الـدولـة الـفريدة
كل دولة في العالم هي فريدة في ذاتها، تبعاً لخصائص
كل دولة وميراثها الثقافي والتاريخي والانساني، ولكن الفرادة
بهذا المعنى لا يهبها تفوّقاً على ما سواها من الدول،
وإنما يجعلها حالة خاصة بما يمنع استنساخها كمنظومة متكاملة
تشمل الارض والشعب والتاريخ والعادات والتقاليد. ليس هذا
بالتأكيد ما نقصده بالفرادة، على الأقل في قراءتنا لنموذج
الدولة في ديارنا.
فرادة الدولة في ديارنا لا تكمن في خصوصياتها الثقافية
والاجتماعية والتاريخية والطبيعية، فتلك هبات الطبيعة
التي تغمر الأرض ومن عليها بأمر خالقها، وإنما الفرادة
هنا منصّبة على الأداء، ليس على قاعدة التميّز الإيجابي،
وإنما على قاعدة المخالفة، والتناقض، حتى بات هذا الأداء
حاكماً على مواقف حلفائها. نتذكر بعد الحادي عشر من سبتمبر،
أن الادارة الاميركية الحالية وصفت الدولة السعودية بأنها
(بؤرة الشر)، ولابد من تفتيتها من أجل درء أخطارها وفرض
طوق محكم على مصدر الارهاب. ولكن فجأة تبدّلت الصورة بعد
حرب يوليو 2006 على لبنان، فأصبحت الدولة السعودية، بحسب
تصنيف إدارة المحافظين الجدد، قطباً في معسكر (المعتدلين).
وكان ثمن الاعتدال أن تخلت إدارة بوش عن مشروع الدمقرطة
الذي لوّحت به مراراً تصحيحاً لخطأ تاريخي اقترفته الحكومات
الاميركية السابقة بدعمها ملكيّات مستبدة في الشرق الأوسط.
في تقرير صحيفة (واشنطن بوست) المنشور في ملحقها الاسبوعي
الشهر الماضي حول أسوأ الطغاة في العالم ما يبعث على التأمل.
فقد حصل الملك عبد الله على المركز الخامس من بين أسوأ
الزعماء الطغاة في العالم، وهو رقم جديد للملك عبد الله
بعد أن كان يحتّل المركز السابع العام الماضي. نشير هنا
الى أن التصنيف يعتمد على تقارير ذات مصداقية عالية من
قبل منظمات حقوقية دولية، ما يكسب تقرير الصحيفة أهمية
خاصة، كونه يعتمد على مصادر محايدة الى حد كبير. الغريب
في الأمر، أن أحد مصادر الصحيفة هو تقرير وزارة الخارجية
الأميركية حول حقوق الانسان في السعودية، وهي ذات الوزارة
التي أسبغت المسؤولة عنها، أي كونداليزا رايس، صفة الاعتدال
على السعودية. أليس ذلك جزءً من فرادة هذه الدولة؟!
هذه الدولة، السعودية، تزوّد الساحة العراقية بالقنابل
البشرية وبالأموال لجماعات العنف بصورة مباشرة من خلال
مواسم الحج والعمرة والزيارات السريّة، أو غير مباشرة
من خلال تمرير (الحقائب اليدوية) الى قيادات معروفة بضلوعها
في حمام الدم العراقي، وفي المقابل تحذّر من (الفتنة)
وتستضيف الأطراف المتنازعة في مكة للإتفاق على مبادىء
مشتركة من خلال (وثيقة مكة)، وما تلبث بعد ذلك أن تشيع
جواً متشنجاً من خلال تصريحات مسؤوليها تنطوي على تهديد
بالتدخل في العراق. وهنا نقطة أخرى أيضاً، فالموقف المعلن
للحكومة السعودية من الاحتلال الأميركي للعراق يتمثل في
وجوب انسحاب القوات الاميركية والبريطانية، ولكن في المقابل
تهدد بالتدخل في حال انسحاب القوات الاميركية!.
