لم تستفد بعد من الدرس الماضي
السعودية تكرر خطأها في لبنان
نفس الوجوه التي وقفت في الحرب الإسرائيلية على لبنان
وحاولت ان تجعلها حرباً طائفية، تكرر نفسها اليوم في معركة
داخلية وبذات الحجة ولذات الهدف.
بندر: لقاءات قادمة مع أولمرت
|
(حلف المعتدلين) الذي نسّق مواقفه مع اسرائيل وفرنسا
وأميركا، في لقاءات معروفة بين بندر وأولمرت في عمّان..
هو ذاته يعيد تكرار نفسه مستخدماً لغة موحّدة وتحليلات
موحدة ولتحقيق هدف موحد.
السعودية ومصر والأردن بالتعاضد مع واشنطن وباريس،
ومن ورائهم اسرائيل، كلهم في كفة.. والقوى اللبنانية المعارضة
في كفة أخرى، مجللين بتهمة التحالف مع سوريا وايران.
في الحرب الإسرائيلية السادسة، لعب حلف المعتدلين العرب
دوره: فأرادوها حرباً طائفية ضد النفوذ الإيراني، واتهموا
حزب الله بالمغامر، ودفعوا ـ خاصة السعوديين ـ الإسرائيليين
الى عدم ايقاف الحرب قبل تدمير حزب الله، الأمر الذي أشعل
توتراً في علاقة الأخير مع الرياض. كانت الحرب بالنسبة
لحلف اسرائيل واشنطن والمعتدلين العرب وسيلة لتقوية الحكومة
اللبنانية وبسط سيادتها، على ما أسمته (ميليشيات) غير
منضبطة.
وانتهت الحرب بالشكل الذي عرفناه، وحاول المعتدلون
العرب التشكيك في ذلك النصر، مصرين على أن ما حصل هو هزيمة
لحزب الله، ولقواعده، ولمن يدعمه في الداخل والخارج، كل
ذلك لغاية تفريغ النصر من معانيه وسحب مفاعيل انعكاساته
الخطيرة على الوضع اللبناني والعربي عامة.
واليوم، تغيرت المعادلة، فالصراع داخلي ـ داخلي، أي
لبناني ـ لبناني، وهنا خرج المعتدلون العرب ليسوقوا ذات
المقولات السابقة: الحلف الايراني السوري، والإتكاء على
الخطاب الطائفي الأسهل في الإستخدام ليحتمي به الحكام
العرب ـ وحتى اسرائيل ـ أنفسهم، فضلاً عن بعض أطياف فريق
السلطة اللبنانية.
ملك الأردن الذي أكد موضوع الهلال الشيعي عاد وأكد
هذه المرة أن لبنان مرشح لحرب أهلية، لأن التحرك الشعبي
المليوني يشعل حرباً أهلية بنظره. حسني مبارك زادها جرعة،
وحذر بأن دولاً عربية ستتدخل ضد تدخل ايراني (ويقصد السعودية
على الأرجح!) واعتبر ما يجري خلاف الديمقراطية!، اما الملك
السعودي فاتصل بالسنيورة شخصياً، وبالوزراء الذين معه
واحداً واحداً، مؤكداً بأن المظاهرات والإعتصامات هي مجرد
(اخلال بالأمن).
ما يفهم من هذا التحرك هو أن الدول العربية المعتدلة،
خاصة السعودية، قد تخلّت مرة ثانية عن حيادها، وانحازت
لفريق ضد الآخر، الأمر الذي يفقدها القدرة على لعب دور
الوسيط بين المتخاصمين الداخليين. لقد كانت مبررات وقوفهم
في الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله، انه اختطف قرار الدولة
في الحرب، وأن الحزب اياه لم يستشرهم فيما يفعل، في حين
طلب حزب الله أن يقفوا على الحياد فهو لا يطلب من تلك
الدول عونها، ولكنه لا يقبل أن تنحاز مع اسرائيل المعتدية
ضد لبنان. اليوم ما هي الحجة التي تجعل السعودية تترك
الحياد مرة أخرى وهي لما تصلح علاقتها بحزب الله بعد،
تلك العلاقة المتوترة التي نجح السفير السعودي عبد العزيز
خوجة في تطويقها في لقاء مطول مع نصر الله؟ لماذا عادت
السعودية الى نفس السياسة، بالرغم من أن الموضوع داخلي بحت، على تفسير الدستور، وعلى حصص المتنازعين؟ ثم ألا
تخشى السعودية ومن ورائها مصر والأردن أن تخسر المعركة
مثلما خسرتها من قبل أثناء الحرب الإسرائيلية؟ اي ماذا
ستفعل السعودية اذا سقطت حكومة السنيورة؟ وهو سقوط أقرب
الى الحدوث من خسارة الفريق المعارض؟ وما هو مصير النفوذ
السعودي في لبنان بسبب هذه السياسة؟
ما يحدث في لبنان اليوم من صراع داخلي هو نتيجة طبيعية
للبركان الذي أحدثته حرب اسرائيل في الصيف الماضي. هناك
خاسرون وهناك منتصرون يرون أنهم طعنوا في الظهر في تلك
المعركة، وهي برأيهم معركة تبرر الوسائل القانونية التي
اتخذها فريق المعارضة لإسقاط حكومة السنيورة.
