صفقة (السلام) بين لندن والرياض
إعصار المصلحة يقتلع التحقيق في الفساد
بريطانيا والسعودية توقعان صفقة أسلحة بقيمة أربعين
مليار دولار
عبد الوهاب فقي
أقل من كونها مصلحة قومية بريطانية، وأكثر من كونها
تسوية تجارية نزيهة، فهي صفقة تأتي في ظل جدل متصاعد حول
مصير الرشاوى التي تلقّاها الأمير سلطان بن عبد العزيز
وأبناؤه وأفراد حاشيته من الجانب السعودي، وآخرها رشوة
الملياري دولار التي حصل عليها الأمير بندر بن سلطان،
الى جانب ما حصده من رشاوى عدد من المسؤولين البريطانيين
في حكومة مارجريت ثاتشر وما بعدها. صفقة جديدة بقيمة ما
يربو عن أربعين مليار دولار بين الرياض ولندن تتم في غمرة
الضغوطات المتزايدة من أجل إستئناف التحقيق في قضايا الفساد
المتعلقة بصفقة القرن (اليمامة).
نهب ملياري دولار في صفقة واحدة
|
أسئلة كثيرة تثيرها الصفقة الجديدة. فمالذي حصل في
المفاوضات البريطانية السعودية، وما هي طبيعة الزيارات
التي تمّت في الشهرين الفائتين لمسؤولين في وزارة الدفاع
البريطانية وشركة بي أيه إي، وماهي الشروط التي وضعها
الأمراء، وكيف تم إغلاق ملف الرشاوى بين الملك عبد الله
والأمير سلطان وأبنائه، ولماذا أصبح الملك عبد الله في
الواجهة هذه المرة بدلاً من الأمير سلطان، بطل صفقة اليمامة؟
لاشك أن الطرفين البريطاني والسعودي سعيا خلال الشهور
الفائتة من أجل البحث عن مخرج آمن في قضية الرشاوى التي
لو قدّر فتحها في بريطانيا ستكشف كثيراً من أسرار (اليمامة)
وستطيح برؤوس شخصيات كبيرة في بريطانيا، كما ستضع المسؤولين
السعوديين أمام المحاكم في أوروبا والولايات المتحدة،
إن عاجلاً أم آجلاً، وستحرمهم من امتيازات تمتّعوا بها
طيلة عقود سابقة.
التسوية التي أبرمها الطرفان البريطاني السعودي الشهر
الفائت لم تكن بالتأكيد نزيهة، وقد تطلّبت تنازلات متبادلة
من أجل إنقاذ صفقة فلكية أخرى، فقد طالب السعوديون نظراءهم
البريطانيين بأن لا تكون وثائق الصفقة تفصيلية، وألا تتضمن
أي إشارة للعمولات المقررة، وأن يتم العمل على وضع كل
الضمانات لحماية الجانب السعودي من أية إجراءات قانونية
معمول بها في بريطانيا منذ العام 2003، بما ذلك إغلاق
ملف التحقيقات في ملف (اليمامة) من قبل مكتب التحقيق في
الغش التجاري.
لم تكن مفاوضات سهلة، ولكن كانت هناك رغبة متبادلة
لوضع حد للضغوطات المنبعثة من وسائل الاعلام، والمؤسسات
التشريعية وجماعات الضغط في بريطانيا وكذلك منظمة مناهضة
الفساد التابعة للإتحاد الأوروبي، والتي تهدد بوضع الحكومة
البريطانية تحت الفحص القضائي فيما يرتبط بدعوى الفساد.
لاشك أن مأزقاً مشتركاً دفع بالطرفين البريطاني السعودي
للوصول الى تسوية، من أجل طي صفحة (اليمامة) والدخول في
صفقة فلكية جديدة.
وبطبيعة الحال، كان لا بد من تبديل الوجوه في هذه الصفقة،
فالأمر لم يعد يحتمل إرتكاب أخطاء أخرى قاتلة، خصوصاً
وأن الملك عبد الله بات مستعداً للدخول كشريك تسووي في
أية عملية يرى فيها فرصة لتعزيز موقعه في الداخل وتحالفه
في الخارج، إضافة الى ما قد يجنيه من صفقة مثّلت لفترة
طويلة قناة مالية متدفقة لغريمه الأمير سلطان الذي أثرى
بصورة فاحشة من صفقات التسلح.
أربعون مليار دولار، هي قيمة الصفقة الجديدة بين شركة
الدفاع البريطانية بي أيه إي والحكومة السعودية، وهي تعتبر
أكبر عملية تصدير في تاريخ بريطانيا، وتشتمل على تزويد
السعودية بطائرات حربية من طراز تايفون.
صحيفة التايمز اللندنية ذكرت في عددها الصادر في السابع
من سبتمبر بأنه بات معلوماً أن الحكومة البريطانية أرسلت
وثائق صفقة تايفون الى الملك عبد الله بن عبد العزيز قبل
يومين (أي في الخامس من سبتمبر). ويتوقع أن يقوم الملك
بتوقيع الصفقة في منتصف سبتمبر، لتسدل الستار على واحدة
من أكبر عمليات التصدير التي تتم من قبل المملكة المتحدة.
