رسالة إلى مواطن
الأمير طلال بن عبدالعزيز
(1381 هـ/ 1961م)
أخي المواطن:
كان عليّ أن أوجه إليك هذه الرسالة منذ سنوات، ولكني
آثرت التريث في أمرها؛ لأن محاولة حثيثة متتابعة كانت
تبذل من جانبنا لحمل المسئولين على التعاون في سبيل تقويم
نظام الحكم وإصلاح شأن البلاد. وبالرغم مما بذل في ذلك
من جهد ومثابرة، فإن هذه المحاولات قد باءت بالفشل، وتكشفت
حقيقة نوايا هؤلاء المسئولين، ومدى إصرارهم على تناسي
أصول ديننا الحنيف في الشورى والعدل، وتجاهل سنّة التطور،
ومخالفة منطق العصر في حكم الشعوب.
لذلك كان لا بدّ أن أمدّ إليك يدي لنعلنها معركة سافرة
ضد هذا الجمود والتخلف العنيد، معركة تتضافر لها جهود
المواطنين كافة، ويسهم فيها كل فرد بنصيبه وإمكاناته،
ويؤدي واجبه كاملاً نحو مستقبل وطنه وأمته.
لقد ثبت بالعقل والتجربة: أن أبقى النظم على مر الزمن
هي تلك التي توائم بين بيئتها الخاصة ومنطق العصر ومقتضيات
التطور، وأن أكثر الحكام استقراراً في حياتهم وأبقاهم
في قلوب مواطنيهم وفي بطون التاريخ، هم أولئك الذين استطاعوا
أن يربطوا أشخاصهم بنظام صالح خليق بالبقاء. وقد كان يمكن
ـ في الماضي ـ أن يطول ولو إلى حين عمر نظم لا تتوافر
لها هذه المقومات، أو حكم أفراد لم يربطوا أشخاصهم بنظام
صالح، ولكن المصير المحتوم ـ عاجلاً اليوم وآجلاً في القديم
ـ هو تلاشي تلك الصور من الحكم وزوال هذه الوجوه من الحكام.
ولعل من أهم أسباب الفارق الكبير بين الحاضر والماضي في
هذا الشأن هو أنه قد زالت تلك الحواجز التي كانت تعزل
أجزاء العالم بعضها عن بعض، فتداعت تباعاً بانتشار العلم
وبالمخترعات الحديثة وفي مقدمتها الصحافة والإذاعة والتلفزيون
وما إليها، وأصبح لا عاصم للحاكم من النقد مهما وسِّد
له من أسباب القوة والسلطان، وتجاوبت أصداء الحرية والعدل
والمساواة حتى أصبحت أنشودة العالم في كل مكان. ولم يعد
من المقبول في شيء أن يغمض الإنسان عينيه لينكر هذه الحقائق
الناصعة، أو يسد أذنيه ليسكت تلك الأصداء المدوية، بل
إن المجد والخلود لأولئك الحكام الذين يمسكون بحكمة زمام
الأمور لينتقلوا بمواطنيهم في رويّة وسلام من منطق الأمس
الغابر إلى منطق اليوم والغد الصاعد، وهم بذلك لا يحصلون
على براءة ذمتهم عن ماضي سني حكمهم الشخصي فحسب، بل يملكون
زمام المبادرة ويحسنون التعبير الهادئ الرصين عن آلام
الشعوب وآمالها، فَتُكْبِرُ الشعوب فيهم ذلك، وتحيطهم
بقلوبها، و تخصهم بثقتها وتأييدها. وهنا يتحقق الخلود
الأكيد لمن يحالفه التوفيق منهم في اختيار نظام الحكم
الصالح.
إننا نعيش عصر الحرية والعدل والمساواة، نعيش عصراً
لا مكان فيه لسيد يستبد ومسود يُستعبد وإنما الناس ـ كما
قال الرسول عليه الصلاة والسلام ـ سواسية كأسنان المشط،
لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى. ولم يعد مستساغاً ولا
مستطاعاً قيام الحكم واستقراره على غير أساس من الشورى
والعدل، مصداقاً لقوله تعالى (وشاورهم في الأمر) (سورة
آل عمران: 159)، (وأمرهم شورى بينهم) (سورة الشورى: 38)،
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (سورة النساء:
58). لقد انبثق نور هذه المعاني السامية في بلادنا، وحمل
الرسول الكريم لواءها في ربوعنا، سراجاً منيراً للناس
قاطبة، فما بالنا تخلفنا عن ركب الحكم الشوري، وجانبنا
مقومات العدل وضوابطه ومقتضياته، وأصبحت شورى الحكم الديمقراطي
تصور عندنا على أنها بدعة أو ضلالة. لقد حث نبينا على
التعلّم، فهجرنا العلم وأصبح للأمية في بلادنا رسوخ واستقرار،
والعالم يسير في مدارج المعرفة باضطراد حتى بلغ آماداً
بعيدة، ودخل عصر الفضاء. ولقد حث ديننا كذلك على البر
والتكافل الاجتماعي والزهد في عرض الدنيا، ولكنا باعدنا
الشقة بين الغني والفقير.. انغمس البعض منا في الترف وملاذ
الحياة، في حين نزل الأكثرون إلى أدنى مستويات العيش،
وذاقوا ذلّ الحاجة ومرارة الحرمان.