خوجة: سفير جيد لحكومة سيئة
|
الحكومة اللبنانية لم تحصل على المشورة الصحيحة من
السعودية ولا من حلفائها الغربيين. كان يمكن تعويض خسارة
الحكومة اللبنانية وانتصار حزب الله عبر المساهمة الفاعلة
في ورشة الإعمار. لكن فريق الحكم رأى أن يثبت للجمهور
بأن حزب الله سيفشل في (الإعمار) اي اعمار ما هدمته الحرب،
وعلى الدولة أن لا تساهم في أي عمل يساعد على تعمير ما
تدمر، وهو في معظمه قد وقع في مناطق توالي حزب الله سياسياً.
بل أن الحكومة رأت أن تعوق الدعم الخارجي المباشر لإصلاح
الجسور وغيرها بغية تمديد الضغط الشعبي على حزب الله،
واحتجت بأنها قد تعاقدت على بنائها، في حين أنها لم تبدأ
إلا بشكل طفيف عملية إصلاحها. وفي نفس الإتجاه ألحت الحكومة
اللبنانية على الدول المساهمة في الإعمار أن تعطي الدعم
الى الحكومة لكي تقوم هي بنفسها بالتعويض والإعمار، لكن
بعض الدول تنبهت الى ان الغرض هو الاستيلاء على الدعم
وإيقافه عن الأماكن المتضررة، فأصرت على أن توزع مساعداتها
مباشرة كما فعلت قطر وبعض دول الخليج.
السعودية كان يجب أن تتخذ سياسة مختلفة وأخلاقية في
ما بعد حرب تموز الاسرائيلية. ولكنها انساقت الى رأي فريق
الحكومة ورأي الإدارة الأميركية في توسعة معاناة المواطنين
الذين يشكلون الخلفية الاجتماعية لحزب الله (وهذا يشمل
الطائفة الشيعية) الأمر الذي أعطى المواجهة صبغتها الطائفية،
أو بالأصح أدام تلك الصبغة وأكدها. لقد كان هدف التدمير
الإسرائيلي الأعمى واضحاً وهو تأجيج الشارع ضد حزب الله،
وقد اكتشفوا عكس ذلك، وفريق الحكومة اللبنانية أراد الإستمرار
في العقاب، فأخرج الشارع الشيعي بقضه وقضيضه الى الشارع
بزخم لم يشهده لبنان في تاريخه، خاصة وأن أحداً من أطياف
الحكومة ـ وهذا من المستغرب ـ لم يتكفل عناء زيارة الجنوب
والقرى المدمرة أو يطلّ مجرد اطلالة على الحدود. بل كان
السنيورة يرفض حتى النزول الى ضاحية بيروت الجنوبية لولا
نبيه بري الذي أخذه في جولة كان مكرهاً عليها.
هنا تضيع معاني الاستقلال والسيادة خاصة بالنسبة لأناس
لم يروا ابسط مظاهر الحكومة منذ نحو 35 عاماً. وما نراه
اليوم هو في أحد تجلياته انعكاس لآثار الحرب. إذ يبدو
ان حزب الله كان مستعداً لغض النظر عن إهمال الحكومة للجنوب
والبقاع منذ عقود، وكان مستعداً لاعطاء أصواته لفريق السلطة
في الإنتخابات وهو ما فعله في الإنتخابات النيابية الأخيرة
الأمر الذي جعل ذلك الفريق يشكل أكثرية، كل ذلك لغرض واحد
هو البقاء في الجنوب مدافعاً عن قراه ومواطنيه، طالما
ان الدولة غير قادرة (كانت هكذا وستبقى لمدة غير قصيرة
في المستقبل). لكن الحرب، وما سماه قادة الحزب بالطعنة
في الظهر، قصم ظهر البعير، ووجد الحزب انه لا فائدة من
التنازل مادامت المقاومة ضد اسرائيل محرّمة، فرأى أن يعيد
تصحيح وربما (إعادة إنتاج الدولة اللبنانية). وقد سبق
ذلك انقلاب فريق السلطة على ما سمي البيان الوزاري، وحديث
جنبلاط عن (سلاح الغدر) وتسقيط للرموز الدينية والسياسية
عبر خطاب لم يرع كل المحرمات. هنا وجد حزب الله من المتحالفين
معه ما يجعلهم (أكثرية) عددية في الشارع كما هو واضح ومؤكد
اليوم، وجيّشهم باتجاه اسقاط الحكومة والإتيان بأخرى،
ضمن ما يتيحه القانون والدستور.
