السمن يغلب العسل
ألقمت الرياض واشنطن نفطاً فساد الصمت طويلاً
سعد الشريف
كما هي العادة في كل هنّة تعترض العلاقة بين الرياض
وواشنطن، تبرز المفردات الكبرى في هذه العلاقة: النفط،
الديمقراطية وتالياً التحالف الاستراتيجي برمته. واشنطن
التي تحمل وصمة دعم أنظمة ديكتاتورية في الشرق الأوسط،
تتقدمّها السعودية، لم تفلح في تخفيف من وطأة هذا التوصيم
عبر إسباغ صفة (الإعتدال) على دول حليفة لها، فلم تشهد
الاخيرة تحوّلاً بنيوياً باتجاه الديمقراطية ما يحول دون
نزع وصمة الديكتاتورية عنها.
بعد أزمة الخليج الثانية، أطلق الرئيس جورج بوش الأب
تصريحاً واعداً بأنه سيستأنف ما وعد به جون كينيدي بتطبيق
مشروع دمقرطة الشرق الاوسط، وكان يومىء حينذاك الى السعودية
بدرجة أساسية باعتبارها الصخرة الديكتاتورية الأعتى في
المنطقة والتي بزوالها سيفتح الطريق أمام تحوّلات ديمقراطية
كبرى في المنطقة.. جورج الأب تخلى عن وعده، بعد تحرير
الكويت وعودة العافية الى الأسواق النفطية وانتعاش خيار
الصفقات العسكرية بين الرياض وواشنطن (وقّعت حينذاك صفقة
بقيمة 9 مليارات دولار نصفها تقريباً رشاوى)، وبدأت الحكومة
السعودية باستعمال لغة العصا الأمنية ضد الإصلاحيين حينذاك،
بعد أن وضعت الحكومة السعودية حملاً مشوّهاً بإعلان الأنظمة
الثلاثة (النظام الاساسي للحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام
مجالس المناطق) في مارس 1992.
ألقمت الرياض واشنطن نفطاً فساد الصمت طويلاً.. وبعد
هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، عادت النغمة القديمة
لتعزف من قبل أوركسترا جورج بوش الابن، التي بالغت في
تقديم شهادة ندم وبراءة من اقترافات السلف من رؤوساء الولايات
المتحدة الذين أرخوا العنان للديكتاتورية كي تتمدد في
هذه المنطقة بدعم من واشنطن، وغلّظ فريق بوش الإبن في
القول بانتظار تحويله الى فعل، وبدأت الاوركسترا الديمقراطية
الاميركية في إدارة بوش (حفلة استنابة) تمهيداً لإصلاح
ما فرّط فيه من كان قبلهم في فرض الديمقراطية على حلفائهم،
طمعاً في النفط والنفوذ.
ومن أجل أن تعكس إدارة بوش جديّة في وعودها بخلاف أسلافها
الذين كانوا يقولون ما لا يفعلون، فوضعوا مبادرة الشرق
الأوسط الكبير، كعنوان لمشروع دمقرطة واسعة النطاق تشمل
أولاً وابتداءً: مصر والاردن والسعودية، التي دخلت لاحقاً
في حظيرة الاعتدال. وبدأت ورش عمل، ولجان تأهيلية، وفرق
تدريبية تعمل بحماسة عالية في دول المنطقة، وخيّل لشعوب
المنطقة أن واشنطن ستأتي بوجه آخر للمنطقة بعد أن ألقت
بذيولها الاستعمارية ردحاً من الزمن.
لوّحت واشنطن بالديمقراطية، فلمع بريق الذهب الأسود،
فأطاح النفط بالديمقراطية الذي ملأ ركاب إدارة بوش مالاً
وفيراً، فسحبت إدارة بوش مشروع الدمقرطة من التداول. وبعد
ان كانت الديمقراطية تجري على لسان مسؤولي البيت الأبيض
مجرى الدم في العروق، غابت فجأة مفردة (الديمقراطية) من
اللهجة الاميركية كغياب مفردة (الاصلاح) من اللهجة السعودية.
