أولمرت يبحث عن غطاء سعودي لـ(تموز ثانية) في فلسطين
تفـادي نكبـة (بيـان) آخـر
باتت الدولة العبرية في مسيس حاجة للغطاء السعودي لشن
حروبها على خصومها الوحيدين: حزب الله في لبنان وحماس
في فلسطين، وربما إيران وسوريا بمشاركة أميركية في مرحلة
لاحقة.
البيان السعودي الذي صدر في أول يوم لإعلان الحرب على
لبنان في الثاني عشر من تموز من العام الماضي كان بمثابة
غطاء سعودي جرى توظيفه في عدوان شديد الشراسة. وقد أغرى
هذا البيان الجانب الاسرائيلي كيما يظل مصدر دعم رئيسي
في الإستراتيجية العسكرية الاسرائيلية في المنطقة.
كان قرار الحرب على غزّة حاسماً، وقد تم إبلاغ الأطراف
الإقليمية والدولية كافة بأن الجيش الإسرائيلي ينتظر ساعة
الصفر لبدء تحرّكه نحو عمليات عسكرية وصفتها حكومة أولمرت
بأنها ستكون محدودة وستتجنب ضرب المدنيين والبيوت، فيما
تقرر أن تدير مصر والأردن وحكومة محمود عباس عملية حصار
لتضييق الخناق على حركة حماس في غزة. جاء أولمرت الى شرم
الشيخ لوضع اللمسات الأخيرة على إتفاق رباعي جرى الإعداد
له على نحو عاجل لبدء التحرّك قبل أن تنشأ أوضاع جديدة
تسمح لحركة حماس بفك طوق العزلة وتنفيذ ضربة عسكرية قاصمة
للحركة.
جاء أولمرت إلى شرم الشيخ وكان يحمل معه مسودة مشروع
أميركي ـ إسرائيلي جرى تداوله بين الأطراف الأربعة المجتمعة
في شرم الشيخ، ويقضي المشروع بأن يشّن الجيش الاسرائيلي
حملة عسكرية لضرب البنية التحتية لـ (حماس) وإنهاء وجودها
السياسي وسيطرتها على غزة، عبر عملية اغتيال منظّمة لقيادات
الحركة السياسيين والقادة الميدانيين تكون عملاً تمهيدياً
لمرحلة توغّل في القطاع.
كان يأمل الرباعيون بأن يضع لقاء الملك عبد الله مع
الرئيس المصري حسني مبارك آخر لمسة على خطة الحرب الاسرائيلية
على غزة، وهي حرب حظيت بدعم مبدئي أردني ومصري إضافة الى
دعم حكومة عباس. وكانت تدرك حكومة أولمرت أن غياب مشاركة
سعودية في مشروع الحرب الاسرائيلية على غزة، سيجعل موافقة
القاهرة وعمان مهزوزة، خصوصاً وأن الإرتدادات الشعبية
والسياسية والأمنية لحرب إسرائيلية تبدو مدركة لدى السلطات
المصرية على الأقل التي ستشهد حدودها مع غزّة عمليات نزوح
واسعة، إضافة الى الإنعكاسات الأمنية والسياسية الداخلية.
ولذلك، تمسّكت حكومة أولمرت بخيار المشاركة السعودية لضمان
أي تداعيات غير محسوبة لاحقاً، مستحضرة ما جرى خلال حرب
تموز، حيث كان للبيان السعودي دور فاعل في تشجيع الحكومة
الإسرائيلية على البدء فوراً بحرب واسعة وتدميرية، وربما
لو لم يصدر هذا البيان لكان هناك رد فعل مختلف، عربياً
وإسلامياً على المستويين الشعبي والرسمي.