لقد منَّ الله على بلادنا بالخير، واختارها مهبطاً
للإشعاع الإلهي في العالم، وجعل أمتنا خير أمة أخرجت للناس،
كما منَّ علينا بمصادر الثروة الطبيعية الهائلة منابع
البترول الغنية، فبددنا كلتا الثروتين الروحية والمادية،
فلم نرع حرمات مركزنا الديني وتراثنا الروحي، ثم بددنا
ثروتنا المادية فلم نسخرها للخير العام، بل جعلناها وقفاً
على فئة مترفة من الناس، وحراماً على سواد الشعب إلا صدقة
وإحساناً تُلقى مصادفة واعتباطاً. لقد خالفنا في كل ذلك
أحكام ديننا الحنيف، ثم خالفنا شرعة حقوق الإنسان التي
أعلنتها الأمم المتحدة، ونحن من أعضائها، فظهرنا أمام
العالم وكأننا نعيش في القرون الغابرة، نحمل عقليتها البالية،
ونظمها البدائية غير المتطورة.
إن من يتأمل أوضاعنا يكاد يعتقد أننا شعب عقيم، وأن
أرضنا قد حكم عليها بأن تكون أرض التخلف والجهل، وإننا
لم نخلق لندلي بدلونا في حضارة أو معرفة أو تقدم، وأنه
مقضي علينا بالجمود في عالم دائم الحركة سريع التطور.
فهل نحن عاجزون حقاً عن مجاراة هذا العصر، وهل عقمت مواهبنا
وأجدبت طاقاتنا حتى أصبحنا لا نقدر على أن نفيد أو نستفيد
في ركب المدنية أو المعرفة؟
كلا يا أخي.. إن تاريخنا العظيم لشاهد حيّ على أن هذه
الأرض المباركة التي اختارها الله مهبطاً للوحي ومبعثاً
للنور والهداية، والتي نشرت مع الفتوح الإسلامية شرقاً
وغرباً، ألوية الشريعة السمحة والفلسفة الإسلامية، لن
يطفأ نورها أو تضيع رسالتها، ولكنها في حاجة ماسة إلى
صحوة فتية وعزيمة قوية، وهمة صادقة تتعرف موطن الداء فتعالجه،
وتتلمس أسباب الخلاص فتعمل جاهدة لها، وتضحي بكل غالٍ
في سبيلها.
إنه للنهوض ببلادنا من كبوتها وتخلفها، لا بد وأن يشعر
كل مواطن فيها بأن له في البلاد ما لسواه، وعليه نحو وطنه
ما على غيره، وإن له من الشخصية والكرامة ما يجعله يحس
بذاته متفاعلة مع شخصية الدولة، وبكرامته مرتبطة بكرامتها،
يسعد بخيرها، ويشقى بأي مكروه يصيبها. إنه لا شيء يعوق
تطورنا نحو الإصلاح السياسي والخير الاجتماعي أصعب مراساً
من تلك العقلية البدائية التي تتصور بقاءها رهناً ببقاء
الجهل والتبعية، وباستمرار الظلم والبطش، والحرمان.
كذلك فليس أدعى إلى تعويق التطور من تلك الحيرة الفكرية
التي يعانيها شبابنا، حتى لقد تشتت ميولهم يميناً وشمالاً،
وذهب بهم القلق الروحي كل مذهب، فتفرق شملهم وضعفت حميتهم
وتسرب اليأس إلى الكثيرين منهم وانصرفوا عن العمل والكفاح،
بالرغم من حبهم لوطنهم، ورغبتهم في خدمته، وإنما كان ذلك
كله لعدم وجود قيادة مخلصة ترسم معهم برنامجاً وطنياً
شاملاً وتنظم صفوفهم وتوحد جهودهم.
