نزعتها الطائفية شرعنت الحرب الأهلية الطائفية
السعودية وتقسيم العراق
خالد شبكشي
لا تريد السعودية ولا أيّة دولة مجاورة تقسيم العراق.
هذا أمرٌ واضحٌ لا علاقة له بالحسابات الأيديولوجية
فحسب، بل بشكل أكبر بالحسابات البراغماتية ومصالح الدول
المجاورة، وتأثير عملية تقسيم العراق على كل المنطقة،
خاصة دول الجوار.
في العراق نفسه، لا أحد من العراقيين، ولا من قواه
السياسية يريد تقسيم وطنهم العراق، ولعلّ ردّة الفعل الأولى
والمباشرة لتلك القوى على اقتراح الكونغرس الأميركي بشأن
الفيدراليات الثلاث، تؤكد هذا.
نستثني من ذلك بالطبع الموقف الكردي، فالأكراد في الأصل
مع الإنفصال، مع تأسيس دولة قومية لهم. لكنهم ـ وبسبب
عدم نضوج الساحة الإقليمية للطرح التقسيمي الذي يتبنونه
ـ فإنهم قد قبلوا بما هو أدنى من ذلك وفق قاعدة (عراق
فيدرالي) بحيث يتمتع الأكراد لا (بحكم ذاتي) في كردستان
العراق، سبق لهم أن وقعوا اتفاقية مع صدام حسين بشأنه،
بل بشيء قريب منه، وهو ما يجري على أرض الواقع. لكن الأكراد،
فيما لو تطور الوضع الإقليمي لصالح فكرة التقسيم فإنهم
لن يمانعوا من حدوثه بل سيكونوا أكثر المرحبين به.
لكن القبول الإقليمي بالذات متعذّر في الوقت الحالي،
حيث المعارضة شديدة من قبل العراقيين أنفسهم، ومن قبل
تركيا وسوريا وإيران والسعودية، فموقف هذه الدول هو المانع
الأساس لقيام دولة كردستان.
المهم هنا، وهو ما نريد التأكيد عليه، هو أن النزعة
الوطنية العراقية (القطرية كما يسميها البعض) قويّة لدى
العراقيين، وهي المانع الأساس لاندفاع مشروع التقسيم.
نقول هذا بعيداً عن المهاترات الطائفية، فلا الشيعة ولا
السنّة العراقيون يريدون تقسيم العراق، أي أن الجسد (العربي)
العراقي رغم تنازع أجزائه الداخلية الى حدّ استحلالها
للدم في حرب طائفية عبثيّة، إلا أن تلك الأجزاء والمكونات
للنسيج العراقي لاتزال ممانعة للتقسيم، وترفضه، وترى أنه
(آخر خط أحمر) لا يجوز تجاوزه.
ربما تتغيّر هذه الصورة لصالح تقسيم العراق، في حال
وقعت كوارث أخرى في المنطقة، قد يترتب عليها إعادة صياغة
العراق وصياغة خارطة المنطقة بشكل كامل. ولا يبدو أن المنطقة
مقبلة بالضرورة على شيء من هذا، اللهم إلا احتمالية نشوب
حرب أميركية/ إيرانية. في مثل تلك الحالة، لا أحد بإمكانه
أن يتوقع الصورة التي سيكون عليها الشرق الأوسط، ولا أحد
بإمكانه منع النيران من الإنتشار الى دول عديدة وفي مقدمتها
دول الخليج. فضلاً عن أن ساحة الحرب ـ فيما لو وقعت ـ
فسيكون العراق أحد أهم ميادينها الرئيسية، وبالتالي ما
يعتبر محرّماً اليوم (التقسيم) قد يصبح حلالاً من قبل
المتصارعين.
أما السعودية، ورغم أنها ضد تقسيم العراق، إلا أن سياساتها
تجاه العراق، تعد مساهماً بارزاً في حدوث التقسيم.
كيف؟
السعودية حساسة تجاه تقسيم العراق، وقد عبرت عن ذلك
حتى قبل سقوط نظام صدام حسين. فهي مثلاً لم تكن على علاقة
طيبة مع الأكراد، بالرغم من أنهم (سنّة) وبالرغم من أنهم
(ضحايا) لمجازر مهولة لم يشهد مثلها تاريخ المنطقة أبداً.
