاختيار والتعيين يعتمد
على الصلاح والكفاءة حسب معايير تغيب عن الجميع ما عدا
الأب الذي يختار).
ولفتت الرشيد الى أن أهم ما في المرسوم الملكي الجديد
ما يتعلق بكيفية إختيار ولي العهد. اذ ان الملك يقترح
بعض الاسماء ومن ثم بعد التشاور يعرض الأمر على الهيئة
وبعد التشاور والتوافق يتم تسمية ولي عهد البلاد. وان
لم يتم التوصل الى نتيجة عندها يطلب الملك من الهيئة التصويت
على مرشح ولي العهد على أن يتم تعينه خلال مدة ثلاثين
يوماً.
وتعتقد الدكتورة الرشيد بأن نظام هيئة البيعة مصمم
للتعامل مع مرحلة حرجة ستدخلها السعودية سببها كبر السن
للجيل الأول من الامراء إذ أنها تنظر لهيئات طبية ومكلّفة
بإصدار تقارير صحية في مدة قصيرة عن حالة الملك وقدرته
على ممارسة الحكم وأن أقرّت اللجنة حالة مرضية دائمة يتم
مبايعة ولي العهد ملكا على البلاد. وإن مرض الملك وولي
العهد معاً (وهو أمر لا يمكن إستبعاده) تقوم هيئة تسمى
المجلس المؤقت للحكم بإدارة مصالح البلاد والعباد.
وتمضي الرشيد في القول بأن المواد المعدّلة من النظام
الاساسي السعودي تنطوي على عدة مرافق تصبُّ كلها في هدف
واحد، ألا وهو تجنّب الصراع المخفي حالياً والذي لا بد
له أن يظهر الى العلن يوماً ما. تناقضات نظام التوريث
السعودي بدأت تظهر واضحة. مشكلة العائلة السعودية اليوم
تنبثق، حسب الرشيد، من كون التوريث ينتقل من الاخ الى
الاخ وليس من الأب الى الإبن. وبتعددية الأخوان ومن ثم
أبنائهم نجد أن الصراع على السلطة حالة متزامنة مع نظام
التوريث كان أول مشهد لها صراع سعود وفيصل في الستينات
والذي أدى الى خلع الأول وأبنائه جميعاً من المناصب الحساسة
وقدوم فيصل وتصدّر أبنائه هو للمناصب المهمة.
اليوم تعيش الأسرة هذا الهاجس فكل أب قد ربى على الأقل
ثلاثة أو أربعة من ابنائه على مناصب يعتبرها هؤلاء حقاً
مقدساً. الهاجس الرئيسي ينطلق من خوف هذه الأسرة أن يعين
أحد أبناء عبد العزيز الحاليين إبنه في منصب ولي العهد
وبذلك تتم النقلة من سلطة الأخوان المجتمعة الحالية الى
أحد الملوك ومن ثم تحصر الولاية في نسله هو وحده مستثنياً
بذلك الأجنحة الأخرى وتتحول هذه الأجنحة الى أجنحة هامشية
في المستقبل تماماً كما حصل لأبناء الملك سعود بعد خلع
والدهم.
اللاحم: هيئة البيعة تطور دستوي
|
وبالطبع تشدد الأوامر الملكية الجديدة على مبدأ السرية
إذ أن اجتماعات هيئة البيعة بحضور أمينها المنسق والمعين
من قبل الملك الحالي تبقي خلف الكواليس وهذا هو بيت القصيد.
مرة أخرى أثبت النظام السعودي أن حكم البلاد والعباد هو
شأن داخلي سري لا يطلع عليه أحد سوى الأمين العام ومن
يتولي ضبط المداولات والاجتماعات من التكنوقراط المقربين
جداً في الجوقة الملكية.
هيئة البيعة بدعة جديدة إبتدعها النظام السعودي الذي
يدعي أنه يمثل الدولة السلفية تارة ودولة التوحيد تارة
أخرى. فبعد عقود من الترويج لما يسمى أهل الحل والعقد
والتظاهر باستشارتهم من مبدأ أمرهم شورى بينهم نجد هذا
النظام بدلاً من أن يتطور في مسيرة الشورى الحقيقية وليس
شورى مجالس الأمراء قد تراجع الى الوراء من خلال الإعلان
عن هيئة سرية تسمي هيئة البيعة.