لقد جالت هذه المعاني في ذهني، وأنا أتأمل حال بلادنا
الحبيبة، وطال بي تأملها، حتى ملكت على نفسي، ونبض بها
قلبي، وملأت كل وجداني.. وكان لا بد وأن أجد متنفساً لهذه
الطاقة المتزايدة بين أرجاء فكري، وجنبات قلبي بصفتي مواطناً
مؤمناً بمستقبل بلده، وأمته. وبلغ بي السرور مبلغه عندما
تبينت أن هذه الأفكار والمشاعر ذاتها تملأ عقول وقلوب
نفر من إخوانك المواطنين من آل سعود وترددها قلوب أبناء
الشعب وتترقب اللحظة التي تستطيع الجهر بها والعمل لها.
فتذاكرنا الأمر في ضوء واقع الحال عندنا ومعترك التيارات
في عالمنا وتطور الأحداث من حولنا، وعلى مقربة من ديارنا،
وانتهى بنا المطاف إلى أن بيت الداء إنما يكمن في نظام
الحكم عندنا، وفي الأساليب العتيقة التي لا تزال تهيمن
على مجتمعنا، ومن ثم آمنا بأن علينا واجباً محتوماً نحو
وطننا العزيز، هو أن نعمل على وصل ما انقطع بيننا وبين
تراثنا الإسلامي في الشورى والعدل، وأن نفيد مما اهتدى
إليه الفكر الإنساني بصدد نظم الحكم في العصر الحديث.
ولتحقيق ذلك آثرنا السبل السلمية، وتخيرنا أقربها إلى
التفاهم مع السلطة الحاكمة.
وقد تبينا أن أول خطوة يجب اتخاذها في هذا السبيل هي
إعداد مشروع نظام أساسي لبلدنا، يرسي علاقة الحاكم بالمحكوم
على أساس من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، نتقدم به
عند إعداده إلى المسئولين، حتى إذا ما لاقى قبولاً لديهم،
كان ذلك نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ شعبنا. ولقد
تم إعداد هذا المشروع خلال عامي 1378 و1379هـ (1959 و1960م)
ثم تقدمنا به إلى المسئولين. وقد جاء ذكر هذا المشروع
في بيان الحكومة الذي أعلن باسم الملك سنة 1380هـ (1961م)
حيث قال: (.. إن تأليف هذه الوزارة ما هو إلا خطوة أولى،
تتبعها بإذن الله خطوات تحقق ما نصبو إليه من رفاهية شعبنا،
والأخذ بيده، والتعاون معه في إدارة الشئون العامة للبلاد
طبقاً لتعاليم ديننا وعملاً بتقاليدنا، وسنسعى لوضع نظام
أساسي يحدد اختصاصات الجماعات والأفراد، مبيناً حقوقهم
وواجباتهم، وذلك طبقاً لما نص عليه ديننا الحنيف وسنة
نبينا الكريم). ولقد قام نظام الحكم الذي تضمنه المشروع
المنوه عنه على عدة أصول كان الإسلام سبَّاقاً إلى تقريرها
ورفع لوائها، وهي:
1 - يعلو التنظيم الأساسي إرادة الحاكمين، وهو لا يكون
كذلك إلا إذا جعل أعلى مستوى منهم. ومنطق ذلك في الحياة
الديمقراطية هو أن يحترم الحكام جميعاً هذا النظام الأعلى.
وهذه هي الحكمة الأصلية في وجود النظم الأساسية في مختلف
الدول.
2 - إن نظاماً أساسياً يوضع لبلادنا مشرق الإسلام ومنارته،
لا بد أن يعتمد على أحكام هذا الدين الحنيف الذي لا يأبى
الإفادة من مستحدثات الفكر في نظام الحكم، بل يستحسن الأخذ
بكل ما فيه صلاح الأمة وتقدمها، ولذلك حرصنا على أن يجيئ
النظام الأساسي المتقرح نظاماً إسلامياً جوهراً وصياغة.
3 - وللعروبة مكانها في هذا النظام الأساسي، باعتبار
شعبنا جزءاً من الأمة العربية وبلادنا جزءاً من الوطن
العربي الكبير الذي يكافح من أجل تحرره ووحدته المحتومة.