ولعل سبب برود علاقة السعودية مع الأكراد هي وجود تلك
النزعة الإنفصالية، مع أن السعودية وشاه إيران كانا داعمين
أساسيين لحركة التمرد التي قام بها الملا مصطفى البرازني،
ولم يتوقف الدعم السعودي الإيراني الشاهنشاهي إلا بعد
توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975 بين الشاه وصدام حسين،
الأمر الذي اعتبر طعناً في الظهر للحركة الكردية.
لكن السعودية المهووسة بخوفها من تقسيم العراق، تغلّب
عليها هوسٌ (طائفي) أكبر، الأمر الذي شجّعها على اتخاذ
مواقف ساهمت بشكل أساس في الحرب الأهلية العراقية اليوم.
السعودية لا تريد للشيعة العرب أن يحكموا العراق. هذا
ليس موقف السعوديين وحدهم، بل هو موقف مصر والأردن، بل
هو موقف النظام العربي عامة.
عبدالله: سننفق 100 مليار لإسقاط حكم بغداد
|
لا يهم هنا إن كان الشيعة في العراق أكثرية أم لا.
ولا يهم هنا إن كان شيعة العراق عرباً أم لا.. فالهوية
الطائفية لأكبر مكون سكاني في العراق اعتبرتها السعودية
عدواً، دون وجود مبرر واضح، غير حقيقة أن السياسة الخارجية
السعودية بالتحديد تحركّها النوازع الطائفية (العقدية)،
أكثر مما يحركها عامل المصلحة المادي.
ولهذا السبب بالتحديد، وبالرغم من أن الشيعة في العراق
لم يكونوا في يوم من الأيام دعاة للتقسيم، وأن أقصى حدّ
قالوا به هو الفيدرالية، وهو مشروع لا بأس به، في بلد
مثل العراق، وغرضه تحديداً القضاء على (مركزية الحكم)
التي عادة ما يتولد منها الإستبداد والإنقلابات العسكرية
وعنف الدولة الذي لا حدود لها. أي أن الفيدرالية بالنسبة
للشيعة العراقيين غرضها: منع عودة الإستبداد والإنقلابيين
وذلك عبر تخفيض قوة المركز. هذا الفهم يختلف عما هو لدى
الأكراد، الذين يرون في الفيدرالية حكماً ذاتياً وليس
خوفاً فقط من عودة نظام شبيه بالنظام الدموي السابق.
بالرغم من هذا، فإن السعوديين يقرأون العراق (طائفياً)
بعيداً عن الواقع، ويتصورون ـ واهمين ـ أن الشيعة هناك
يريدون التقسيم، أو حتى الإنضمام الى إيران!
السعوديون غلّبوا نزعتهم الطائفية، فانخرطوا في سياسة
إبعاد (مجاهديهم الوهابيين) من المملكة ليمارسوا الجهاد
في العراق. وأصدر مشايخ السعودية وجوب الجهاد في العراق،
والنفرة اليه لمعاونته، وأن تلك الدولة ينطبق عليها مفهوم
أرض الجهاد وليس المملكة التي لا يجوز التفجير والقتل
فيها. أي أنهم اعتبروا العراق ساحة جهاد (ضد الشيعة) و
(ضد الحكم الشيعي) خاصة وأن الجميع يعلم بأن من يخرج الى
العراق لا ينضوي ـ في الغالب ـ الى تنظيم غير تنظيم القاعدة.
لقد مول السعوديون المقاتلين بالمال، وزودوا الساحة العراقية
بالفكر التكفيري إضافة الى القنابل البشرية (حسب الإحصاءات
فإن 70% من التفجيرات الإنتحارية قام بها سعوديون).. بل
أن كل ما زرعته الوهابية من نفوذ في العالم تجمّع في العراق
بشراً وفكراً ومالاً ليخدم غاية واحدة: لا لحكم الأكثرية
الشيعي/ الكردي، سواء كان عبر الديمقراطية والإنتخاب،
أو عبر التوافق، أو حتى عبر الغلبة العسكرية على الأرض.
مدفوعة بتلك النوازع الطائفية، وبالمنافسة الإيرانية،
وبالنظر الى نفسها كدولة محامية عن السنّة، قام السعوديون
بتفجير حربهم الطائفية في العراق، فكانوا بحق داعمين للقاعدة
فيه (وإن كانوا أعداءها في أماكن أخرى)، وبالتالي شجعوا
الإنقسام المجتمعي الذي قد يقود ـ من الناحية النظرية
ـ الى تقسيم حقيقي للدولة العراقية. والى وقت قريب، كان
المشروع التقسيمي يشق طريقه بنجاح هناك، حيث (التهجير)
المتبادل للسكان، وحيث القتل على الهوية الطائفية، وحيث
وقوف النظام العربي بصلابة غير معهودة ضد الحكم الجديد
في العراق ومحاصرته سياسياً.
