الـد ولـة الـمُـفـسِـدة
التعريف الشائع للفساد هو (إساءة إستعمال السلطة من
قبل مسؤول عام من أجل مكسبٍ خاص)، وقد ميّز الباحثون بين
الفساد الخاص والفساد العام، الذي منه تشتق مجالات الفساد
الأخرى الإقتصادية والقضائية والإدارية والتربوية. ويرشد
إلى الفساد، غالباً، أبرز مصاديقه وهو الرشوة، التي تعتبر
أجلى أشكال الفساد.
ويعتبر الفساد جريمة قانونية، ومن حيث الجوهر هو جريمة
أخلاقية، وبالتالي فإن المرء قد يفلح في تعريف الفساد
ضمن إطار الجرائم ذات الطبيعة الأخلاقية بتمظهراتها الإقتصادية،
مثل الرشى، والتحايل، والمتاجرة غير المشروعة. بطبيعة
الحال، لم يكن بالإمكان التوصل الى هذه الحقائق إلا بعد
أن شهدت بعض الدول حالات من الفساد عبر الرشى هدّدت معها
أسس النظام الديمقراطي، فمنذ العام 1977 سُنَّ قانون يجرِّم
الشركات الأميركية التي تعرض رشى من أجل تأمين عقود خارجية،
وفي العام 2002 صدر قانون في بريطانيا لذات الغرض.
في إجتماع قمة الثماني في ألمانيا هذا الشهر، كان من
بين الموضوعات المدرجة على جدول أعمالها محاربة الفساد
في الدول النامية، حيث هناك ما يربو عن ثلاثة تريليون
دولار تتحرك في العالم لنشر الفساد، وهي المسؤولة عن إنتشار
المخدّرات والإرهاب.
وكان البنك الدولي توصّل العام 1997 إلى رؤية تربط
بين التنمية الإقتصادية وانخفاض معدّل الفساد. وقد نشأت
منظمات متخصصة لمكافحة الفساد على مستوى دولي، بل فرضت
على دول عديدة في الغرب الإمتثال لسياسية مضادة للفساد
من أجل الإحتفاظ بعضويتها في الإتحاد الأوروبي والنجاة
من غضب شعوبها.
ومن الواضح ، فإن الفساد بات قريناً للدول، وأنه وليدها
المحبب، حيث منها تتخلّق طبقة فاسدة تأكل مما تحمله الدولة
في جوفها. فإذا كان هناك طبقة ما من الفاسدين الذين هم
كذلك ولكن غير مسؤولين من الناحيتين القانونية والاخلاقية
فإن أعمالهم تفضي إلى إفساد الدولة ذاتها، بل تلحق آثارها
الفاسدة حتى الدول التي تتعامل معها. فقد باتت حقيقة ثابتة
أن تعريض أي شخص لأجواء مليئة بالفساد يجعله فاسداً، وتقدّم
لنا التعاليم الدينية نصيحة الإنكفاء عن مواطن الشبهة،
ومصادر الفتنة كيما لا يصيبنا منها ما يجعلنا شركاء فيها.
ويرى كثير من المحللين أن الفساد هو نتيجة عوامل سياسية
وإقتصادية وأخلاقية، وهو كذلك، ولكن من الضروري التأكيد
في مرحلة محددة من تطوّر فساد الدولة نفسها يمكن أن يصبح
الفساد عاملاً مهيمناً يعرّف سياسة واقتصاد الدولة، وكذلك
العلاقات الاجتماعية في المجتمع. من وجهة نظر أخرى، فإن
الفساد قد يؤسس لقاعدة تقوم عليها الدولة ونظامها السياسي.
فالتسلّطية السياسية باتت نتيجة لا يمكن تفاديها لفساد
الدولة نفسها.
ولذلك، يُنظَر إلى النظام الديمقراطي وحرية الكلام
بوصفهما آليتين تسمحان بمكافحة فاعلة ضد الفساد، فالحكومة
الديمقراطية قادرة على وضع الفساد تحت السيطرة.
ومن الواضح، فإن الفساد ليس شيئاً مجرّداً، بل هو آلية
تنظّم العلاقة بين العاملين في الجهاز الدولتي، فهناك
سدنة يحرسون عملية الفساد في الدولة عبر الدفاع عن نظامها،
وهؤلاء مستفيدون من إدامة هذا النظام، فثمة مصلّحة مؤكّدة
ومادية بدرجة أساسية في بقاء هذا النظام وتوفير مصادر
الدعم له، بحيث بلغ التواطؤ على الفساد درجة أن الدولة
نفسها لا تعمل دونما مصالح شخصية للطبقة البيروقراطية،
وأن الفساد أصبح القوّة المحرّكة لماكينة الدولة بكاملها.