4 - ولقد كان للإسلام فضل السبق في توكيد حقوق الفرد،
ولم يقف منها عند حد الحق السياسي في الحكم باسم الشورى،
وإنما جاوز ذلك إلى إقرار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية،
حتى غدا البِرُّ فيه شريعةً أكثر من ثلاثة عشر قرناً خلت
قبل أن يظهر في المجتمعات الأخرى مِنَّةً وعطاءً. ولذلك
حق للمذكرة الشارحة للنظام الأساسي أن تقول: إنه (يقيم
قواعد مجتمع صالح يعيش الجميع في ظله سواسية أحراراً،
ينعمون بالأمن والطمأنينة والتضافر الاجتماعي ويؤمنهم
من عوادي الخوف والعوز والجهل والمرض، بإقامة نظام اجتماعي
واقتصادي صالح، يحقق العدالة الاجتماعية ويتيح لكل مواطن
أن ينعم بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أسوة
بما ينعم به من حقوق سياسية، ويهيئ للمواطنين فرصاً متكافئة
في خيرات بلادهم. ونذكر على سبيل المثال ما تضمنه المشروع
من حقوق اجتماعية واقتصادية وكفالته للأسرة والتعليم،
والآداب والعلوم والفنون وللصحة العامة، وتكافؤ الفرص
والضمانات الاجتماعية وعنايته بتيسير مستوى لائق في المعيشة
للمواطنين، وضمانات الحرية والمساواة، وحق التقاضي، وحق
تكوين الجمعيات والنقابات.
5 - وأيضاً عُنِيَ النظامُ الأساسيُ بوضع الأحكام الخاصة
بالحقوق والواجبات العامة فحظر المصادرة العامة للأموال
وألا تكون عقوبة المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي. وكذلك
نص على أن حرية الفرد مصونة وأنه لا يجوز وقف أحد أو حبسه
أو تحديد إقامته إلا في حدود النظام. وإنه لا يجوز إسقاط
الجنسية أو سحبها إلا في حدود النظام، كما لا يجوز إبعاد
المواطن أو منعه من العودة إلى الوطن، وكذلك لا جريمة
ولا عقاب إلا بناء على حكم قضائي أو نص في النظام. وأيضاً
نص على أن كل إنسان بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة
تؤمن له فيها الضمانات الضرورية، للدفاع عن نفسه، مع حظر
إيذاء المتهم جثمانياً أو معنوياً وأن العقوبة شخصية،
ولا تزر وازرة وزر أخرى. وأكد النظام حرصه على حرمة المساكن،
فمنع دخولها بغير إذن أهلها، إلا في حدود الشريعة ووفقاً
للنظام.
6 - ولقد تبين بوضوح أن نظام الحكم لا يكمل بتنظيم
الحكومة المركزية في معزل عن نظام الحكم المحلي، ولذلك
أعددنا مشروع نظام للمقاطعات والبلديات.. وقد استدعى ذلك
إدخال بعض التعديلات على مشروع النظام الأساسي بخصوص تكوين
المجلس الوطني. فقد تبين أنه من الأفضل إذا ما أنشئت مجالس
مقاطعات منتخبة، أن تتولى هذه المجالس اختيار أعضاء المجلس
الوطني من بين أعضائها المنتخبين، حتى لا يفاجأ الشعب
في مطلع تجربته الديمقراطية بالعديد من الانتخابات على
مستويات مختلفة، كما لا يخفى أن الانتخابات بهذه الصورة
أكثر حفاظاً على سلامة الاختيار وجودته وأكفل للهدوء السياسي
ولمقتضيات ظروف البلاد الراهنة. وقد نص مشروع نظام المقاطعات
على أن تتولى عملية فحص الترشيحات واعتمادها قبل الانتخاب
هيئة من عشرة أعضاء يعينون بمرسوم لمدة أربع سنوات. وقد
وضعنا النص على هذه الهيئة رغبة منا في تيسير قبول المسئولين
فكرة الانتخاب الشعبي، وباعبتار هذا القيد إجراءً مؤقتاً
يزول بزوال دواعيه.
7 - ويقوم نظام الحكم في المشروع المقترح على أساس
المواءمة بين الأصول البرلمانية وواقع ظروف الحكم عندنا؛
فنص المشروع على حصر المسئولية والتبعة السياسية في رئيس
مجلس الوزراء والوزراء الممارسين للسلطة الفعلية. وقد
فصل المشروع أحكام هذه المسئولية على نحو يكفل تحقيق الاستقرار
الوزاري اللازم لحسن سير أداء الحكم. وهذا ما أملته الأوضاع
الراهنة في البلاد إلى أن يتطور وضع رئيس الدولة فيها،
تطوراً يدخل عليه من الطابع الشعبي ما يسمح بتعديل مهمته
وزيادة صلاحياته.
