الـدولـة المـضـطّـربـة
يُعرَّف الاستقرار، غالباً، بطريقة سلبية أي غياب الصراع،
ولكن هذا التعريف يكون صالحاً بالنسبة للديمقراطيات الغنية
والمنسجمة إثنياً، والتي تواجه تحديات من جيرانها. ولكن
الباحثين يحفرون أعمق من هذا المستوى من أجل الوصول الى
تفسير أو تعريف أدّق لمعنى الإستقرار، من خلال البحث عن
مفهوم للسلام عبر إدراك طبيعة المجتمعات والكشف عن كيف
أن ثقافتها وتوقّعاتها تبدد الصراع. ومع ذلك، فإن هذه
المقاربة ليست كافية هي الأخرى، فالاستقرار لا يتحقق بسهولة،
وإنما يتم تنميته، وفرضه، وتشجيعه، ودعمه، وصونه. والحكومات
غالباً ما تعمل بصورة جادة لمنع الصراع عبر إدارة بارعة
للخلافات الكامنة.
فأزمة استقرار الدولة، أي دولة، ليس منحصراً، إذن،
في تفجّر العنف السياسي، بالرغم من أن ذلك يمثّل التمظهر
الساطع لأزمة الدولة، وخصوصاً في نموذج الدولة المشرقية
القائمة على أساس هيمنة المؤسسة الأمنية على المجال الحيوي
لعمل الدولة. ولكن ثمة دلائل أخرى تلفت الى اهتزاز قواعد
الاستقرار في أية دولة، منها التفاوت الاقتصادي الفاحش
بين الطبقات الاجتماعية، الفساد المتزايد في النخبة الحاكمة
وانحلالها، عجز الدولة عن الوفاء بمتطلبات الرعاية الأساسية
للمواطنين، تفسّخ الثقافة الوطنية التي تملي الإلتزام
الاخلاقي والمعنوي لدى الرعايا حين تفقد الدولة المبررات
الأخرى لوجودها واستمرارها.
إن السلم الاجتماعي يبقى موضوعاً بالغ الأهمية، وأن
التطورات اللاحقة التي شهدتها الدول ضاعف من أهمية توفير
شروط التعايش السلمي داخل المجموعات المنضوية في الدولة.
وقد كان الإعتقاد أن التحديث وبناء الدولة الوطنية والتنمية
الاقتصادية، كخيارات حل، ستضع حداً للخلافات والنزاعات
الداخلية، ولكن ما نتج عن ذلك لم يكن بالضرورة متطابقاً
مع الاهداف المأمولة من هذه الخيارات. إذن أين الخلل؟.
كشفت تجارب الدول أن الحكومات تلعب دوراً مركزياً في
إنجاب أو إجهاض السلم الأهلي وفق الإجراءات التي تتبعها
الحكومات للحفاظ على السلم في ظل ظروف صعبة. ففي الدول
التي تعاني شعوبها من انخلاعات اقتصادية، وتغيير إجتماعي
غير قابل للسيطرة، والفساد، والإقصاء السياسي، والتدخل
الأجنبي، وصلت في نهاية المطاف الى نقطة التصادم، بالرغم
من بقائها مستقرة ظاهرياً لعقود عدة. فهذا الاستقرار لم
يكن كاملاً، حيث أن سلسلة اضطرابات شهدتها هذه الدول ومازالت
مستمرة، حتى باتت من خصائصها. في السعودية، وبعد أن أخمدت
قوات عبد العزيز انتفاضة جيش الإخوان في معركة السبلة
العام 1929، لم يضع إعلان قيام الدولة نهاية حاسمة للإضطراب،
فقد شهدت البلاد منذ عقد الخمسينيات وحتى اليوم إضطرابات
متواصلة، فقد وقعت محاولات انقلاب عسكري في عقدي الستينيات
والسبعينيات، واندلعت انتفاضتان كبريان في مكة المكرم
والمنطقة الشرقية في نهاية السبعينيات، وشهد عقد الثمانينات
سلسلة أعمال إحتجاجية في المنطقة الشرقية، وما إن أطّل
عقد التسعينيات حتى أصبحت الفوضى سمة غالبة على الوضع
الداخلي للبلد، ولم تعد هناك منطقة خارج هذه الفوضى، فقد
تفجّر المركز في وجه السلطة، وتمدد، ولكن هذه المرة لتعميم
الفوضى بعد أن كانت تستعمله السلطة لتعميم استقرارها ووحدتها.