ندرك سر غيابهما، ولم يكن ذلك مستغرباً على من أدمن عادة
التراجع، ومن شابه أباه فما ظلم، فقد اختطف جورج بوش الديمقراطية
كما اختطف آل سعود الاسلام، حيث يتبادلان استغلال القيم
الكبرى لأغراض سياسية دنيئة.
وقد لحظ المراقبون صمت إدارة الرئيس عن موضوعة الدمقرطة
منذ تدفق المياه بغزارة في نهر التحالف الاستراتيجي بين
واشنطن والرياض، إيذاناً بتخلي واشنطن عن مطالبها بالديمقراطية
في الشرق الأوسط. فقد كان وضع الديكتاتوريات في الشرق
الأوسط في خانة (الاعتدال) في يوليو 2006 منحها شهادة
براءة وإعفاء من (العقاب الديمقراطي). فقد خفّفت إدارة
بوش وبشكل ملحوظ من حدة مطالبتها بإحترام الديمقراطية
في مصر حليفتها الأساسية لإحياء عملية السلام الفلسطينية
الإسرائيلية التي وضعتها إدارة الرئيس جورج بوش بين أولوياتها
قبل مغادرة البيت الأبيض. وفيما كانت الولايات المتحدة
تنتقد حتى الآن بشدة عدم إحترام نظام الرئيس حسني مبارك
لحقوق الإنسان، فإن الإعلان عن تنظيم استفتاء على عجل
حول التعديلات الدستورية التي نددت بها المعارضة باعتبارها
مخالفة للديمقراطية في نظرها، أثار بشكل مثير للإستغراب
ردة فعل معتدل من قبل المتحدث باسم الخارجية الأميركية
شون ماكورماك.
ففي معرض رده على سؤال حول الاستفتاء أثناء مؤتمر صحافي،
قال ماكورماك إنه يجب وضع هذا الأمر في إطار الإصلاحات
السياسية والاقتصادية في مصر. وأضاف: (في ما يتعلق بهذا
الإستفتاء وهذه التعديلات الدستورية لا أريد اليوم إعطاء
توضيحات مفصلة جدًا لوجهة نظرنا). في وقت تتوجه فيه وزيرة
الخارجية كوندوليزا رايس إلى مصر في إطار جولة جديدة في
الشرق الأوسط، وهي التي إعتادت أن تطلق تحذيرات شديدة
اللهجة الى الحكومات الديكتاتورية في الشرق الاوسط وخصوصاً
مصر والسعودية من أجل إدخال إصلاحات جوهرية سياسية واقتصادية
وكان ذلك يثير حساسية لدى السعوديين الذي كانوا يردّون
على رايس حين وصولها الى الرياض.
لقد رفض ماكورماك التعليق على التعديلات الدستورية
وقال (لن أدلي بتعليق معين حول المدة الممنوحة للناخبين).
مضيفًا أن في العالم المعاصر اليوم من المؤكد أنه أمر
ممكن نظريًا الحصول على كم كبير من المعلومات وتحليلها
في مدة قصيرة.
فضلاً عن ذلك، فإن بعض التعديلات كما قال، تثير التساؤل
لمعرفة ما إذا كانت الحكومة المصرية تحترم المعايير (الديمقراطية)
التي حددتها لنفسها. وتتناول التعديلات الأكثر إثارة للجدل
مواد حول مكافحة الإرهاب تعطي صلاحيات أوسع للشرطة وحول
الإشراف على الإنتخابات تقلص من دور القضاة.
وأضاف ماكورماك: (بصراحة لا أريد أن أضع الولايات المتحدة
وسط ما ينبغي إعتباره حدثًا سياسيًا داخليًا في مصر).
وهذه التصريحات تثير الإستغراب بعد أقل من سنتين على الخطاب
الذي ألقته رايس في حزيران (يونيو) 2005 في الجامعة الأميركية
في القاهرة، وقالت فيه للقادة العرب إن تخوفهم من الخيارات
الحرة لا يمكن بعد الآن أن يبرر رفضهم للحرية.
