توازن القوى الإقليمي
العراق وصراع النفوذ
فريد أيهم
إيران، العراق، السعودية شكّلت على الدوام مثلث توازن
القوى الاقليمي، وأن سقوط الضلع العراقي لم يغيّر في طبيعة
المعادلة، بالرغم من التمزّق الذي يعيشه العراق على وقع
العواصف الأمنية العاتية التي تضربه من كل الاتجاهات.
القضية المركزية بالنسبة للعراق هو أن السعودية وإيران
يسيطرون على المقاتلين الذين يتدفقون ويعملون على الساحة
العراقية، وهما مسؤولان عن العنف الدائر في الساحة العراقية.
فالسعوديون يريدون ضمانة أن لا يصبح العراق دولة تابعة
لطهران، حيث أن نفوذاً إيرانياً متعاظماً على الجزيرة
العربية قد يهدد إستقرار السعودية. وبالنسبة لإيران، التي
حاربت ثماني سنوات مع قوات صدام حسين في الثمانينات تريد
ضمانات بأن لا ينشأ نظام في العراق يفرض تهديداً عسكرياً
على ايران. ولكن جوهر المشكلة يكمن في أن المجتمعين السني
والشيعي في العراق قد أصبحا مستقطبين داخلياً بما يجعل
طهران والرياض عاجزتين عن إخماد النزعة حدة الاستقطاب
لديهما.
الموقف السعودي من أزمة العراق يتحرّك بصورة رئيسية
بوحي من هواجس توازن القوى الإقليمي. فالخوف السعودي الرئيسي
كما تعبّر عنه الدوائر الرسمية هو أن إيران ستوظّف موقعها
النافذ في العراق لترسيخ هيمنتها الإقليمية في حال الانسحاب
الأميركي. ولذلك تبالغ الرياض في إلحاحها على واشنطن من
أجل عدم الخروج من العراق في الوضع الراهن، مفصحة عن دعم
العلني لادارة بوش في البحث عن خيار حل حاسم. وفيما تعبّر
السياسة الاقليمية السعودية عن طريق منظار سياسة توازن
القوى الكلاسيكية، والتوترات المذهبية السنية ـ الشيعية،
التي تغلّف تلك السياسة، والأكثر أهمية هي تلك المنظورات
التي عبرها ترى الحكمة السعودية الوضع الاقليمي.
ولم تتخل الحكومة السعودية عن تلك النظرة، في مجهودها
من أجل حشد الدعم الشعبي خلف سياستها من أجل توازن القوة
الايرانية. على أية حال، فإن اللجوء الى الولاءات المذهبية،
سواء تمت بتشجيع من الحكومة أو خلافه، فإنها تنطوي على
مخاطر للحكومة السعودية، سواء على مستوى السياسة المحلية
في التعامل مع الشيعة في السعودية أو على مستوى سياستها
تجاه إيران. وفيما تأمل العائلة المالكة كبح النفوذ الايراني،
ليس في العراق فحسب ولكن في المنطقة عموماً، فإن الرياض
تريد تفادي أي مصادمة مباشرة مع طهران وأن تبقى منفتحة
للتعاون مع الايرانيين. وحيث تصبح التوترات السياسية في
المنطقة ذات طابع مذهبي، فإن الحكومة السعودية تفقد المرونة
الضرورية لكبح أو إشراك طهران في لعبة توازن القوى الكلاسيكي.
الرياض وأزمة المبادرة
علنياً، لم تكن السعودية متحمّسة للغزو الأميركي للعراق
سنة 2003، بالرغم من تعاونها في تقديم التسهيلات الضرورية
للعمليات العسكرية الأميركية. ومنذاك، وكما عبّر صانعو
السياسة السعودية عن إحباطهم المتنامي مع تزايد أعمال
العنف وتدهور الأوضاع الأمنية، فإن الرياض التزمت موقفاً
سلبياً تجاه الأحداث، فبينما سمحت لجماعات العنف بالتسلل
من أراضيها الى داخل العراق ما خفف عنها عبئاً أمنياً
مقلقاً، الا أنها في المقابل لم تقدم ما يشير الى رغبتها
في دعم العملية السياسية، بل سعت بحسب ما تفيد تقارير
عدة تمويل جماعات العنف. الانكفاء السلبي عن الوضع السياسي
العراقي يمكن إرجاعه الى عدد من العوامل، ولكن الأهم من
بينها هو الرغبة السعودية لتحاشي أي تعقيدات في علاقاتها
مع الولايات المتحدة. وطالما أن الولايات المتحدة تحتل
العراق، فإن أي جهد سعودي لرسم دور فاعل ومستقل إزاء هذا
البلد يفضي الى خطر النكد الأميركي. بمعنى آخر، أن أية
مسعى سعودي لتدشين علاقات السيد ـ العبد مع المجموعات
السنيّة العربية أو الجماعات المسلّحة في العراق قد يضعهم
في موقع غير مريح لدعم الناس الذين يقتلون الأميركيين.
