جولة الملك الخارجية
موسم دفع الرّشى أم صحوة سياسية؟
محمد الأنصاري
هناك خلل هيكلي في السياسة الخارجية السعودية قد يفسر
السكون المستديم في حركة الدبلوماسية السعودية وضعف تأثيرها
على الأوضاع في المنطقة.
هناك أولاً، ضعف ذاتي، أي قصور، في الأداء السياسي
والدبلوماسي، من جهة أن الطاقم السياسي والدبلوماسي السعودي
غير كفوء من جهة التأهيل، ومن جهة الحرية المعطاة لبعض
أفراد الطاقم في التفكير والبحث وفي الأداء. إذا كانت
السياسة السعودية الخارجية يرسمها أمراء العائلة المالكة
الكبار وفي مقدمتهم الملك، فلنا أن ندرك قصور تأهيل هؤلاء،
فهم يمارسون السياسة بالسليقة وحسب التجربة والخطأ، وعلى
أساس ما تمّ توارثه من رؤى وتجارب صاغها مؤسس الدولة وسار
عليها أبناؤه. وهذا يعني بالتحديد أن السياسة السعودية
لم ترسم على أساس رصين من العلمية والدقّة، بقدر ما تتحكم
فيها ردود الأفعال الآنيّة، خاصة وأننا نعلم بأنه لا يوجد
مركز دراسات يعتمد عليه في التخطيط والإقتراحات، يراعي
أهداف الدولة الكبرى واستراتيجياتها وإمكاناتها وطموحاتها
والمشاكل التي تعترضها. بل أن أقل من ذلك لا يتوفر، فحتى
الكتابات في الشأن الخارجي قليلة للغاية، بل هي نادرة
جداً إن كان الحديث خلاف الرأي الرسمي، سواء كانت مقالات
أو دراسات تنشر داخل المملكة أو خارجها يتولاها مواطنون
سعوديون أصحاب معرفة ودراية وخبرة.
إن غياب العلمية، والأسس التي تُبنى عليها سياسة خارجية
ناضجة، يؤدي الى التخبط وعدم الوضوح، والتقدم والتراجع
في آن واحد، وبالتالي تكون السياسة عرضة للجمود وثقل في
الحركة وتأخر في المبادرة ـ إن وجدت ـ وغَلَبة النزعات
الفردية الإجتهادية ضمن الطاقم الحاكم، فهذا يجرّ باتجاه
ما، والآخر يجرّ باتجاه معاكس، كما توضح في السنوات الأخيرة،
تبعاً لتعدد أقطاب الحكم وانشطار البيت الحاكم وفق مصالح
متخالفة ولا نقول متعارضة.
ويندرج ضمن ضعف التأهيل هو أن السياسة الخارجية السعودية
لم تنتج أو تخرّج شخصيات لها القابلية للعطاء والتحرك.
فاغلب الدبلوماسيين ـ وهم من خارج دائرة العائلة المالكة
ـ غير مؤهلين، وسبب عدم التأهيل هو تضاؤل صلاحياتهم الى
حد الإنعدام، والغموض في الأهداف الحكومية، ذلك أن العائلة
المالكة غير منفتحة حتى مع طاقمها السياسي ولا تريده حتى
أن يعلم الخلفية السياسية والمصلحية التي تقف وراء مواقف
الدولة المتنوعة تجاه القضايا المتعددة في المحيط العربي
والإسلامي والدولي. إن الدبلوماسين السعوديين في الجملة
لا يعدو أن يكونوا مجرد ممثلين رمزيين للدولة، تقيدهم
ضآلة كفاءتهم ومعرفتهم، كما تجبرهم السياسة الحكومية على
الوقوف باعتبارهم مجردين من أية سلطة أو صلاحية. ومع ضعف
الجسد الدبلوماسي عامة، كان ينتظر أن يعوض من بيدهم القرار
من الأمراء، خاصة وزير الخارجية، حالة الضعف في الحراك
السياسي السعودي الخارجي، مع الأخذ بعين الإعتبار أن حركة
الملك وولي عهده ورجال آل سعود الكبار ضعيفة بطيئة وغير
واعية بسبب عامل السن. ولكن الجيل الثالث من العائلة المالكة
شاخ هو الآخر، وهو يعيش حالة من الإستعلاء والغطرسة الناشئة
عن الجهل والتي لا تفيد الدولة بل تزيدها انتكاساً.