ومنذ منتصف التسعينيات حدث أول تحوّل أمني خطير داخل هذا
البلد بعد انفجار شاحنة في مركز للتدريب تابع للحرس الوطني
بالرياض أو ما يعرف بتفجير العليا، ولحقه إنفجار آخر في
الخبر بالقرب من قاعدة عسكرية بالمنطقة الشرقية.
منذاك، وبالرغم من التدابير الصارمة التي اعتمدتها
وزارة الداخلية من أجل فرض النظام وإعادة الاستقرار، خرج
الاستقرار من التداول، وأصبح حلماً، خصوصاً حين تمسّكت
الدولة بخيار تحقيق الأمن على طريقتها الخاصة، أي باستعمال
القوة الغاشمة، فيما باتت سياساتها الاقتصادية والسياسية
والايديولوجية عاملاً رئيسياً في توليد المزيد من الاضطرابات.
إن التحديث الذي كان مصمماً، من الناحية النظرية، لتحويل
المجتمعات، وتحسين الأوضاع الإقتصادية والسياسية والثقافية،
فاقم من الفجوة الداخلية، وأصبح التقدّم غير متوازن بالقياس
الى الثروة المتزايدة، حتى بات تعريف السعودية الغنيّة
بالنفط بما تفتقر إليه، ففي زمن أصبحت فيه الديمقراطية
النظام السياسي المهيمن في العالم، فإن النظام السعودي
إستبدادي شمولي، والحكومة غير خاضعة للمحاسبة، وأن العزل
السياسي والفساد حاكمان. وعلى النقيض من التصور النمطي
عن حكام هذا البلد الأثرياء، فإن التقدّم الاقتصادي غير
متوازن.
تضخ الماكينة الدعائية الرسمية إنطباعات مفتعلة عن
دور كاريزمي للملك عبد الله، الذي لم يحقق ما كان يطمع
فيه المعدمون، فضلاً عن تلبية تطلعات سياسية كبرى. فالطفرة
الاقتصادية النادرة التي تشهدها البلاد في الوقت الراهن،
وهي طفرة ليست فضيلة ملكية كما تحاول ماكينة الدعاية الرسمية
تصويرها، لم تنعكس على الأوضاع المعيشية للسكان سوى في
نطاق محدود، فيما يتم توظيف هذه الطفرة بشكل سيء لأهداف
سياسية خارجية، أو تحقيق المزيد من الثروة لبعض الأمراء
الكبار الذين يعقدون الصفقات الفلكية. ولذلك، فإن واحدة
من المظالم التي يعبّر عنها المواطنون ضد حكومتهم هي انعدام
محاسبة الحكومة، التي تسيء إستعمال السلطة وتشجّع الفساد،
فيما لا سبيل اليهم في إيصال هذه المظالم الى جهة قادرة
على التحقق أو ملاحقة المسؤولين عنها.
من الطبيعي في أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية مختّلة
بدرجة عميقة، أن تبرز أشكال متعددة من الاضطراب الأمني
والسياسي. فظهور جماعات عنفية ليس سوى تعبيراً متقدماً
للاحتجاج على الدولة، وهناك قائمة طويلة من التعبيرات
على المستويين الفردي والجماعي، فظهور السلاح وبيعه وانتشاره
بين الناس في مناطق مختلفة واستعماله لم يعد أمراً خافياً.
إن قصصاً مثل اطلاق الرصاص على مدارس ابتدائية، أو حافلات
عامة، أو مواجهة مسلّحة بين قوات الأمن وأفراد عاديين،
وسقوط ضحايا مدنيين في عمليات مشاجرة لأسباب عائلية أو
تجارية باتت عادية ومألوفة في مناطق عدة من البلاد.
في سياق تحوّلات سياسية وأمنية متسارعة، لم يعد بالإمكان
اليوم الحديث عن عودة الاستقرار، فوتيرة الاضطراب تتفاقم،
وأن إصرار الحكومة وأجهزتها الأمنية على السير في خط المواجهة
مع المجتمع يعمّق الفجوة الداخلية ويغذي أشكالاً أخرى
متطورة من الاحتجاج، قد تصل في مرحلة معينة الى درجة يصعب
ضبطها، في ظل تقلّبات سياسية إقليمية خطيرة.
|