أولمرت إقترح، بحسب الإذاعة الإسرائيلية، مشاركة مسؤول
سعودي (وليكن الأمير بندر أو الأمير سعود الفيصل) في قمة
شرم الشيخ لجهة (تعزيز الإنطباع بأن العالم العربي يقف
وراء عباس) على حد الإذاعة. ولكن ذلك الإقتراح واجه رفضاً
سعودياً شديداً، بل أن حسني مبارك الذي تلقى الموقف السعودي
المتشدد عبّر عنه في جواب حول احتمال لقاء قريب بين الملك
عبد الله وأولمرت، وقال لينسى الإسرائيليون هذا اللقاء.
ولكّنه أعطى تفسيراً موارباً حين قال بأن ما يمنع اللقاء
هو وجود رجال دين متشددين، بما يوحي وكأن الملك لديه الاستعداد
المبدئي للقاء وان ما يحول دون ذلك هو عامل آخر.
على أية حال، فإن الغطاء العربي المتوّج سعودياً لشن
حرب على غزّة لم يتم كما كان يأمل أولمرت بحسب تصريحه
في الثالث والعشرين من يونيو الماضي، فقد أبدى الملك السعودي
موقفاً متشدداً ليس من محمود عباس فحسب، بل ومن كل الترتيبات
التي كانت تنوي الأطراف المجتمعة في قمة شرم الشيخ تنفيذها،
بل اعتبر الملك عبد الله أن هذه القمة هي تصويب النار
على إنجاز (إتفاق مكة).
تأجّلت زيارة الموفدين المصري والأردني الى الدولة
العبرية عقب تصدّع جبهة الحرب، حيث كان متوقعاً أن يناقش
الأطراف العربية والاسرائيلية خطة الهجوم على غزّة، ولكن
خلافاً مصرياً سعودياً حال دون ذلك، فالملك عبد الله الذي
رعى (إتفاق مكة) شعر بالغضب لأن ثمة من أطاح بإنجاز سياسي
إستثنائي قاده بنفسه، ولذلك جاء الى القاهرة في عودته
جولته الأوروبية ليعرب عن رفضه لأي خطة لتقويض بقية الأمل
في إعادة إحياء إتفاق مكة، فليس من المقبول أن تشارك السعودية
في خيار الحرب وهي التي نصبت منصّة لإطلاق السلام الفلسطيني
ـ الفلسطيني.
رفض الملك عبد الله لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس
في عمان خلال زيارة قام بها الملك في السابع والعشرين
من يونيو الماضي، كرد فعل على النهاية البائسة التي وصل
إليها (إتفاق مكة)، وحمّلت السعودية سلطة عباس مسؤولية
كبيرة في تخريب الإتفاق. من جهة ثانية أصرّت السعودية
على موقفها بضرورة إرسال لجنة تقصي الحقائق الى غزة، وهو
ما رفضته حكومة عباس.
أصرّ الملك عبد الله على إعادة إستئناف الاتصالات بالأطراف
الفلسطينية من أجل إعادة إحياء (إتفاق مكة)، وأبلغ الرئيس
المصري حسني مبارك بأنه ليس مستعداً للمضي في خيار الحرب
الاسرائيلية على غزة، ولن يقع في خطأ العام الماضي حين
استغلّت الدولة العبرية بيان الأمير بندر بإسم الحكومة
السعودية لتنفيذ عدوان شرس ضد لبنان.
يبدو أن عباس قرر إطاحة (إتفاق مكة) عبر تدابير متسلسلة
قام بها منذ حوادث غزة، بدءً من تشكيل حكومة طوارىء، وشن
حملة إعلامية خصامية غير مسبوقة ضد قادة حماس، وقد يحل
المجلس التشريعي، وهي تدابير تعني إزالة كل عوامل الوحدة
الوطنية، وهو ما أثار حفيظة الملك عبد الله الذي ينظر
إلى تدابير عباس وكأنه موجّهة الى جهود بذلها من أجل إنجاح
الإتفاق، وهو يرى بأن هناك أطرافاً عربية ودولية أميركية
وبريطانية ساهمت في إفشال مبادرة الملك عبد الله في (إتفاق
مكة)..
