آلاف المقاتلين عبروا الحدود تحت سمع رجل الأمن الأول
وبصره
رجل الأمن والدعوة وشفافية الخوف على الكيان
خالد شبكشي
حافظ الأمير نايف، وزير الداخلية والقطب القوي في الجناح
السديري، على خط سيره التقليدي في معارضة أي خطوات إصلاحية
تؤسس لأوضاع داخلية جديدة. بدأت بتسديد ضربة قاصمة لمكانة
الملك عبد الله وللتيار الإصلاحي في السادس عشر من مارس
2004 إثر اعتقال مجموعة من الإصلاحيين والذي مهّد لمرحلة
نكوص تمثّلت في سلسلة تدابير أمنية ترجمت في أولى تطبيقاتها
بانكماش حاد لهامش حرية التعبير في الصحافة، وإغلاق عدد
كبير من المنتديات والصالونات الثقافية الأهلية، وحملة
تهويل واسعة ضد الإصلاحيين..كلها تدابير أسبغت على الأمير
نايف صفة الحارس الأمين على تقاليد الحكم الملكي المطلق.
ومجدداً يؤكّد الأمير نايف بأنه وفيٌّ لموقفه التقليدي،
الذي بشّرنا ذات مقال لجاسر الجاسر في موقع (إيلاف) الالكتروني
قبل نحو ثلاثة أعوام بأن وزارة الداخلية تقود التغيير
في المملكة، فقد أفصح الأمير عن مواقف لا تقبل الجدل في
موضوعات الساعة: حقوق المرأة، سلطة المؤسسة الدينية، حرية
الصحافة، الانتخابات، المنتديات الثقافية. وكلها موضوعات
التزم حيالها الأمير نايف موقفاً سلبياً للغاية، فهو ضد
قيادة المرأة للسيارة دع عنك مشاركتها في العملية السياسية
(التي مازالت محتكرة ذكورياً وعائلياً وفردياً)، وهو مع
دعم المؤسسة الدينية وذراعها الإجتماعي هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، الجهاز المدلل لدى الأمير نايف والذي
يدافع عنه بلا حدود، وضد حرية الصحافة (نشير الى التعميم
الذي وصل الى الصحف المحلية يونيو الماضي بلزوم الكف عن
توجيه انتقادات لرجال الهيئة)، أما المنتديات الثقافية
فقد صدرت أوامر صارمة من أجهزة الأمن التابعة لوزارة الداخلية
بإغلاق مايربو عن 100 منتدى ثقافي في مناطق مختلفة من
المملكة، فيما تم إجبار عدد من القائمين على المنتديات
على توقيع تعهّدات بعدم مزاولة نشاطات ثقافية حتى صدور
تعليمات بهذا الصدد.
في التفاصيل، خرج الأمير نايف في الثاني من يوليو،
ليبدد ما اختمر في الذاكرة الإصلاحية القريبة بأن لا انتخابات
برلمانية قريبة. فقد سخر الأمير نفسه من انتخابات نصف
أعضاء المجالس البلدية، واعتبرها مجرد هراء وليست بشيء
يستحق الوقوف عنده، فلم تكن أكثر من قفزة بهلوانية في
الهواء. فهو يعبّر عن صميم عقيدة موروثة يراهن على استمرارها
مادام حيّاً وما أسعفته القدرة، فهو نموذج لرجل الأسرة
الحاكمة الوفي لأعرافها، والذي يرى من واجبه الدفاع عن
كيان يعتقد وأفراد أسرته بأنهم صنعوه بمحض قوتهم الخارقة.
فهو يرى بأن أي تغيير في بنية السلطة بما ينطوي على توسيع
دائرة الشراكة في العملية السياسية وصناعة القرار يعني
من وجهة نظره تنازلاً عن حق خاص. وطالما أن الأمر كذلك،
فهو يتمسك تعنّتاً وعناداً بمواقف يرى فيها تكليفات عائلية
ضرورية من أجل تسوير الحق ـ الملك.
يصدر الأمير نايف، كما بقية الأمراء، عن رؤية غائرة
في القدم يعبّر عنها بالحق التاريخي أو الإلهي، ما يحول
دون القبول بمبدأ تقاسم السلطة. من المتوقع، في هذه الحال،
أن يستبعد إجراء إنتخابات مباشرة لأعضاء مجلس الشورى،
وهو تصريح علني يأتي بعد أيام من إشارات أطلقها الملك
عبد الله تفتح الباب على إحتمال الوصول الى هذا الخيار
في يوم ما.
الأمير نايف يرى بأن الملكية المطلقة ليست مجرد نظام
حكم بل هي قيمة عائلية مقدّسة، وهي رؤية تلقي الضوء على
كثير من مواقف الأمراء، وهنا أيضاً تتكشف المناكفة العنيدة
ضد رغبة الاصلاحيين في الانتخابات البرلمانية أسوة بدول
الخليج الأخرى.
