دولـة (المملكة)
مثّلت حوادث الحادي عشر من سبتمبر خط قطيعة بين نموذجين
للدولة السعودية، فقد تفسّخ النموذج القديم على وقع إنهيار
الصورة النمطية لدولة محافظة عبّرت عن نفسها بطريقة خلاسية
طيلة عقود، نجحت خلالها في أن تعبر بأمان في منعرجات تحوّل
عميق في أنظمة القيم الكبرى للحضارات والدول.
النموذج الجديد للدولة ليس مقطوع الصلة بقديمها، فهو
يمثّل محاولة أخرى للعبور بعد أن خذلتها لياقتها السياسية
وعجزت الأيديولوجية الكسولة المشرعنة لوجودها في تزويدها
بطاقة تفسيرية للقادم من أيامها. من أجل ذلك، تبدو الدولة
حائرة بين مواصفاتها الجديدة وهويتها الموروثة، وللسبب
ذاته تصبح المجازفة بتصنيع دولة أخرى مشتقّة من داخل دولة
سابقة أمراً بالغ التعقيد.
للّذين تمسّكوا برهان الإمكان الوجودي للدولة بكامل
أوصافها القديمة تصبح الغاية ضمان مجرد البقاء، مهما تطلّبت
من حيل الإستقرار الوهمي، والثنائية العقيمة التي توحي
باعتناق المبدأ ونقيضه، من قبيل الانفتاح على الآخر أو
الإنغلاق المحكم على الذات.
إن إخفاء واقع الدولة ينتهي دائماً الى إنهاك شديدة
يتعرّض لها المجبولون على إطلاق هذايانات خاوية من أجل
رسم صورة وردية عن دولة لم تكتمل بناها الحديثة كيما تقترب
من خط إستواء الدول الحديثة. إن تجريد حملة علاقات عامة
في أرجاء العالم قد توهم بأن ثمة سطحاً زاهياً يعشي عيون
أولئك الذين يرمقون هذه البقعة بترقّب، ولكن هذه الحملة
تعكس في الوقت نفسه نضالاً دائماً لجهة تشويه الواقع الفعلي.
وعلى أية حال، ليس الأمر كذلك في الداخل، لدى الذين يعاكسون
الوهم المصنّع في الخارج، فقد مسّتهم الأضرار المباشرة
للدولة بنموذجيها القديم والحديث.
الدولة السعودية بنموذجها الجديد، أي ما بعد الحادي
عشر من سبتمبر، تحوّلت الى ورشة علاقات عامة تهدف بدرجة
أساسية الى إغراق الرأي العام الدولي بكتلة أوهام تكون
بمثابة مضادات حيوية أمام التشوّهات التي لحقت بصورتها
الحقيقية، وحيث تدخل الدولة في لعبة الخطأ والوهم فإنها
لا تعد تميّز بينهما، طالما أن المطلوب هو محق الحقيقة،
وإنبات الوهم، ولن تكف الدولة ممثلة في القائمين عليها
عن خداع الذات وتضليلها، فهي على يقين تام بأن الآخر يمارس
الدور عينه، فالخداع سمة أساسية في السياسة، بوصفها المجال
الحيوي والأنشط لبني البشر.
استعانت الدولة بالمال على قضاء حوائجها السياسية والإعلامية،
ونجحت نسبياً في تبريد السطح الملتهب، ولكنها لم تفلح
في أن تزيل بؤس الداخل، ليس المادي منه فحسب بل والمعنوي
والرمزي. وقد أخفى الحلفاء الخارجيون أسلحة الديمقراطية
بعد أن تغلّب منطق المصلحة على منطق الحق والقيم، ولكن
هو الحل الطارىء لأزمة معقّدة ومستديمة.
المعركة ضد الإرهاب والتطرف، كانت خياراً خطيراً للدولة
السعودية، وقد أجبرت على خوضها دفاعاً عن وجودها وهويتها،
ولكنها تدرك أن في ذلك يكمن حتفها، إذ تتطلب معركة كهذه
نبشاً لكل تراثها العقدي والسياسي المليء بكل أشكال التطرف
والاحترابية المصبوغة بالدم. ويزيد الطين بلة، حين تكون
معركة الدولة ضد الإرهاب جزءً من معركة دولية من شأنها
توليد بؤر توتر محلية وإقليمية وتفضي في نهاية المطاف
الى تأجيج الخامل من أفكار متطرّفة قابلة للتوظيف على
نحو عاجل في دورة عنف جديدة.
قد تنجح الدولة بصورة مؤقتة في اختراق المجال السيادي
لمجتمعها الديني، وقد تتسلل الى مراكز عمل الإصلاح وقنوات
التعبير الحر، وقد تزرع على شبكة الإنترنت عشرات بل مئات
المواقع التي تبشّر برسالة الدولة السعودية بنموذجها الجديد،
ولكن المحصول السياسي لن يكون أكثر من مجرد (تعكير) لجو
مشحون بالرغبة الجامحة نحو خيار التغيير الجذري للدولة.
إن شرط تقدّم الدولة وتغيير صورتها لا يقوم على التلاعب
بالحقائق أو صنع الأوهام التي تأخذ مكان الحقائق، بل عن
طريق إكتشاف الأخطاء، والملاحظات، والتجارب الفاشلة التي
تسببت في إعاقة حركة الدولة وبناء علاقات سليمة بين السلطة
والمجتمع.
الدولة في نموذجها الجديد تفتقر للإغراء، وخصوصاً في
الداخل، أما للخارج فهي لا تعدو أكثر من سلعة كبيرة في
سوق المضاربات الإعلامية والسياسية والاقتصادية. فقد أصبح
بإمكان الخارج تثمير حاجة الدولة السعودية الى صورة جديدة
كيما يعقد معها صفقة عسكرية فلكية بحجم صفقة (سلام) مع
بريطانيا، أو يدير لصالحها حملة علاقات عامة، أو ينتج
من مالها فيلماً سينمائياً بحجم فيلم (المملكة) الذي تشم
منه رائحة البترودلار.
وفي الوقت الذي توجد فيه الدولة هيئات ملتبسة من قبل
الهيئة الوطنية لحقوق الانسان، وهيئة الصحافة، أو حتى
الإعلان عن أنظمة جديدة من قبيل نظام القضاء، ونظام ديوان
المظالم، وقبل ذلك مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني
الذي وري الثرى قبل أكثر من عام، فإنها تمارس خيانة ضد
المفاهيم الكبرى ومعاني الكلمات، ويكفي أن يقدّم فتور
الشعب وأحياناً إزدراؤهم شهادة جماعية على تلك الخيانة.
فلا شيء بعد كل الأشكال الخادعة تلك قد تغيّر، فلا حقوق
الأفراد والجماعات قد شهدت تحسّناً ملحوظاً، ولا حرية
الصحافة والتعبير باتت واقعاً يومياً، وكذا الحال بالنسبة
لحكم القانون، والحوار الوطني، والمحاكمة العادلة، والمحاسبة
والشفافية فيما يرتبط بالمال العام، ولا أشكال الفساد
التي إزدادت تعقيداً حتى عطّلت إرادة تشخيصها قبل معالجتها.
هذه هي (المملكة) في صورتها العارية، وليست تلك الصورة
التي يراد تعميمها، والتي بالتأكيد ستؤجّل قرار إصلاحها
الضروري، ونرجو ألا يأتي من يحاول إبتزاز حاجة هذه الدولة
الى رسّام دولي من أجل أن يقترف جريمة صنع نموذج جديد
لدولة شمولية تحت يافطة (الاعتدال).
|