إكمال الصفقة سيمثّل إنفراجاً هائلاً بالنسبة لشركة
بي أيه إي، أكبر شركة لصناعة الأسلحة في أوروبا، حيث أن
المفاوضات كانت تجري على مدار عام تحت وطأة المخاوف من
تحقيق مكتب التحقيق في الغش التجاري في عمولات الشركة
لمسؤولين سعوديين.
صفقة تايفون سيطلق عليها إسم (السلام) ويقول محللون
دفاعيون ستكون صفقة حيوية من أجل بناء روابط عسكرية وثيقة
مع السعودية.
وكان المسؤولون السعوديون قد هدّدوا العام الماضي بإلغاء
الصفقة في حال حقق مكتب التحقيق في الغش التجاري في مزاعم
الفساد في الصفقة السابقة (اليمامة) لبيع السعودية طائرات
حربية من طراز تورنادو. كما أعطى المسؤولون السعوديون
تحذيراً بأنهم سيوقفوا التعاون بخصوص الأمن والإرهاب بصورة
كاملة إذا ما حاول مكتب التحقيق في الغش التجاري النفوذ
الى حسابات بنكية سويسرية تابعة للأمراء السعوديين.
إستجاب مكتب التحقيق في الغش التجاري، تحت ضغوطات الأمراء
السعوديين، وتم إيقاف التحقيق من قبل الحكومة البريطانية،
فيما بدأ وزراء بريطانيون كبار جولة زيارات الى الرياض
خلال الشهور الماضية لتأمين الصفقة الجديدة وإتمامها.
ومن المتوقع أن يتم تقسيم الصفقة على النحو التالي:
عشرة مليارات دولار لتزويد السعودية بطائرات تايفون، وعشرة
مليارات أخرى لانفاقها على الذخائر والمعدات العسكرية
وأنظمة التسلّح، والعشرين مليار دولار الباقية ستأتي من
خلال الصيانة الدائمة للطائرات.
وتقوم بي أيه إي حالياً بإعداد عملية كبيرة في السعودية
للتحضير لاستقبال طواقم التايفون وتوظّف لذلك 4.600 شخصاً
هناك. ومن المحتمل أن يتم تجهيز أول 24 طائرة تايفون في
معمل بي أيه إي في وارتون، بمنطقة لانكاشير، أما بقية
الطائرات فسيتم تجميعها في السعودية.
أسلحة بريطانية وفضائح مستمرة
|
ويشير إتمام المفاوضات المتعلّقة بالصفقة الى أن السعوديين
قد وضعوا جانباً قلقهم حيال دور مكتب التحقيق في الغش
التجاري. وعلى أية حال، ليس متوقعاً أن يقوم السعوديون
بإجراء إعلان رسمي عن إتمام صفقة (السلام)، جزئياً بسبب
قلقهم من أن دعاوى الفساد السابقة ستطفو على السطح مجدداً
في حال الإعلان عن ذلك.
وكان في المخطط أن يقوم الملك عبد الله بتوقيع الصفقة
في لندن خلال زيارته في أوكتوبر القادم التي تم إلغاؤها.
إن التعاون المستجد بين المملكة المتحدة والسعودية
قد يفضي الى صفقة أكبر أخرى تفوز فيها شركة بي أيه إي
طالما أن الطرفين نجحا حتى الآن على الأقل في التغلّب
على عقبة كبرى كادت تقوّض العلاقات الدبلوماسية بين الرياض
ولندن. ولكن السعوديين يدركون أن لا خيار أمامهم سوى العودة
الى شركائهم البريطانيين الذين خبروهم في صفقات سابقة
في مجال تمرير العمولات بصورة سهلة، بخلاف الأطراف الأوروبية
والأميركية التي تخضع لقوانين صارمة في مجال الصفقات التجارية
مع أطراف خارجية، وكذلك قلة التجارب بين المسؤولين السعوديين
والأوروبيين في مجال العمولات المرتبطة بصفقات التسلّح.
وبحسب مصادر صحيفة التايمز فإن مسؤولين سعوديين تمت
دعوتهم على متن بارجة دايرنج، أول ست مدمّرات جديدة تم
بناؤها من قبل بي أيه إي لصالح البحرية السعودية. وسيرافق
السعوديون السفينة الحربية من أجل الإختبارات البحرية،
والتي تجري حالياً خارج الساحل الشمالي لمقاطعة اسكتلندا.
ويعتقد بأنهم يريدون شراء على الاقل مركبتين بقيمة 600
مليون جنيه (مليار ومائتي مليار دولار أميركي).
الجدير بالذكر أن روابط شركة بي أيه إي مع السعودية
تعود الى عام 1966، حين باعت بريطانيا طائرات البرق (لايتننج)
الى السعودية. وفي سنة 1984 وقّعت بريطانيا الصفقة البارزة
(اليمامة) لتزويد طائرات تورنادو ومعدّات عسكرية أخرى
للسعودية.