فهو حين يذهب الى مجلس الشورى، ويلتقى بأعضائه المختارين
بعناية يعتبر مجرد اللقاء أمراً هاماً، فكيف يصل هؤلاء
الى المجلس هو الأهم في نظر الأمير، وهنا يسلّط الضوء
على القضية الافتراقية أي في الوسيلة التي يصل فيها الأعضاء
الى المجس، فبين أن يختارهم الشعب أو يتم تعيينهم من قبل
الملك وقلة من الأمراء الكبار، بمن فيهم الأمير نايف ترتسم
حدود العلاقة بين الدولة والمجتمع.
المدافع الأول عن الوهابية وعنفها
|
في حديث وزير الداخلية لأعضاء مجلس الشورى ما يلفت
الى أنه يتحدث عن الوضع الأمني الداخلي في ضوء التهديد
للنظام السياسي، فهو لا يفرّق بين مطالب سلمية بالإصلاح
السياسي وتفجير انتحاري ضد منشآت عامة مدنية أم عسكرية.
يقول الأمير بأن المملكة ألقت القبض على ثلاثة آلاف عنصر
من الجماعات المسلّحة، على علاقة بعملية قامت بها شبكة
القاعدة العام 2003 لاسقاط العائلة المالكة. ويقول أيضاً
بأنه منذ العام 2006 تم الكشف عن مخططين على الأقل لضرب
منشئات نفطية رئيسية في المملكة. كما كشف عن إنشاء قوة
مؤلفة من 35 ألف عنصر لحماية المنشئات النفطية والصناعية.
إجراء يندرج في سياق التدبير الأمني الذي يجري توظيفه
في كل تطوّر داخلي بصرف النظر عن طبيعته.
إذاً، فإن وصفه بـ (رجل الأمن الأول) صحيح كونه يعبّر
عن توجّه أحادي لدى الأمير نايف في مقاربته لمشكلات ذات
مظهر أمني ولكن بمحتويات متعددة: إقتصادية، سياسية، إجتماعية،
فكرية. وبالرغم من أن الأمير بدا كما لو أنه تخلى عن نهج
إختزالي يكبسل المشكلة في بعدها الأمني المحض، إلا أن
ذلك لم يترجم في تدابير غير أمنية. فقد عثر الأمير على
مفتاح الحل ولكن لم يستعمله، حين قارن بين نهج الخوارج
في عهد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ونهج الجماعات
السلفية الجهادية المعاصرة، ولكن المقارنة محقونة بهاجس
الخروج على الدولة ليس إلا وليس على النهج التكفيري الذي
إعتمدته حركتا الخوارج القدامى والجدد.
في لقائه مع جمع غفير من الدعاة ورجال الدين السلفيين
في التاسع عشر من يونيو الماضي، يستدعي الأمير نايف صورة
تاريخية لا تخلو من إنتقائية حين ذكّر بالخوارج كحركة
إعتراضية على الدولة القائمة، منبّهاً الى تعاظم خطر نظرائهم
الحاليين بقوله (نحن نواجه الآن أكثر وأكثر.. والمؤلم
لنا جميعاً أن هؤلاء هم أبناؤنا ضُللوا فضلوا.. ونحن نعايش
واقعاً لا مجال للظن فيه بأي حال من الأحوال.. هل تقبلون
أيها الإخوة أن يكون في مجتمعكم أناس يكفرونكم ويكفرون
دولتكم ويكفرون ولاة أمركم؟).
وكان واضحاً تشديده على تكفير الدولة ورجالها، ولكن
ما يغفل عنه أن التكفير ليس هوية جماعة محددة، بل هو نهج
طغى وتحوّل الى أداة توليد الدولة وضامن وحدة السلطة،
وهناك من يستمع الى خطاب الأمير نفسه ويتبنى النهج ذاته،
وإن لم يشهر سلاحاً يترجم به نهجه التكفيري، بل إن مناهج
التعليم كانت منسوجة بفكرة تكفير المجتمعات والمذاهب،
كما عبّر عنها بوحاً كتاب (التوحيد) للشيخ صالح الفوزان،
قبل أن يصدر قرار بسحبه من التداول المدرسي في منتصف التسعينيات،
وهو الشيخ الذي تدور حوله حالياً شبهة تكفير شريحة من
المجتمع تحت مسمى (الليبراليين) فيما لا تزال فتاوى التكفير،
وكتب التكفير، ومنشورات التكفير، وخطب التكفير، وحصص التكفير،
تموج بين أهل الدعوة السلفية. فما عساه يقول عنها، وهي
المسؤولة عن تخريج شباب يرى في قتل الجار أقرب القربات
الى الله، وهي أفضل عنده من قتال اليهودي والنصراني، بالرغم
من ألا فضل في قتل من لا يظاهر العداء ولم يخرج من الديار،
بل أمر ربنا بالبر والقسط لهم.
وما عساه يقول في أن من يُرجى منهم النصح للشباب الضال
المضلل أنهم أنفسهم يجهرون دون وعي بتكفير الآخر، وإن
بعضاً ممن تخرجوا على أيدي (لجنة المناصحة) شهروا السلاح
مجدداً وبعنفوان غير مسبوق في بقع أخرى، مثل العراق ولبنان،
فهل أصبح خطر التكفير مقتصراً على الدولة فحسب، فإذا أهلك
الحرث والنسل في الخارج يكون مباحاً وربما محموداً.