8 - وقد نص المشروع على أن يكون ثلث أعضاء المجلس الوطني
بالتعيين مستهدياً في ذلك بما درجت عليه دول عديدة من
تعيين بعض أعضاء المجلس الأعلى (كمجلس الشيوخ) ومستهدفاً
الاستعانة ببعض الكفايات التي قد لا تتحقق لها العضوية
بطريق الانتخاب. هذا بالإضافة إلى كون المرحلة التي يواجهها
المشروع، مرحلة انتقالية يمارس فيها الشعب لأول مرة الحكم
الديموقراطي النيابي.
9 - وسجل النظام بالتفصيل الكافي ضوابط العمل البرلماني
ومن ذلك أن عضو المجلس الوطني حر فيما يبديه من الآراء
والأفكار في المجلس أو لجانه في حدود هذا النظام الأساسي
ولائحة المجلس الداخلية، وإنه لا تجوز مؤاخذته عن ذلك.
وحرص النظام على إيجاد الضمانات اللازمة لعضو المجلس الوطني
فيما يبديه من آراء وأفكار، فمنع في غير حالة الجرم المشهود
أن تتخذ نحو العضو إجراءات التحقيق أو التفتيش أو القبض
أو الحبس أو أي إجراء جنائي آخر إلا بإذن المجلس، وأكد
كذلك أن عضو المجلس الوطني يمثل الصالح العام وحده، ومنعاً
من إساءة استعمال هذه الضمانة نص المشروع على جواز محاكمة
العضو من أجل ما يقع منه في المجلس ولجانه من القذف في
الدين أو الحياة العائلية أو الخاصة لأي شخص كان.
10- وقد عُنِيَ النظام الأساسي عناية خاصة بدعاماته؛
فنص على أن القضاة يحكمون بين الناس بالقسط، ويؤدون الأمانة
بوحي من ضمائرهم، وإنه لا سلطان عليهم في قضائهم. وأكد
كذلك على أن للقضاء استقلاله التام، كما منع أية سلطة
من التدخل في سير العدالة. وقد حرص النظام على منع الجمع
بين وظيفة القضاء وأية وظيفة أخرى، وأيضاً أكد النظام
الأساسي أنه لا يجوز منع أحد من مراجعة المحاكم، وألا
يجبر على مراجعة محكمة غير المختصة بقضيته.
إن هذا النظام الأساسي الذي أوجزت لك أسسه العامة،
كان كفيلاً بأن ينقل بلادنا إلى عهد جديد ملؤه الخير والرفاهية
لهذا الوطن العزيز الذي نعتز به، وبأنه سيأخذ بعون الله
مكانه الكريم بين شعوب الأرض قاطبة. على أننا في هذا النظام
الأساسي قد وضعنا صورة الحكم الملائمة في تقديرنا وقت
إعداده وتقديمه وهي صورة لا مندوحة من تطورها مع تطور
الأحداث المتعاقبة وتبعاً لتقدم الوعي السياسي والخبرة
الديمقراطية في البلاد.
لقد فشلت كل هذه المحاولات، إذ اصطدمت بإصرار المسئولين
على بقاء الأوضاع البالية واستمرار النظم البدائية القائمة.
ولقد تبين بوضوح أنهم عندما تظاهروا حيناً بتقبل فكرة
الإصلاح وأعلنوها على الملأ في بيان الحكومة، لم يكونوا
صادقين في قولهم، أو جادين في وعودهم، بل أرادوا مجرد
المراوغة وكسب الوقت. ولكي تحيط بتفاصيل النظام الأساسي،
ونظام المقاطعات المذكورين، وتلمس مدى ما فيهما من علاج
لمساوئ الأوضاع الراهنة في بلادنا: أرفق بهذه الرسالة
النص الكامل لكل من المشروعين.
لا أود أن أكتفي بالحديث عن النظام الأساسي للحكم وإنما
أريد أن أصارحك بطائفة من أفكاري وخواطري التي أؤمن أنها
تتجاوب مع أفكارك وخواطرك، أقدمها إليك؛ لعلك تضيف إليها
بتأملاتك وملاحظاتك جديداً ينير أمامنا السبيل ويمكننا
من تحقيق ما نرجوه من إصلاح لشئوننا ورفعة لأمتنا.