في الطرف الآخر، فإن السياسة الخارجية السعودية اعتمدت
في نفوذها على الدفعات المالية والمساعدات للدول كيما
تحصل منها على (التسليم) بقيادية الدولة السعودية فترسخ
الأخيرة كلمتها ومواقفها في القضايا الإقليمية والدولية.
ولكن الإعتماد على سياسة المساعدات وحدها أوقع المملكة
في أزمة، ورأينا العديد من الدول العربية وغيرها والتي
كانت بالأمس القريب مدافعاً عن السياسة السعودية تحولت
الى وجهة أخرى، ولم تعد تحترم الدور والموقف السعوديين.
وفي الماضي كانت السياسة السعودية تدفع المال في كل الإتجاهات،
أما اليوم فهي تستخدم المال في اتجاهات سياسية محددة،
الأمر الذي جعل المنتفعين من المال السعودي قلة من الدول،
أما الحركات السياسية والدينية المنتفعة من المال السعودي
فقد تقلص عددها الى أدنى حد، ودخلت كثير من الحركات حقبة
معادية للحكومة السعودية، أو على الأقل حقبة معارضة للنهج
السياسي السعودي.
ومن جهة ثالثة، فإن السياسة الخارجية السعودية اعتادت
أن تكون ملحقاً بالسياسة الأميركية في كل القضايا الإقليمية
والدولية، مع محاولة النشوز بحدود في الموضوع الفلسطيني.
لكن السعودية اليوم تقف مع الأميركيين في كل الخطوات السياسية
ولم تستطع أن تميّز نفسها لا في الموضوع الفلسطيني ولا
اللبناني ولا في دارفور ولا في أفغانستان ولا في العراق
ولا في موضوعة الحرب على الإرهاب وغيرها من القضايا. ولأن
الدور الأميركي والسمعة الأميركية الى انحدار، فإن السياسة
السعودية نفسها ـ باعتبارها ملحقاً ـ تخسر كما يخسر الأميركيون
من سمعتهم داخلياً وعربياً وإسلامياً. ولهذا وبقدر ما
هي السياسة الأميركية مكروهة في المنطقة، فإن حلفاءها
مكروهين أيضاً: الحكم في مصر والأردن والسعودية والسلطة
الفلسطينية.
ومن جهة رابعة، وبشكل دراماتيكي، ولكن غير علمي، وبحسابات
خاطئة للمصلحة الوطنية، ومكانة المملكة نفسها في العالمين
العربي والإسلامي، فرّطت العائلة المالكة بالكثير من الأوراق
التي يمكن أن تلعبها وتقوي رصيدها ومكانتها، حينما أصبحت
طرفاً في النزاعات بدل أن تكون محايداً وقاضياً الى حد
ما كما كانت في الماضي. لقد فرطت في القضية الفلسطينية
وعادت حماس والجهاد، وفرطت في لبنان لصالح قوى إقليمية
ودولية كلها أكلت من رصيد السعودية وتأثيرها حتى لدى أقرب
المقربين لديها وهو تيار المستقبل الذي يرأسه سعد الحريري.
كما خسرت السعودية سوريا حين قطعت شعرة معاوية مع النظام
هناك، وسعت الى إسقاطه، وبالتالي خسرت حليفاً قوياً لها
في المنطقة له تأثير كبير على القضية الفلسطينية، والقضية
العراقية، والقضية اللبنانية، وقضية العلاقات العربية
الإيرانية. وخسرت السعودية بسبب خمولها دورها المتميز
في السبعينات في شمال أفريقيا، كما خسرت نفوذها في القرن
الأفريقي: في جيبوتي والصومال وأريتريا وحتى السودان.
وخسرت السعودية نفوذاً مفترضاً لها في العراق (وإن بقي
نفوذها السلبي موجوداً وقد يرتد عليها بعودة المقاتلين
السعوديين من العراق) لصالح ايران وتركيا وسوريا. وخسرت
السعودية بشكل جزئي علاقاتها المتميزة مع اليمن ومع سلطنة
عمان ومع إيران، وكذلك نفوذها في الباكستان حين وقفت مع
مشرف مقابل كل قوى المعارضة الإسلامية والوطنية هناك.