هذا يلمح إلى أن الفساد كجزء من سلطة الدولة قد تحوّل
الى قوة إكتفاء ذاتي، بمعنى أنها تندرج اليوم ضمن مصنّف
مستقل للأنظمة السياسية في العالم إلى جانب أنظمة مثل
الديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية الإجتماعية وغيرها،
فهناك في المقابل فساد ليبرالي كما في (اليابان وكوريا
الجنوبية وغيرها)، وفساد تسلّطي (أغلب دول الشرق الأوسط)،
الفساد الدولتوي (روسيا)، والفساد الأيديولوجي (الصين).
فالفساد أصبح مبدأ للدولة ما يعني أنك بحاجة لأن تدفع
ثمن أية خدمة داخل دورة العلاقات الدولتية، فالقانون لا
مكان له إذا كان المواطن مضطّراً للتوسّل بآليات أخرى
(التضامنات الإجتماعية أو الرشى) من أجل الحصول على ما
يريد من الأشخاص المسؤولين في أحد أو بعض مؤسسات الدولة.
أنت اليوم بحاجة إلى تخليص معاملة رسمية فتضطر لتقديم
رشى لمسؤول ما، وغداً فإن الأخير بحاجة إليك في قضية أخرى
فيقوم بالدفع إليك، وكلاكما بحاجة إلى شخص ثالث للمساعدة
فتدفعان له، فكل شخص في هذا البلد يعتمد على الآخر في
قضاء حاجته وفق نظام فاسد، وليس بالإتكال على قانون يحكم
علاقات الجميع، وخصوصاً العاملين في الأجهزة الدولتية.
فقد أصبحت الرشى عنصراً تفويضياً في علاقاتك مع أولئك
المحيطين بك. فإذا وافقت على أن تكون الرشوة أساساً لتلك
العلاقات، وخصوصاً أولئك العاملين في الدولة، فإنك بصورة
سلسة تندمج في النهج الذي يسيّر المجتمع والدولة، أما
إذا بدأت في الإعتراض على هذا النوع من العلاقات فإن مصيرك
مجهول، ويقدّر لك أن تقف على باب هذا المسؤول وذاك.
من الظواهر المستهجنة في هذا المجال أن ترى الغالبية
العظمى من الصحف تتظاهر في محاربة الفساد، ولكنها محرومة
من أية إمكانية لنشر حقائق دامغة عن إساءة التصرفات المالية
للسلطة، بل قد تقترف الصحافة جريمة تزويد الفاسدين بالدعم
والمعلومات الداعمة لنظامهم الفاسد. فالمقالات الناقدة
للفساد والتي تظهر في الصحافة أو حتى تقارير الحكومة في
محاربة الفساد تخلق وهم عدم تورّط الحكومة فيه، بما يوحي
وكأن الفساد والسلطة منفصلان، وأن الأخيرة تحاربه بشراسة.
في ديارنا، الدولة فاسدة في ذاتها مفسدة لغيرها، فالسعودية
مرشّحة دائماً لأن تكون بؤرة فساد بل هي كذلك، فإذا كان
بندر تسلّم ملياري دولاراً فماذا كان نصيب الشركاء الآخرين؟.
فأن يسرق الأمير بندر ملياري دولاراً في صفقة اليمامة،
فقد سرق أب وأخوة وأعمام وأبناء عم له من قبل.. باختصار:
الفساد عائلة مالكة.
لم يكن الهدف من شراء الاسلحة ذاك الذي من أجله تمت
صناعتها، بل هو وسيلة لشراء صمت الغرب وتعزيز تحالفات
السعودية، ودرء ضغوط الإصلاح. فقد نجحت العائلة المالكة
في إحباط مشروع الدمقرطة الذي أعلنه الأميركيون مراراً
منذ التسعينيات عبر عقد الصفقات العسكرية بأسعار فلكية،
فقد أفسدت السعودية القيم الليبرالية والديمقراطية في
الغرب بفعل إغوائها المالي.
لم تكن فضيحة الرشى على الأمير بندر مفاجئة بالنسبة
للمواطنين، فهم يشهدون أشكال الفساد اليومي، بعد أن تحوّل
الفساد الى نظام، بل هو فساد مؤدلج أيضاً، بحيث لا تجد
من يعترض عليه من رجال الدين وغيرهم من المقرّبين من السلطة
لأنهم يرون في سرقة الحاكم حقاً خاصاً، إن لم يكونوا شركاء
فيه.
الفساد سرطان يستشري في جسد الدولة، ولذلك فإن الغرب
المتورّط في فساد دولتنا، والمستفيد منه إلى حد ما يطالب
أحياناً بل يعمل على وضع حدود له كي لا يؤدي إلى تدمير
الدولة.
الملك وعد (وما أكثر وعوده) بالمحاسبة والشفافية بل
وتقليص مخصصات الأمراء من أموال الدولة، ولكنه مطلب لم
يزد الفاسدين والظالمين إلا تبارا.
|