هذا هو السياق الطبيعي لفهم الأوضاع السياسية الحالية
في لبنان.
لكن السعودية لا ترى الأشياء إلا بعين طائفية، وهذا
ما يؤكده فريق المعتدلين (الأردن ومصر).. بل ان اسرائيل
تتحدث هي الأخرى عن مواجهة (الخطر الشيعي) وتحويل المعركة
في الشرق الأوسط باتجاه ايران بدل ان تكون ضدها. ولأن
الأنظمة المعتدلة هذه، والفاشلة في التنمية وفي توفير
الحرية والكرامة، لا أُفق لديها، فإن الورقة الطائفية
هي ما تستخدمه وتختفي وراءه، وهي الورقة التي قال نصر
الله ذات مرة أنها توجعه، وان الفريق الآخر يعلم انها
توجعه!
السعودية وهي الأقوى بين الدول المعتدلة تأثيراً في
الوضع اللبناني تغامر برصيدها بدل ان تحافظ على ذلك الرصيد،
وهي تعتقد بأنها ـ كما اسرائيل وكما أميركا وفرنسا وكما
فريق السلطة ـ مضطرة لخوض معركة (حياة أو موت) وبالتالي
لا خيار لها إلا الوقوف مع فريق الحكم، واستخدام كافة
الأسلحة السياسية والطائفية في المعركة. وبالرغم من أن
السفير السعودي عبدالعزيز خوجة يعتبر سفيراً نموذجياً
للقيام بالوساطة بين المتخاصمين اللبنانيين، وأنه قادر
على حفظ القدر الأوفر من النفوذ السعودي لدى كل الأطياف،
إلا ان موقف الحكومة السعودية المتناغم مع الموقف الأميركي
لم يوفر له المساحة الكافية للنجاح.
هناك أمرٌ آخر بالغ الأهمية، وهو أن ارتدادات نتائج
الحرب الإسرائيلية على لبنان، وانتصار حزب الله فيها،
كان من المتوقع ان تسمع أولاً في محيطها الطبيعي (اي في
لبنان أولاً) ومن المتوقع ان تظهر ارتداداتها في العواصم
العربية أيضاً خاصة عمّان والرياض والقاهرة. ولذا فإن
محاصرة الإرتداد في مهده (بيروت) مهم لأنه يمثل الخندق
الأول في المواجهة. فإذا أضفنا الى ذلك أن طريقة اسقاط
حكومة السنيورة تتخذ بعداً جماهيرياً وعبر قوة الشارع،
فإن هذه الطريقة ذاتها هي أكثر ما يخيف أنظمة الإعتدال
التي تعتقد بأن نجاح الشارع في اسقاط حكومة عربية يمثل
ظاهرة جديدة، لا تقارن مع سقوط حكومات سابقة في بيروت
نفسها، وبالتالي فإنها تقدم درساً آخر للشعوب العربية
في كيفية مواجهة أنظمة الإستبداد، مثلما قدمت درساً مدهشاً
في مواجهة العدوان الإسرائيلي في الصيف الماضي.
إذن هناك دوافع كثيرة لأن يعيد حلف الإعتدال انتاج
خطابه، فهو في واقع الأمر يدافع عن نفسه ونفوذه ويتكئ
على خطاب طائفي يحاول ان يحمي نفسه من الإنهيار والتلاشي.
اسرائيل، ولأول مرة في تاريخها تقبل على مضض امضاء صفقة
ايقاف الصواريخ مقابل ايقاف التوغل في غزة. والسعودية
تشعر أن حصونها السياسية في الشرق الأوسط تسقط تباعاً
مثلها في ذلك مثل حصون واشنطن. ومصر التي دشنت خطاباً
طائفياً غير مألوفاً في تاريخ مصر على مدى قرون، تحاول
بشتى الصور دفع الحرج عن مكانتها ومكانة نظامها في الداخل،
نظام متداعي فاسد ديكتاتوري.
لا يوجد طريقة لتبرير الفشل عند كل الأطياف الغربية
والإسرائيلية والعربية وحتى الحكومية اللبنانية إلا العزف
على الوتر الطائفي والتدخل الإيراني السوري. هم لا يرون
الشارع، ولا يراجعون سياساتهم السابقة وأخطائهم التي يكررونها.
ولهذا فإن هزيمتهم ستكون ماحقة، مهما بلغ تشبّثهم بالحكومة،
ومهما استدعى الأمر ممارسة وسائل التفافية. يبقى الأمر
بيد اللبنانيين في الشارع ومن مختلف الطوائف. ولن تستطيع
القاهرة او الرياض او عمّان او باريس او تل ابيب أو واشنطن،
انقاذ حكومة لا تستطيع انقاذ نفسها داخلياً وشعبياً.
هذه هي الحقيقة. وعلى الحكام السعوديين التعوّد عليها.
|