قيل بأنه تحوّل في السياسة السعودية، خصوصاً مع غياب
ملك حازم يملك قدرة الحسم والفصل، ما سمح بظهور ما يعرف
في السياسة الأميركية بـ: الصقور والحمائم. نضع هذا التحول
ضمن وصفة مخففة، فيما لا نرى توصيفاً آخر يؤكد فرادة الدولة
هذه. من هم الصقور ومن هم الحمائم بين أمراء العائلة المالكة،
يبقى سؤالاً فريداً هو الآخر، فما نعتقده أحياناً صقراً
يظهر في مشهد آخر حمامة، والعكس صحيح أيضاً. للمثال فقط،
فقد بات معروفاً أن الأمير بندر بن سلطان، مستشار الأمن
القومي السعودي، ضالع حتى النخاع في حروب المحافظين الجدد
بقيادة ديك تشيني، نائب الرئيس الاميركي الذي يعتبر الرئيس
الحقيقي للبيت الأبيض. على المقلب الآخر، نجد أن الملك
عبد الله يختاره لمهمة توفيقية مع إيران حول قضايا المنطقة
الملتهبة: العراق، لبنان، وفلسطين، إضافة الى الملف النووي
الايراني الذي يراهن الأمير بندر على أن يفوز بجائزة كبرى
من خلال وساطة بين طهران وواشنطن تفضي الى إغلاق المفاعلات
النووية الايرانية، أو مواجهة المصير، عبر حرب جديدة شارك
الامير بندر نفسه في تصميم سيناريواتها مع فريق تشيني.
على المستوى الأقليمي، تبدو فرادة الدولة السعودية
في تقطيعها للروابط العربية، والدخول في حلف جديد تكون
الدولة العبرية عضواً فاعلاً فيه، بعد أن كان مؤمّلاً
من الملك عبد الله، الذي ملأ الدنيا ضجيجاً عروبياً قبل
اعتلائه العرش في إعادة تنسيج روابط الدولة عربياً وإسلامياً،
ولكن لم يبقِ له سوى حفنة ضئيلة من الدول يعتمد عليها
في التنسيق والتخطيط بمعيّة واشنطن وتل أبيب.
تتوسل بالمقدّس في تعويض قصورها الدبلوماسي وأيضاً
الأخلاقي، فتجعل من مكة المكرمة مغتسلاً لأدرانها السياسية،
ولربما توحي إعادة توظيف المقدّس في السياسة بأن الدولة
السعودية لم تعد تملك من إمكانياتها الذاتية ما يجعلها
قادرة على ترميم دورها الإقليمي، فقد ينجح المال في تسوية
مشاكل ذات طبيعة مادية، ولكن هذا لا يكفي حين يتطلب الحل
بعداً معنوياً ووجدانياً، فالعلاقة هنا تحوم حول جدلية
المؤقت والدائم، والثابت والمتحوّل. وقد لحظت الحكومة
السعودية في حرب الخليج الثانية عقم المفعول السياسي للمال،
حيث انقلب نظام صدام حسين على الدول التي فتحت خزائنها
له في حربه مع ايران، وحيث وقفت دول ومنظمات إسلامية الى
جانب صدام في غزوه للكويت في الثاني من أغسطس 1990، ووجدت
الدولة السعودية نفسها محاصرة فاستعانت بالحليف الاستراتيجي
الأميركي الذي وفّر لها القوة غير الشرعية، بالمعنى الديني
وليس الدولي، وفشلت حينذاك في توظيف المقدّس لمعارضته
مع سلوكها العلني.
وفيما يبدو، فإننا الدولة السعودية تكتسب الآن شكلاً
جديداً من الفرادة، قد يكون التناقض في المواقف والسلوك
دّالة عليه، فهي دولة معتدلة مستبدة، وعروبية إسرائيلية
أميركية، ودينية مجدّفة، ووحدوية مفرّقة، وسلميّة إرهابية،
وواحدية متعددة.. وهنيئاً بالفرادة السعودية!
|