إني أرى ضرورة أخذ رأي الشعب في أي نظام للحكم يستحدث
عندنا، وذلك بعد عشر سنوات من تطبيقه؛ لأن أي نظام نأخذ
به لا بد أنه متأثر بالظروف السائدة عند وضعه وبما تستلزمه
مقتضيات الحفاظ على وحدة البلاد وسلامتها، كما يوجب هذه
المراجعة كون هذه المدة تمثل أول عهد البلاد بالحياة الديمقراطية،
فلا مندوحة من أن نفيد من النتائج التي تستخلص منها خلال
تلك المدة، وخاصة لما لا بد أن يصاحبها من تطور جذري في
الوعي السياسي والمستوى الاجتماعي والاقتصادي. وبذلك تتاح
الفرصة في أعقاب تلك الحقبة لإعادة النظر في نظام الحكم
وتطويره تطويراً يساير منطق الزمن ويجنب البلاد مخاطر
الهزات السياسية العنيفة. إن أعباء الحكم لم تعد من شأن
الحاكم وحده، بل أصبح من الضروري - خاصة بعد أن تضخمت
تلك الأعباء في الدولة الحديثة أن يشارك المواطنون في
توجيه الحكم ورقابته، وليس فقط في اختيار الحكام. ولا
يمكن أن تأخذ هذه الرقابة مكانها الصحيح دون كفالة الحريات
العامة، وفي مقدمتها الحرية الشخصية، وحرية الصحافة، وحرية
الاجتماع، وتكوين الجمعيات، والتنظيم النقابي والمهني،
وكفالة سرية المراسلات على اختلاف أنواعها. فبغير هذه
الحريات السياسية وما سبق ذكره من حقوق اقتصادية واجتماعية
وثقافية، تظل النظم الحرة حبراً على ورق، ويأخذ الحكم
الديمقراطي اسم الديمقراطية دون جوهرها؛ لذلك أؤمن بأن
علينا أن نبذل غاية الجهد لإرساء نظام الحكم على أساس
متين من الحقوق والحريات العامة ومن التوعية الوطنية والنضج
السياسي.
وكذلك فإن حرمة القانون رهن بمساواة الناس في كافة
أحكامه، فإذا امتاز أناس على آخرين في ذلك الشأن، فتغاضت
السلطات عن مخالفتهم للقانون مراعاة لجاههم أو خلافه في
حين أجبر من عداهم على التزام حكم القانون، كان في هذه
التفرقة ظلم لا ترضاه الشريعة ولا القانون. وقد جاء في
الحديث الشريف (إنما أهلك من كان قبلكم، إنهم كانوا إذا
سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي
نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
لقد ابتُليت بلادنا بفئة من المنافقين المتزلفين الذين
ابتغوا عرض الحياة الدنيا ثمناً بخساً لتحريف الكلم عن
مواضعه.. فلقد أفتوا بالطاعة المطلقة لولي الأمر تفسيراً
للآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم) (سورة النساء: 59). ونسوا أن
هذه الطاعة مشروطة في الإسلام بألا تكون في معصية، ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)،
كما قال: (لا طاعة في معصية) وقال أيضاً: (فإذا أمرتم
بمعصية فلا سمع ولا طاعة). فطاعة ولي الأمر مشروطة وليست
مطلقة، وهذا ما تضمنه كتاب الله وأكدته سنة نبيه والتزمه
السلف.. فأصبح هذا المفهوم الصحيح للطاعة ركناً ركيناً
- في تنظيم الإسلام - للعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
لقد تناسى هؤلاء، وتناسى الحكام الذين ارتضوا هذا الانحراف،
وشجعوا عليه واستغلوه، إن الله سبحانه وتعالى يقول: (قالوا
ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (الأحزاب:67)
ولقد قال الرسول الكريم للأعرابي الذي أخذ بهيبته وهو
يحدثه: (هوّن عليك، فلستُ بملِك ولا جبار وإنما أنا ابن
امرأة كانت تأكل القديد بمكة). ولست أدري كيف يريد أولئك
أن يسدلوا الستار على ما خلفه السلف من تقاليد وأصول رائعة
في هذا الشأن. فلقد رددت الأجيال كلمة أبي بكر الصديق
عقب مبايعته خليفة لرسول الله (أيها الناس، إني قد وليت
عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن
رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم
فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم). كما قال: (قد علمتم إنه
كان من عهد رسول الله إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر
من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم، وأن الله لن يجمعكم
على ضلالة، وإني أشير عليكم وإنما أنا رجل منكم، تنظرون
فيما أشرته عليكم وفيما أشرتم به، فتجمعون على أرشد ذلك،
فإن الله يوفقكم). كذلك قال عمر بن الخطاب: (من رأى منكم
فيَّ إعوجاجاً فليقوّمه). فأجاب رجل من عامة الشعب: (والله
لو رأينا فيك إعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا) فرد عمر قائلاً:
(الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم إعوجاج عمر بسيفه).