إن القطيعة السياسية بين الحكومة السعودية وبين ممثلي
الأغلبية (الأكراد الشيعة) عزّز مشاعر الإنقسام السياسي
والمجتمعي العراقي، ولم يكن المسؤولون السعوديون في أعلى
المستويات يخفون غايتهم، الى حدّ أن الملك عبدالله الذي
اجتمع بوفد عراقي قبل بضعة أشهر يضم في أكثره شيعة وأكراداً،
قال لهم بأن المملكة قد صرفت على حرب ايران والعراق 35
مليار دولاراً، وصرفت نحو 45 مليار دولاراً على حرب صدام
وإخراجه من الكويت، وهي مستعدة لأن تصرف مائة مليار دولاراً
أخرى لإسقاط الحكم الشيعي الحالي. وقد اعتبر الوفد العراقي
قول الملك صلافة غير معهودة في العلاقات بين الدول.
وتطبيقاً لمقولة الملك السعودي، وسياسة السعودية في
العراق، فإن رئيس الوزراء العراقي الأسبق أياد علاوي قد
أصبح (رجل السعودية الأول) وهناك أخبار تتحدث عن مئات
الملايين من الدولارات قد أعطيت له بغية إسقاط حكومة المالكي،
الذي حذّر هو الآخر ما أسماه بعض دول الجوار ـ والمقصود
السعودية ـ من سياساتها تلك. وأيضاً أفادت مصادر الحكومة
العراقية بأن تركي الفيصل الذي أعيد كمستشار للملك في
المجال الأمني، قد قام بباكورة أعماله في العراق في تمويل
عملية الزركة قرب النجف التي أودت بمئات القتلى، ويتردد
أن الوسيط كان أياد علاوي الذي منح زعيم الأحداث آنئذ
نحو خمسين مليون دولاراً، لم تصل كاملة بل انتهب منها
بعض الملايين قبل أن تصل الى مستقرّها!
إن سياسات السعودية في العراق هي التي جعلت معظم العراقيين
ينظرون اليها كعدو، فنددوا بفكرها التكفيري المصدّر اليها
والذي أفضى الى حرب طائفية والى تقاتل شيعي سني، ثم الى
تقاتل سنّي سنّي أيضاً. كما قام العراقيون بمظاهرات في
عواصم غربية ضد السعودية وقنابلها البشرية واموالها التي
تزيد الحرب الداخلية اشتعالاً.
لكن مؤدّى هذه السياسة السعودية قد يصل الى تشجيع التقسيم
من الناحية الفعلية، فحين تنغلق الأبواب السياسية، أي
أبواب الحل السياسي، وحين لا يتوقف إمداد الحرب الطائفية
بالمال والفكر والسياسة، فإن النتيجة النهائية قد توصل
المحبطين الى أن آخر الدواء (الإنفصال). وهذا لو حدث فسيكون
طامة على السعودية نفسها.
فالسعودية التي تريد عراقاً موحّداً ولكن بدون أن تحكمه
أكثريته، أو بدون أن تتوافق أقلياته وأكثريته على المحاصصة
في الحكم.. قد تجد نفسها في آخر المطاف والى جوار حدودها
دولة شيعية تمتد من البصرة الى بغداد، وهذا أسوأ ـ من
وجهة نظر السعودية ـ من وجود حكم توافقي في العراق يقف
على رأسه شخصية سياسية شيعية.
وعموماً فإن السعودية أمام خيارين: المضي في سياستها
العدائية وترحيل مشاكلها مع الوهابيين المتشددين الى العراق،
والنظر الى المشكلة العراقية من منظور المنافسة والصراع
مع ايران (تجاوباً مع الموقف الأميركي).. وهذا ما يشجع
على استمرار الوضع الطائفي العراقي المضطرب، ومن ثمّ وضع
خيار التقسيم موضع التطبيق، بما له من انعكاسات سلبية
على الواقع الديمغرافي في السعودية نفسها. أو تغيير سياستها
والقبول بالحلول الوسطى القائمة على توافق النخب العراقية
والقبول بالفيدرالية ونظام المحاصصة (حتى وإن كان صيته
سيئاً) وهذا يعني إلغاء الفيتو السعودي ضد الأكثرية السياسية
الشيعية/ الكردية في العراق.
|