وعليه، فإن الرياض تحاول المحافظة على مسافة احترازية
في اتصالاتها مع الأحزاب والشخصيات العراقية سواء العرب
أو الأكراد، السنة والشيعة، الحضر والعشائر، وبالتالي
فهي تعقد روابط مع جماعات سنيّة عراقية محددة عبر رجال
الدين المحليين أو الجماعات السلفية الجهادية المقرّبة
منها، دون أن تترك أثراً وراءها يهدد بإحراجها أمام حليفها
الأميركي. هذا الدور بالواسطة يعتبر استثناءً لحساسية
الوضع العراقي، ولكن لا نجد هذا الأمر يتكرر في مناطق
أخرى مثل اليمن ولبنان حيث يطوّر الأمراء الكبار علاقات
وثيقة مع مختلف الأحزاب الحليفة لها، وبدرجة أساسية عبر
تقديم الدعم المالي والدعم الدبلوماسي وفي بعض الأحيان
الدعم العسكري المباشر للتأثير على سيرورة الصراعات ودعم
المصالح السعودية.
الانكفاء السعودي المعلن عن الساحة العراقية سيبقى
طالما أن الولايات المتحدة ستمنع ما يعتبره السعوديون
أسوأ السيناريوهات في العراق: تعزيز النفوذ الايراني هناك،
الحرب الاهلية الدموية في العراق.
وفيما تتصاعد الدعوات داخل الولايات المتحدة لإنهاء
الدور العسكري الأميركي في العراق، فإن استقطاب الزخم
بعد انتصار الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية في
نهاية العام الماضي فإن العائلة المالكة واجهت رأياً يقول
بأن الولايات المتحدة لن تكون عقبة أمام عراق تهيمن عليه
إيران. فهم يخشون بأن تكون مقترحات تقرير جماعة دراسة
العراق بسحب القوات الاميركية من العراق سياسة أميركية
قادمة.
كما يخشى السعوديون أيضاً بأن القرار الأميركي بالانسحاب
سيؤدي الى مبادرة دبلوماسية أميركية تجاه إيران، تقرّر
فيها النفوذ الايراني في العراق في مقابل الانسحاب.
وتلتقى هذه المخاوف مع الأزمة اللبنانية المتواصلة،
والتي بدأت بالعدوان الاسرائيلي على لبنان في صيف العام
الماضي، ثم أخذت شكل الجمود السياسي بين المعارضة وقوى
السلطة. لقد شاهدت السعودية في لبنان، مع الدعم الايراني
لحزب الله، كدليل آخر، ويأتي في المقدمة الالتزام الايراني
لمواصلة برنامجها النووي والدعم الايراني لحماس في صراع
السلطة في الداخل الفلسطيني، ما اعتبرته الرياض مسعى ايراني
للبحث عن دور مهمين في المنطقة.