وتبقى اليمامة، طلب التصدير التجاري الأكبر الذي حازت
عليه بريطانيا والذي كان يقدّر بأكثر من 43 مليار جنيه
إسترليني (نحو 80 مليار دولار) ذهبت لصالح شركة بي أيه
إي. أما خليفتها، السلام، فيتوقع أن تستمر لأكثر من عشرين
سنة، حيث تضطلع بي أيه إي بمهمة صيانة وتطوير طائرات التايفون.
وكانت تأمل الحكومة البريطانية في وضع الترتيبات النهائية
لصفقة التايفون في يونيو الماضي، ولكن السعوديين دفعوا
موعد إستكمال الصفقة الى وقت لاحق لضمان مباركة رئيس الوزراء
البريطاني الجديد جوردون براون.
الناطق الرسمي بإسم شركة بي أيه إي قال (إنها مفاوضات
حكومة الى حكومة، وليس بمقدورنا الإدلاء بأي تعليق على
ذلك). أما وزارة الدفاع البريطانية فقدّمت إجابتها الاعتيادية
فيما يرتبط بصفقة التايفون، مكتفية بالقول أن (المفاوضات
مازالت مستمرة).
التعليقات الصادرة على صفقة التايفون بين بريطانيا
والسعودية كانت مثيرة، وهي تأتي في مناخ متلبّد، حيث كان
المراقبون والمنظمات الأهلية والصحافة البريطانية تنتظر
ما سيؤول إليه قرار مكتبة التحقيق في الغش التجاري الخطير
بعد أن تكشّفت معلومات خطيرة عن تحويلات مالية لحسابات
بنكية في الولايات المتحدة يملكها الأمير بندر بن سلطان.
يخشى كثيرون في بريطانيا أن تكون المصلحة القومية قد استعملت
ذريعة للخضوع تحت تأثير الضغوطات السعودية التي لم تكن
سوى تعريضاً ساخراً بالقيم الديمقراطية والليبرالية في
بريطانيا والغرب عموماً، حين اضطر المسؤولون الدفاعيون
في بريطانيا للبحث عن حيل قانونية تتلطى خلف مشاعر قومية
لإغلاق ملف بالغ الخطورة ويؤسس لواقع طالما حاربه دعاة
المحاسبة والشفافية وحكم القانون.
وإذا كان المرء ليعجب من سلاسة سير الصفقات العسكرية
بأحجامها الضخمة، فإنه يزداد عجباً من كيفية سير تلك الصفقات
مع طرف بات محاطاً باتهامات مشفوعة بوثائق تؤكّد انغماسه
في الفساد، وأن تأتي تلك الصفقات في هذا الظرف وفي مجتمع
متحضّر. ويسوق المراقبون مثال المسؤولين الرومانيين الذين
كانت تلاحقهم دائماً إتهامات بكونهم فاسدين، وأنهم لن
يحلموا في حياتهم أن يحصلوا على رشاوى بأحجام خيالية،
كما توقّع مكتب التحقيق في الغش التجاري ان يعطى للمسؤولين
السعوديين.
يسخر البعض في بريطانيا من صفقات كهذه، كونها تكشف
عن طبيعة الابتزازات المتواصلة التي تتعرض لها الأنظمة
الديمقراطية والليبرالية من أنظمة شمولية وديكتاتورية
تحظى غالباً بالرعاية لا لشيء سوى كونها باتت مصدر إشباع
لحاجات ومصالح الدول الكبرى. وقد حدا ذلك بأحدهم للقول
بأنه طالما أن البلدان الفقيرة والفقراء عموماً فحسب يجب
أن ينالوا العقاب دائماً، فإن فساد الأغنياء والدول الغنية
يجد من يبرره ويغطيّه بالمال الفاسد نفسه. بنفس الطريقة،
حين يتم أخذ أو منح كمية من المال القليل، فإن هناك من
يصرخ ويعتبر ذلك (رشوة)، ولكن حين تصل المبالغ الى أرقام
بأصفار ستة وما فوق، فإن الأمر يصبح مختلفاً، حيث ينظر
اليها بقدر كبير من الليونة والمدنية، ويطلق عليها (إستثماراً
من أجل تأمين ما هو خير لبلدنا). حتى قيل بتهكم إنه لمن
الوطنية بمكان أن يتم عرض رشوة على أساس شرط واحد فحسب:
أن تكون مواطناً في بلد مهم، أي بلد متقدّم.
هناك في المقابل من يخشى أن تتحول طائرات التايفون
الإثنتين والسبعين، الى أسلحة تقتل صانعيها، فقد تقع في
يوم ما في أيدي غير أمينة من وجهة النظر البريطانية والغربية
عموماً. ولذلك هناك من يأمل أن لا ترتد تلك الصفقة أعقابها
وتكبّد البريطانيين خسائرة فادحة، تطيح بمفهوم المصلحة
القومية.
|