التنافس السعودي المصري
منذ (إتفاق مكة) بعد محادثات برعاية الملك عبد الله
بين السادس والثامن من فبراير الماضي، والعلاقة بين القاهرة
والرياض بخصوص الملف الفلسطيني لم تكن مستقرة، كون الإتفاق
كان إنجازاً سعودياً بامتياز. لم تستقبل القاهرة هذا الإتفاق
بترحيب مفتوح، فقد أبقت على المقاطعة السياسية والحصار
الإقتصادي على الحكومة الوطنية الفلسطينية، بل وواصلت
تعاونها مع أطراف فلسطينية مقرّبة من محمود عباس لتخريب
الإتفاق، فيما فرض الملك عبد الله حجراً مؤقتاً على دور
الأمير بندر الذي كان يعمل في خط مواز على إقناع بعض الدول
العربية الكبرى بالتخلي عن مبدأ العودة من أجل ضمان القبول
بمبادرة سلام سعودية.
صمتت القاهرة على مضض بعد أن أبلغت بأن (إتفاق مكة)
هو بمثابة (إنجاز الضرورة) بالنسبة للسعودية التي أمضت
شهوراً عدة لإعادة طرح مبادرتها بإسقاط مبدأ العودة، ولذلك
قبلت القاهرة أن تكون مهمّشة ولكن بصورة مؤقتة. وفيما
يبدو، فإن الإحساس بالتهميش تفجّر في قمة الرياض في مارس
الماضي، حيث استقطب الملك عبد الله ومبادرته الضوء في
موضوع يعتبر إحتكاراً مصرياً لفترة طويلة، ثم لاعباً أساسياً
في أي ترتيبات تخص موضوع السلام وكذلك الوضع الفلسطيني.
كانت مبادرة الملك عبد الله هي الموضوع الرئيسي إن لم
يكن الوحيد الذي كان مطروحاً على قمة الرياض، ومن الطبيعي
أن يحظى الملك عبد الله بأهمية إعلامية متميزة، ولربما
كان إصرار الملك عبد الله على حشد الدعم العربي لإتفاق
مكة ومتوالياتها أي حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية هو
ما أشعر القاهرة بأن الرياض تحرّك مراكز الجاذبية السياسية.
على أية حال، فإن الغيمة الإعلامية الكثيفة التي صنعتها
الرياض لم تمطر قرارات فاعلة، باستثناء تشكيل لجنة رباعية
عربية مشتقة من الجامعة العربية على أمل مواصلة المناقشات
مع الحكومة الاسرائيلية لجهة تحريك عملية السلام وفق مبادرة
سعودية لم تفلح محاولات الأمير بندر في تحريك مواقف عربية
وفلسطينية أخرى بشأن مبدأ حق العودة.
ولأن (إتفاق مكة) كان ينظر إليه بوصفه مقدّمة للقبول
بمبادرة عربية معدّلة، فإن تصلّب مواقف عربية أخرى وكذلك
موقف حركة حماس من موضوع حق العودة، تم العمل على إطاحة
حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، من أجل فرض واقع جديد
في فلسطين يسمح بتمرير مبادرة عربية تضمن نجاحها من خلال
فرض الأمر الواقع.
لم تتحمس القاهرة كثيراً للمشاركة في صون (إتفاق مكة)،
وقد شعرت بأن تطورات ما بعد القمة العربية، من ثم نشوب
الصراع في غزة، قد أزاح عنها عبئاً نفسياً وأدبياً بأن
تستعيد دورها المحوري في أي ترتيبات فلسطينية داخلية أو
ترتيبات فلسطينية ـ إسرائيلية، وهي التي عملت لسنوات عبر
رئيس مخابراتها عمر سليمان، ومسؤوليها الأمنيين الآخرين
بالتشاور مع الاسرائيليين، وكذلك برعاية إتفاقات فلسطينية
كما جرى في سبتمبر 2004 بعد حوار القاهرة الذي جاء في
أجواء قرار إنسحاب شارون من قطاع غزة، وكذلك الحوارات
اللاحقة بين التنظيمات الفلسطينية التي كانت تتم تحت إشراف
القاهرة.
بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في يونيو الماضي،
أطلق مبارك تصريحاً شديد اللهجة ضد حماس ووصف ما قامت
به في غزة على أنه (إنقلاب على الشرعية) في تطابق تام
مع موقف محمود عباس، فيما يشبه إفصاحاً مفاجئاً لمكبوت
سياسي ينتظر لحظة مناسبه. في المقابل، لم يرق للرياض تبني
موقف مماثل فقد أخذت مسافة احترازية مما جرى وطالبت بأن
يلتزم الطرفان: فتح وحماس ببنوذ إتفاق مكة، وأن يتقي القادة
الفلسطينيون الله بعد أن أقسموا أمام الكعبة. بل أكثر
من ذلك، رفض الملك عبد الله أن يسير في جبهة الانحياز
الى محمود عباس بالطريقة التي عبّرت عنها القاهرة، بل
وأصرّت حتى النهاية على موقفها بإرسال لجنة تحقيق عربية
الى غزة للوقوف على الحقائق، وهو ما رفضته قيادة حركة
فتح.
تشعر الرياض بأن كل ما جرى بعد ذلك هو إفشالاً لإنجازها
السياسي، وأن مبارك شريك في هذه العملية، ما يجعلها تنأى
عن أي مخطط إسرائيلي بشن عدوان على غزة تحت غطاء عربي
ودعم أميركي، فمن غير المعقول أن تنتقل فجأة من اليمين
الى اليسار، وفوق ذلك الإنقلاب على إنجاز إعتبره الملك
عبد الله علامة فارقة في عهده.
وللسعودية رؤية محددة في أي مبادرة تقوم بها في الموضوع
الفلسطيني، على خلاف مصر والاردن، فهي تمتنع عن الاصطفاف
لجانب الرئيس الفلسطيني محمود عباس ليس لمجرد أنه يعتبر
طرفاً مباشراً في فشل حكومة الوحدة الوطنية المنبعثة من
إتفاق مكة، ولكن لأن هذا الاصطفاف يفضي الى عزل حركة حماس
التي سيجعلها تبحث عن حلفاء آخرين مثل إيران وسوريا، المنافسين
الكبيرين للسعودية في موضوعات إقليمية عدة.
وقد لمست أطراف عدة إسرائيلية وإقليمية وأميركية بأن
الحكومة السعودية تشعر بخيبة أمل مما حصل في غزة، وهي
تميل الى تحميل عباس والأطراف الإقليمية (اسرائيل ومصر
والإردن) والدولية (الولايات المتحدة وبريطانيا) لقدر
الأكبر من المسؤولية، وترفض أي عمل عسكري ضد حماس، خصوصاً
وأن لا مسار لسلام مع الدولة العبرية قد مهّدت له المبادرة
السعودية للسلام التي رفضت إسرائيلياً (لعدم إسقاطها حق
العودة) كما رفضت عربياً (لرفض مبدأ التوطين).
ما جرى في غزة لم يفشل (إتفاق مكة) فحسب، بل أفشل أيضاً
كل الترتيبات التي صمّمت خلال القمة العربية في الرياض،
فالوفّد المكلف من الجامعة العربية للتشاور مع الدولة
العبرية قد ألغى خطّة جولاته في المدى المنظور، وأن التطوّرات
المتسارعة فلسطينياً وإقليمياً ودولياً تجعل الجنوح الى
الحسم العسكري مرفوضاً من قبل الرياض، وبالتالي فإن التصعيد
المتواصل من قبل حكومة عباس يعني توسيعاً لشقة الخلاف
بين الرياض والقاهرة، وأن بياناً سعودياً كالذي وفّر غطاءً
سياسياً للدولة العبرية لشن حربها على لبنان لن يصدر ما
لم (يغامر) بندرٌ آخر ببيان طائش.
|