وكانت وزيرة الخارجية الأميركية ترى في نشر الديمقراطية
في الشرق الأوسط أفضل حصن ضد الإرهاب، وقد دعت أيضًا آنذاك
إلى إجراء إنتخابات رئاسية حرة في مصر والتقت المعارض
ايمن نور الذي ترشح ضد الرئيس حسني مبارك. وبعد سجن ايمن
نور في كانون الأول (ديسمبر) 2005، هددت واشنطن بتعليق
مساعدتها المالية والعسكرية لمصر (1.8 مليار دولار سنويًا)
ثم علّقت في شباط (فبراير) 2006 المحادثات مع القاهرة
حول إتفاق لحرية التبادل. موقف مماثل التزمته إدارة بوش
ووزيرة الخارجية بدرجة محددة فيما يرتبط باعتقال الاصلاحيين
والتغييرات الشكلية المضلّلة في المملكة السعودية والتي
لا ترقى الى أدنى المعايير الديمقراطية.
لكن منذ هزيمة الجمهوريين الإنتخابية في تشرين الثاني
(نوفمبر) الماضي، حددت إدارة جورج بوش، المتورطة في وحل
العراق، أولوية إعادة إطلاق عملية السلام على المسار الإسرائيلي
الفلسطيني، بعد أن تجاهلتها طويلاً. وتسعى إدارة بوش،
التي أرادت تعميم النموذج الديمقراطي العراقي الى دول
الجوار، الى صنع حلفاء جدد من المعتدلين الذين وصفتهم
الدكتورة مي يماني بأنهم قتلة ومجرمون، في سياق نقد التصنيف
الأميركي لهذه الدول التي تساهم في ترسيخ أسس الاستبداد
في هذه المنطقة، وتقطع السبيل على أية إصلاحات مستقبلية
من خلال منح فرصة لهذه الدول كيما تكتسب المزيد من القوة
والهيمنة في الداخل والخارج. وهذا ما بدا واضحاً من موقف
الحكومة السعودية من إدارة بوش التي تترنح بعد هزيمة الجمهوريين
في الانتخابات البرلمانية النصفية في نوفمبر الماضي، حيث
بدأت السعودية العمل على إبطاء حركة سيرها مع خيارات فريق
بوش اليميني والذي يتسّم بالراديكالية والتشنج.
تفضّل الحكومة السعودية الآن تمييز نفسها عن الادارة
الاميركية، وفق منطق ميكافيلي حيث لا صداقات ثابتة، خصوصاً
وأن المؤشرات تفيد بانتصار الحزب الديمقراطي في الانتخابات
الرئاسية القادمة.. ومن الواضح أن سياسة هذا الحزب تميل
الى امتصاص التوتر في المناطق والعلاقات التي كانت الولايات
المتحدة الطرف الخاسر فيها، بما ينذر بتقويض نفوذها في
العالم.
مما سبق يمكن وضع ما نقلته صحيفة واشنطن بوست في التاسع
والعشرين من مارس الماضي حول إلغاء الملك عبد الله العشاء
مع بوش في سياق النزوع السعودي الى التمايز مع إدارة بوش،
حيث ذكرت الصحيفة (أن الملك السعودي ألغى دعوة إلى العشاء
مع الرئيس الاميركي جورج بوش في البيت الابيض. والعشاء
،الملغى، الذي كان مقررا في 17 أبريل فتح الباب على مصراعيه
امام تحليلات الصحافيين). وقالت (واشنطن بوست) تحت عنوان
(مشكلة بوش الملكية) أن أسباب (الإلغاء المفاجئ للموعد
من قبل السعودية التي هي أيضاً صديقة لعائــلة بوش دفعت
البيت الابيض للتأمل في ما يعنيه هذا الإلغاء وأفضل النتائج
تبقى (لا شيء جيد).