آلاف المقاتلين السلفيين عبروا الحدود تحت سمع رجل
الأمن الأول وبصره، ولم يرف له جفن، ولسان حاله يقول اللهم
حوالينا ولا علينا، وليكفونا شرهم، ليشيعوا الخراب ويسفكوا
الدماء لأن من خالطهم خبل عقدي قد أوعزوا إليهم إنما يأتون
على ديار ملئت كفراً، ونصبت على ترابها الاصنام والأزلام
التي تعبد من دون الله، فجعلت لكم دار حرب، تغمسون سيوفكم
في دمائهم، وتستحلون نساءهم، وتحتلون ديارهم.
أليس هؤلاء ثمار فاسدة سقطت من غصن تدلى خارج الحدود
من شجرة الدعوة السلفية التكفيرية، فهل نعيب ثمارها ونهمل
الشجرة التي أنتجتها.
ونسأل وإياكم من أين تعلم هؤلاء قتل الأبرياء، لو لم
يكن في منهج الدعوة السلفية ما يجيزه، باعتبارهم مدرجين
في خانة الكافرين أو أعوانهم، ومن أوحى إلى قراصنة المقاومة
العراقية أن أبنائنا الذين يذهبون الى العراق يستعملونهم
للتفجير فقط وهم الذين يفجرون. وعلى حد قوله: (السعوديون
يؤتى بهم من أجل أن يفجروا. إما أن يربط نفسه بحزام ويفجره
في مكان عام أو يقود سيارة ويقتحم بها مكاناً ويفجرها.
من الذي يموت. هل يموت مسؤولون؟ هل يموت جنود من أي جهة
كانت؟ لا، الذين يموتون أبرياء سواء أكانوا رجالاً أو
نساء أو أطفالاً. هل ترضون لأبنائكم أن يكونوا أدوات قتل؟
هذا هو الواقع ثم من يسلم منهم من القتل يعود الينا بأفكار
ضالة. ضالاً مضللاً ويحاول أن يطبقها في مجتمعنا). جميل
هذا الإقرار المتأخر، وجميل أيضاً أن يأتي على لسان من
أسمعه القاصي والداني حقيقة أن الخيار الأمني وحده ليس
الحل، وأجمل منه أن يوجّه خطابه الى المسؤولين عن نشر
الفكر الضال، ومنهم من إستمع إلى خطاب المسؤول عن الأمن.
تصوّروا أن بلداً يصدر منه ما يربو عن خمسين ألف خطبة
دعوية أسبوعياً كيف يكون حال شبابه الذين يستعمون الى
خطب تدعو بالثبور وعظائم الأمور على أهل هذا الزمان، وتبشّر
بويلات جسام تصيب من نكص على عقبيه في ساحة الجهاد ومحاربة
أهل الكفر والضلال.
ربما تكون من المرات النادرة التي يتحدث فيها الأمير
نايف بهذه الصراحة أمام جمع يعتبره الحليف الإستراتيجي
له وللدولة معاً، وهو جمع يبادله الإحساس ذاته، فهو ظهير
قوي للمؤسسة الدينية بكل إشتقاقاتها. إلا أن ما يلزم الإشارة
إليه أن هذا الحديث المفتوح ليس معزولاً عن تطوّرات بالغة
الخطورة أملت هذا النوع من المباشرة والشفافية، فرسل الموت
في العراق ولبنان وأفغانستان قد قلّصوا هامش المناورة
والهروب من المسؤولية، وقد حذّر مسؤولون عراقيون ولبنانيون
وأوروبيون بأن المتدافعين نحو حفلات الموت يحملون أثقالاً
من فكر سلفي تكفيري جاءوا به من منشأه الأصلي، أي نجد،
وأن رحلة العودة الى الديار قد أزفت، وهم عازمون على فتح
أبواب الجحيم على أهلها حكاماً ومحكومين. ولذلك كان ضرورياً
أن يخاطب الأمير نايف الدعاة وحملة الفكر التكفيري بقدر
من الشفافية والمباشرة كيما لا يتحوّل المجتمع الدعوي
الى حاضنة للعائدين والمشرعنين لمشاريع جهادية محلية قد
تشعل البلاد حروباً وغزوات لا قبل لدولة هشّة بها.
فهو من منطلق الخوف على الكيان، والحق التاريخي يخاطب
قوماً طالما أطلقت أيديهم وألسنتهم للنيل من خصومهم في
الداخل والخارج، ولكنه يقف كما والده عبد العزيز حين كفّ
أيدي الأخوان بعد أن أنهى مهمته المرسومة بإقامة الدولة،
فهو يحذّرهم اليوم مما استحثهم عليه بالأمس بأن يبدلوا
وجهة سلاحهم الفكري الى حيث تكون مصلحة الكيان، فقد بات
التكفير خطراً على الدولة بعد أن كان مصدر توحيدها.
|