ولذلك، فإن إصرار المسؤولين السعوديين على الولايات
المتحدة بعدم الانسحاب من العراق كما عبّر عن ذلك الأمير
تركي الفيصل، السفير السعودي السابق في واشنطن العام الماضي،
يندرج في سياق هواجس الرياض من وقوع العراق تحت النفوذ
الايراني، وما إطلاق الملك وكبار الأمراء خلال الفترة
الماضية لتحذيرات مباشرة وغير مباشرة بالتدخل السعودي
في العراق في حال انسحاب الولايات المتحدة متزامنة مع
تحذير واشنطن من الفراغ السياسي الذي قد تشغله طهران في
العراق، سوى محاولة لكبح ميول أميركية بدأت تتنامى تحت
ضغط الكونغرس الديمقراطي من أجل سحب القوات الأميركية
من العراق. وبالرغم من أن التحذيرات السعودية ذات طبيعة
سياسية وغير واقعية حيث لا تمتلك السعودية قوة عسكرية
منافسة لنظيرتها الايرانية، وتدرك بأن أي تورط عسكري في
العراق سيأتي بكوارث أمنية على نظامها السياسي وقد يؤدي
الى إنهيار الدولة حيث ستكون حدودها مفتوحة على كل الجبهات،
وهو ما تدركه العائلة المالكة تماماً، فهشاشة الوضع الأمني
تحول دون الاقدام على مغامرات قاتلة خصوصاً مع مفاجئات
العنف التي تتفجر بين فترة وأخرى. ولذلك، فإن التهديد
السعودي بالتدخل العسكري المباشر هو مجرد طلقة فارغة في
الهواء. الخيار البديل للتدخل السعودي تمثّل في دعم الجماعات
السنيّة المسلّحة، حيث اعتبر استقبال الرياض في أكتوبر
2006 لزعيم هيئة علماء المسلمين الشيخ حارث الضاري، وهي
جماعة دينية سنية على صلات وثيقة بالمتمردين، مؤشراً على
خيارات الرياض في التدخل.
وعلى أية حال، فقد تنفّست الحكومة السعودية الصعداء
حين بات واضحاً بأن إدارة بوش وحكومة المالكي تعارضان
الانسحاب الاميركي من العراق، بالرغم من إنعدام الثقة
في قدرة القوات الأميركية على تحقيق الاستقرار في العراق
بمعزل عن الدور الايراني وكذلك السوري، الا أنه إستمرار
الحضور العسكري الاميركي في العراق يدحض أسوأ السيناريوهات
من وجهة النظر السعودية في الوقت الراهن.
السياسة الإقليمية السعودية
تنظر الحكومة السعودية الى أزمة العراق من منظور التوازن
الاقليمي، بالنظر الى القوة الايرانية. على أية حال، فإن
هذا المنظور قد لا يتطابق مع الرأي العام المحلي (وهو
ليس موحداً على أية حال لطبيعة التباينات السياسية والاجتماعية)،
الذي ينطلق في تقييمه للأزمة العراقية من خلال منظورين
متداخلين: الاول، طالما استمرّ الاحتلال الأميركي لأرض
عربية، فإن المقاومة المسلّحة تعتبر مشروعة، الثاني الصراع
الطائفي.
منذ بداية الاحتلال الأميركي للعراق، تدفّق السعوديون
من التيار السلفي الى العراق للمحاربة الى جانب المتمردين،
وخاضوا حرباً دموية ضد المدنيين الى جانب القوات الأميركية.
وينظر كثير من العراقيين الى السعوديين القادمين من خلف
الحدود الشمالية بأنهم جاءوا لاشاعة الموت بين العراقيين
وليس لطرد قوات الاحتلال الاميركية.
تحدثت مصادر سعودية وأميركية عن حجم السعوديين في العراق
بنحو 12 بالمئة من المقاتلين الأجانب، الذين يمثّلون حسب
مصادر أجنبية 10 بالمئة من المقاتلين العرب عموماً، ولكن
الدور السعودي يزداد أهمية وخطورة في البعد اللوجستي والتمويلي،
حيث تذكر مصادر عراقية بأن الدعم المالي السعودي الخاص
والحكومي يساعد في تعزيز التمرد السني. وكانت مصادر عراقية
حكومية قد ذكرت بأن المسؤولين العراقيين نقلوا الى نظرائهم
السعوديين هواجسهم من تشجيعهم لمواطنيهم من مقاتلين ومموّلين
لدعم التمرد في العراق. في المقابل، قامت الرياض ببناء
سياج أمني على طول الحدود مع العراق، من أجل منع المتسللين
من العراق الى داخل أراضيها، كما أعلن عدد من علماء المؤسسة
الدينية الرسمية عن استنكارهم بشأن انضمام الشباب السعوديين
لعمليات التمرد في العراق، وهو موقف يعارضه رجال دين سلفيين
كانوا قد أصدروا بيانات تشتمل على دعوات غير مباشرة بالمشاركة
في الجهاد ضد القوات الأميركية. المسؤولون السعوديون يقرّون
بصورة سرّية بأن ليس هناك شيء يمكنهم القيام به لوقف السعوديين
من السفر الى العراق عبر دمشق والمشاركة في القتال الدائر
في العراق.