واعتبرت الصحيفة أن انسحاب الملك عبد الله من العشاء
(هو، في الواقع، مؤشر إنذار آخر على أن انحدار إدارة بوش
في الداخل، يضعف من قدرتها على تحقيق أهداف سياستها في
الخارج)، حيث أن (الأصدقاء، مثلهم مثل الأعداء، يجدون
ضرورة للإحتفاظ بمسافة بينهم وبين بوش المحاصر سياسياً).
وذكرت الصحيفة أن مستشار الأمن القومي السعودي الأمير
بندر بن سلطان (طار إلى واشنطن كي يشرح لبوش أن (عشاء)
17 نيسان يطرح مشكلة في التوقيت). ونقلت عن مصادر في إدارة
بوش، أن هذا الأخير وأبرز مستشاريه لم يقتنعوا خاصة أن
إلغاء العشاء (يعقب القرارات السعودية بالسعي إلى أرضية
مشتركة مع إيران و(منظمتي) حزب الله وحماس الاصوليتين،
بدلاً من مواجهتهم كجزء من الإصطفاف الذي اقترحته (وزيرة
الخارجية كوندليسا رايس بين المعتدلين والمتطرفين في الشرق
الاوسط).
وفي السياق، أشارت الصحيفة باستنكار إلى التطور اللافت
في العلاقات السعودية ـ الايرانية، مشيرة إلى أن الأمير
بندر (بات يزور طهران وموسكو بانتظام)، وها هو الآن (ينقل
أسف الملك بخصوص العشاء) مع بـوش. وهو ما رفض البيت الابيض
التعليق عليه بتاتاً. ونقلت الصحيفة عن مسؤول في البيت
الابيض قوله (إن السعوديين يفاجئوننا بالذهاب إلى ذلك
الدرك)، مضيفة (لكن السعوديين، أيضاً، يجيدون قراءة نتائج
الانتخابات. إنهم يرون أن بوش يسبح عكس تيار من الفضائح
والنتانة، يغمر معظم مساعديه الموثوقين).
وسيكون على الإدارة الاميركية التعامل مع (أخبار إجتماعية
أكثر إحباطاً)، ألا وهي قيام الملك الاردني عبد الله الثاني
الذي قضى من الوقت مع بوش في واشنطن (أكثر مما قضاه أي
قائد آخر)، بدوره، بالنكوص عن زيارة مقترحة لأيلول المقبل.
أضافت (في المقابل، سأل الملك: ماذا عن العام 2008؟).
من جهة ثانية، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية
شون ماكورماك في الرابع من أبريل أن وزيرة الخارجية كوندوليزا
رايس اتصلت هاتفياً بنظيرها السعودي الأمير سعود الفيصل،
وبحثت معه في كلام الملك السعودي عبد الله حول (الاحتلال
الأجنبي غير المشروع) للعراق. وقال ماكورماك إن المحادثات
(كانت جيدة وصلبة).
وكان الملك عبد الله قد قال، أمام القمة العربية في
الرياض، إنه (في العراق الحبيب، تُراق الدماء بين الإخوة
في ظل احتلال أجنبي غير مشروع)، مضيفاً أنه (لن نسمح لقوى
من خارج المنطقة بأن ترسم مستقبل المنطقة).
واتصلت رايس بالسفير السعودي لدى واشنطن عادل الجبير
للغاية نفسها، وأعلن المسؤول الثالث في وزارة الخارجية
الأميركية نيكولاس بيرنز أن الولايات المتحدة (فوجئت)
بكلام الملك السعودي، وأنها تنوي طلب (إيضاحات) من الرياض.
غير أن سعود الفيصل أوضح للصحافيّين بعد ختام القمة
العربية، أن عبد الله (لم يتحدث عن وجود معين، بل قال
إن العراق تحت الاحتلال)، متسائلاً (لا أدري كيف يعرّف
عن بلد يحتوي على جنود ليسوا من جنسيته إلا بالاحتلال؟)،
وتابع الفيصل: إن (أي عمل عسكري لا يكون بدعوة من البلد
المعني هو احتلال).
|