هذه هي حدود الطاعة التي تجب لولي الأمر: أما إن عصى
الله وظلم عباده وخالف شريعته، انقلب واجب الناس من الطاعة
إلى المقاومة، ووجبت مجابهته بكلمة الحق. فالحاكم في الإسلام
لا يستمد سلطته من تفويض إلهي وإنما يأخذ الولاية من الجماعة
بالمبايعة، ويعمل بالمشورة ويحكم بالعدل، وتبعة الانحراف
عن ذلك لا تقع على الحاكم وحده، بل يشاركه المواطنون المسئولية
مصداقاً لقوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا
منكم خاصة) (سورة الأنفال: 25).
ولقد جاء في الحديث الشريف (من رأى منكم منكراً فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك
أضعف الإيمان) كما قال عليه السلام: (من رأى سلطاناً جائراً
مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسوله،
يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل
ولا قول، فإن على الله أن يدخله مدخله). كما قال: (أفضل
الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
كذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن الناس إذا
رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده، أوشك أن يعمهم الله تعالى
بعقاب). إنها لجريمة في حق الإسلام كذلك، وتجن على ديننا
الحنيف، أن يعمل هؤلاء القوم على المباعدة بين ديننا وما
جاء به من أصول قويمة وتعاليم رائعة في تحديد علاقة الوالي
بالرعية وأن يجدوا من الحكام تشجيعاً على الانحراف في
فهم الدين وتعاليمه، وميلاً إلى استغلال هذا الانحراف
والاستزادة منه غير عابئين بما يرتكبونه في سبيل ذلك من
إظهار ديننا الحنيف، وكأنه دين الحكم الاستبدادي، والخضوع
المطلق، وهو من ذلك براء؛ فإنه دين البيعة والشورى والعدل.
كذلك يحاول هذا النفر من الناس أن يجعلوا الوراثة المطلقة
أساس الولاية العامة كتقليد من تقاليدنا، وذلك دون الاعتراف
للرعية بأي نصيب في اختيار الوالي، أو في رقابته طوال
مدة حكمه. يزعمون ذلك متجاهلين أن الإسلام إنما يقيم الولاية
على أساس البيعة، حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد
ترك أمر الخلافة للأمة من بعده، ومن هنا كانت البيعة أصيلة
في الإسلام، وهي ليست إلا صورة لما يسمى في العصر الحديث
الانتخاب أو الاستفتاء. أما الوراثة المطلقة التي تتم
في معزل تام عن الشعب فبدعة لا تستند إلى الدين، ولا تتفق
ومنطق العصر الحديث.
واعتقادي أن رئيس الدولة ـ ولو كان وارثاً ـ ينبغي
أن يستند إلى بيعة من الشعب.. أي أن يُستفتى الشعب في
أمره قبل توليه الحكم، حتى لا يلي أمر الناس إلا من يثقون
في صلاحيته. كما يجب أن ينظم أسلوب محكم لضمان إشراف الشعب
على الحاكم ومعاونيه بصفة مستمرة، وأن تصل هذه الرقابة
إلى حد تمكين الشعب من التخلص من الفساد والمفسدين، ولو
كانوا في أعلى مناصب الدولة ومناط السلطان. ويتحتم أن
توضع الضوابط الكفيلة بحسن قيام الأمة بهذا الدور الضروري
في الاختيار والرقابة، وبحيث يؤمن لها بصفة دورية تجديد
ثقتها بولي الأمر. إنني أوقن بالأهمية الخاصة للدور الذي
يقوم به رئيس الدولة في البلاد الحديثة أو المتخلفة، وبلادنا
في مسيس الحاجة إلى ذلك. ولكنني أريد أن يستند رئيس الدولة
في هذا إلى الإرادة الشعبية في المقام الأول ولو كان للوراثة
في توليته نصيب.
إن من أوجب واجباتنا: المبادرة إلى إقامة اقتصادنا
الوطني على أسس متينة وطيدة الأركان. واقتصادنا الراهن
ضعيف البنيان، واهن الأساس، حتى ليتهدد ذلك مجتمعنا وكياننا
ذاته بأخطار كبيرة، فمن جهة، يعجز هذا الاقتصاد عن توفير
مستوى مناسب من العيش للمواطنين، وآية ذلك انخفاض متوسط
دخل الفرد في بلادنا عنه في البلاد المتقدمة، بل إن ذلك
المتوسط لا بد وأن ينزل مستقبلاً عن هذا الحد، بسبب تزايد
عدد السكان وبقاء مجموع الدخل القومي جامداً لا ينمو بنفس
المعدل.