وفيما شهد القتال في العراق تحوّلاً دراماتيكياً في
العام 2006 الى ما يقرب الصراع المذهبي بين العرب السنة
والعرب الشيعة، فإن الرأي العام السلفي بدأ يركّز على
التهديد الذي يواجهه السنة في العراق من قبل الاغلبية
الشيعية. ففي السابع من ديسمبر 2006، بعث علماء الدين
السعويون، المنضوين تحت الجامعات الاسلامية في البلاد،
دعوة الى العالم السني لحشد الدعم للأقلية السنية في العراق،
في مواجهة الاحتلال الصليبي الأميركي والمؤامرة الصفوية
الرافضية، حيث صيغ البيان بلغة طائفية فاقعة لم تعارضه
الحكومة السعودية بل تطابق لاحقاً مع تصريحات علنية للملك
وعدد من الأمراء الذين تحدثوا بلهجة مماثلة عن موقف رسمي
إزاء ما يجري في العراق.
ليس ثمة شك بأن الهوية الطائفية التي طالما كانت تحت
السطح في الشرق الأوسط قد تم تصعيدها مؤخراً على خلفية
أزمة العراق، وكذلك أزمة لبنان وجهود الادارة الاميركية
لتشكيل معسكر من الدول العربية السنيّة الهادف الى عزل
إيران. بالرغم من أن نهاية مدى الهيجان الطائفي غير معروفة
الا أن ثمة مؤشرات على أن وتيرته قد تراجعت بدرجة ملحوظة
بفعل ممانعة شعبية ونخبوية إسلامية وليبرالية لتوظيف العامل
الديني في الخلافات السياسية لأهداف إمبريالية أميركية.
لقد بات معلوماً أن إستعمال الحكومة السعودية للورقة الطائفية
في الأزمتين العراقية واللبنانية كان ينطوي على مخاطر
عليها بدرجة كبيرة، بعد أن تكشّف ضلوع الأمراء في مخططات
طائفية سواء على المستوى الاقليمي أو على المستوى القطري
وخصوصاً في الملف اللبناني، فقد بدا واضحاً أن الأطراف
التي شاركت في المخطط الطائفي هي مشبوهة وتفتقر للمصداقية،
يضاف الى ذلك الهدف المفضوح للمخطط الذي كشف عنه مسؤولون
أميركيون وإسرائيليون وكذلك وسائل إعلامية غربية، حيث
تبيّن أن السعودية ليست سوى منفّذاً صغيراً لأجندة طائفية
أميركية في المنطقة لخدمة أهداف لها وللاسرائيليين.
رغم ذلك، يبدو صحيحاً القول بأن العراق سيظل يزوّد
أولئك الذين يبحثون عن ذريعة لتثمير الاختلافات المذهبية
في الصراعات السياسية، تقابلها جهود من قيادات إسلامية
نافذة في الجانبين السني والشيعي من أجل إعادة التوازن
النفسي والثقافي للأمة بعيداً عن مهاترات البسطاء فكرياً
وسياسياً الذين يتلقون تعليماتهم من رجال دين متطيّفين
أو خاضعين تحت إملاءات حكوماتهم المصنّفة على معسكر الاعتدال
بحسب المعايير الأميركية.
انكسارالموج الطائفي يعتبر فشلاً سعودياً حيث كان التعويل
عالياً على دور هذا الموج في تطويق الحركة السياسية والدبلوماسية
الايرانية، خصوصاً وأن الداعمين الاميركي والاسرائيلي
أرادوه على مقاسهم، بالرغم من إتفاق الاطراف هذه على هدف
موحّد: التحالف ضد إيران لكبح نفوذها في المنطقة، وما
ذلك التنامي المفتعل للدور السعودي في ملفات المنطقة:
الخلاف الفلسطيني بين حماس وفتح، لبنان، المبادرة العربية
للسلام، المصالحة بين تشاد والسودان، وأزمة دارفور، سوى
محاولة لصياغة سياسة إقليمية سعودية مضاهية للسياسة الاقليمية
الايرانية. ولكن يبدو أن ثمة هواجس تحول أمام السعودية
من أجل المضي في سياسة إقليمية ذات طبيعة صدامية وطائفية.
|