الدولة السلفية السرية هذه ربما هي أول نمط سلفي نتعرف
عليه يحصر إدارة دفة الحكم بعائلة واحدة تصبح هي وحدها
أهل الحل والعقد فلا فقيه ممثلا يرسل إبنا له إن ضرب في
جسده مرض ولا وجهاء مجتمع ولا عالم دين بل أبناء المؤسس
وأبناؤهم فقط لا غير. تستثني هيئة البيعة هذه هيئة كبار
العلماء والمفتي. الدولة السلفية الجديدة تعتمد في مرجعيتها
على السلف الصالح الوحيد المعترف به ألا وهو جوقة أبناء
عبد العزيز وأبنائهم.
نتمني ان تأتي الدولة السلفية بنصوصها لتطلع عليها
إذ أن مصطلح السلفية يحدد المرجعية الاولى والاخيرة ويحصرها
في النص وفي أمثلة جيل قديم. ولكن يبدو أن السلف الصالح
السعودي الممثل على مقاعد هيئة البيعة هو المرجعية الحقيقية
فلا قرآن مقدس ولا سيرة نبوية ولا حتى سيرة صحابة قدامى
بل شركة محدودة مرجعيتها مجلس إدارة مغلق يحافظ على لحمته
شخص تكنوقراطي قريب ولكنه بعيد نتمنى له أسعد الأوقات
في إدارة دفة البدعة الجديدة السرية حيث ستتمخض الجلسات
المستقبلية عن مفاجآت كبيرة.
لا نقيّم النظام السعودي على أساس معايير غريبة نستوردها
من تجارب شعوب أخرى وإنما نقيّمه حسب خطابه السياسي المعلن
والمؤصل في أنظمته الأساسية، النظام هذا يدعي أنه دولة
إسلامية ولكن لم يبق من الإدعاء هذا سوى المسمي فقط لا
غير. تعديلات النظام الأساسي الأخيرة تبيّن بشكل واضح
بعد هذا النظام عن أي نمط يمكن وصفه بأنه إسلامي ناهيك
عن كونه سلفياً كما يدعي بعض الأمراء. أثبت النظام السعودي
مرة أخرى أنه نظام وراثي عائلي سري يبتدع إجراءات ومراسيم
شمولية وخفية تحت مظلة الشعار الديني وهو أبعد ما يكون
عن النصوص التي يزعم تقيّده بها. وإن كان مؤسس المملكة
قد أعطى لطلبة العلم بعض الأبهة الشكلية المزيفة إلا أن
أبناءه وأحفاده اليوم يتجاهلون هؤلاء كلياً خاصة بعد أن
سلطوا عليهم من يطعن بهم وبعلمهم الشرعي والذين هم أولاً
وأخيراً شركاء في صناعة الشركة السعودية المحدودة ومكلَّفين
بحفظها وصيانتها خاصة في المجتمع وعند أطيافه الضعيفة.
ويبقي المجتمع مغيباً كلياً فلا مجلس منتخب ولا هيئات
مستقلة ولا فعاليات إجتماعية ولا مجالس إستشارية تتدخل
في حكم البلاد أو إختيار ذوي الصلاحية والكفاءة وتبقي
معايير هذه الكفاءة سراً محصنا فوق قدرة المجتمع على الفهم
والاستيعاب.
الطريق المسدود والذي تحاول هيئة البيعة فتحه يفسر
حالة الشلل التّامة التي رافقت شعارات الإصلاح التي طبّل
لها الكثير والتي أُعتبرت وقفة مميزة ستنتشل البلاد من
الركود الذي رافق السنوات الأخيرة للعصر البائد ولكن يبدو
أن الركود وصمة سعودية مستمرة. النظام السعودي مشغول ليس
بالإصلاح السياسي الحقيقي الذي يضمن نقلة نوعية من الإستبداد
والشمولية الى الإنفتاح والمشاركة السياسية بل هو مشغول
بكيفية توزيع الإرث والمحاصصة في شركة مغلقة وليس ملكية
دستورية كما حلم البعض. نظام هيئة البيعة الجديد ليس إلا
سلفية تستند على نصوص ربما منها أمرهم سرّ بينهم ومرجعيتها
نظام الشركات الأسرية الخاصة والمحدودة.
|