ويزيد في خطورة الأمر بالطبع أن يأتي الجزء الأكبر
من هذا الدخل من عائدات البترول، وهي مهما قيل في شأنها،
فإنها تتوقف على ظروف العرض والطلب الدوليين، مما لا سلطان
لنا عليه. وكذلك، فإن هذه العائدات عرضة للتوقف وقت الحرب،
كما إنها قابلة للتناقص، ومصيرها إلى النضوب يوما ما،
وليس في استطاعتنا أن نغفل هذه الحقيقة الواضحة بحجة أن
يوم نضوب البترول يوم بعيد، فإن من واجب الدول كي تحفظ
كيانها وتدعمه، ألا تكون قصيرة النظر، بل إن عليها أن
تتدبر أمر غدها، كما تهتم بيومها؛ إذ يجب أن يبني كل جيل
لمن يأتي بعده.
على أن الأمر لا يقف عند صغر حجم دخلنا القومي نسبياً،
بل يجاوزه إلى سوء توزيع هذا الدخل بين المواطنين، وهو
ما يعتبر وصمة كبيرة في نظامنا الاقتصادي.. فمن المعلوم
أن قلة ضئيلة تتمتع بجل ذلك الدخل، بينما تعاني أغلبية
الشعب: الفقر والحاجة.
ولا أظنك أيها المواطن تحسب أن الحياة الرغيدة التي
ينعم بها القليل من الناس على حسابك هي وقف على هذه القلة
بدعوى أن العناية الإلهية قد خصتهم بما كانوا يزعمون.
ويقولون إننا نعيش في ظل نظام اقتصادي حر يسمح للفرد بأن
يثري ما استطاع وبأن يفعل ما يشاء بكل حرية، ولكن الحرية
لا تعني أن يجوع الشعب ليستأثر نفر من الكسالى بكل خيراته..
ففي الدول الرأسمالية ذاتها نرى أن كثيراً من طلاب الثراء
يعملون بنشاط ودأب، أما في بلادنا، فإن معظم الأغنياء
لا يقومون بأعمال تتناسب وضخامة ثرواتهم؛ ذلك لأن نظامنا
عجيب غريب إلى درجة تبرأ منها الرأسمالية ذاتها. والإسلام
لا يرتضي هذا النوع من الغنى، بل يحث على الكسب على أساس
من العمل، كما يقر مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، تاركاً
للأفراد مجال التنافس على صعيد الإيمان والعلم والعمل.
وثمة مبادئ تبدو اليوم تقدمية حديثة، فإذا رجعنا إلى الإسلام
وجدناها تدخل في صميم أصوله وأحكامه.
إن مبدأ تكافؤ الفرص قد بات اليوم أساساً لعدالة التوزيع
في الدول المتطورة، فما بالنا ننسى ذلك المبدأ، فندع الغني
يزداد غنى والفقير يزداد فقراً، ونحن الذين عرفت أمتنا
وبلادنا حقيقة العدالة في التوزيع قبل غيرها من الأمم.
إن تحقيق هذه العدالة وتكافؤ الفرص في المجالات المختلفة
هو الكفيل بالإفادة من جميع الطاقات البشرية الكامنة في
الأمنة، كما أنه الضمان اللازم لتطور مجتمعنا تطوراً سليماً
وعدم تعرضه لهزات اجتماعية لا يدرك مداها، بل إن عدالة
التوزيع هذه ضرورية لنمائنا الاقتصادي ذاته، فهي التي
تسمح بتوافر القوة الشرائية في يد المحرومين منها فيتمكنون
بذلك من استيعاب جانب من إنتاجنا القومي عند ازدهاره فتتسع
بذلك أسواقنا الداخلية، ويزداد اعتمادنا على أنفسنا. كما
أن في عدالة التوزيع ما يمكن بمرور الزمن من زيادة حجم
المدخرات والاستثمارات في بلادنا، ويؤدي ذلك أيضاً إلى
ذات النتيجة السابقة، وهي نمو الإنتاج والاقتصاد الوطني
في مجموعه. إن الأمر يستلزم علاج هذه الحالة الاقتصادية
السيئة حتى ننقذ البلاد من هاوية التخلف الاقتصادي والاجتماعي
التي تردت فيها، ونضمن لكل مواطن نصيبه العادل في ثروتنا
ودخلنا القوميين.
|