من أراد النهب والإبتزاز فلينهب ويبتزّ!
|
وهكذا، وأين اتجهت تجد الخسائر السعودية متراكمة، الأمر
الذي يصح معه القول بأنها أصبحت لاعباً من الدرجة الثالثة
في الأحداث، ولم تنجز السياسة السعودية شيئاً طيلة العقدين
الماضيين، اللهم إلا اتفاق مكة الذي أجهضه الأميركيون،
والذي يشير الى أن السعودية لا يمكن إلا أن تكون تابعاً
للسياسة الأميركية. إن الرصيد السياسي الكبير الذي بناه
فيصل في السبعينات تآكل الى أدنى حدوده اليوم، فلم تعد
السعودية زعيمة العرب، ولا زعيمة المسلمين، حتى وإن كانت
اليوم تستعيد إرثها لتصبح الأكثر ثراءً، ولكنها في نفس
الوقت أقل استقلالية في قراراتها السياسية.
دفع الرّشى
التحوّل الإستراتيجي في السياسة الخارجية السعودية
جاء على دفعات خلال العقدين الماضيين، أهمهما دفعتان:
التحول الذي أعقب حرب تحرير الكويت، حيث انكفأت السعودية
على نفسها، وقلصت اهتمامها بالخارج أياً كان شكله وانكفأت
تضمد بعض جراحها ومشاكلها الداخلية، فضلاً عن أن تلك الحقبة
قد أسّست لحالة من العداء بين السعودية وحلفائها من الجهات
الإسلامية في العالم، بعد أن كانت حليفاً ثبت بالنسبة
للسعودية عدم جدارتها حين وقفت ضد القوات الغربية التي
جاءت لإخراج صدام من الكويت. أما الدفعة الثانية، فجاءت
بعد أحداث سبتمبر، بحيث زادت الشرخ بين السعودية ودول
عربية وإسلامية عديدة، والى بنيان جدران بين معسكر الخير
(البوشي!) ومعسكر الشر الذي تمثله ايران وسوريا وحماس
وحزب الله وغيرهم. ويضاف الى هذا، فإن السعودية بعد أحداث
9/11 اعتمدت منهج إرضاء الأميركيين بأي ثمن ممكن. إن اراد
الأخيرون تنازلاً في القضية الفلسطينية فعلوا، وإن أرادوا
غطاءً لحرب لبنان والعراق وأفغانستان فعلوا، وإن أرادوا
عزلاً وحرباً ضد سورياً فعلوا، بل وإن أرادوا حرباً ضد
إيران رغم ما يترتب عليها من خسائر محتملة كبيرة للسعودية،
فإن الأخيرة لا يسعها إلا المراهنة على الحصان الرابح
(الأميركي بنظرهم) والمضي الى آخر الشوط.
يمكن القول أنه ومنذ ذلك الحدث، فإن السياسة الخارجية
السعودية تفسر نفسها بناءً على معطياته ونتائجه. السعودية
لا تريد أن تخسر أميركا والغرب، ولا بد أن تدفع ثمناً
من سمعتها وسياستها، فالمهم ان يبقى النظام السياسي صامداً
أمام منافسيه في الخارج ومحاولات إصلاحه في الداخل. المهم
أن لا يجرد الغرب على السعودية سلاح التغيير، وربما سلاح
التقسيم. وفعلاً تكلل الجهد الحثيث بالنجاح، فتراجع الغرب
عن دعواته، وحاولت السعودية التقرب أكثر فأكثر من كل المشاريع
الأميركية المطروحة السياسية والإستراتيجية.
تشاء الأقدار أن أسعار النفط أخذت بالإرتفاع خلال السنوات
الماضية، الأمر الذي استثار لعاب الغربيين أنفسهم، فتدافعوا
نحو السعودية، مثلما فعلوا من قبل أثناء الطفرة النفطية
في منتصف السبعينيات، إذ لا بد أن تعود أموال البترودولار
الى الغرب بصورة أو بأخرى، إما على شكل سندات في الخزانة
الأميركية، أو على شكل سلع، أو على شكل مقاولات ضخمة ومشاريع،
أو على شكل أسلحة ورشاوى وما أشبه، أو على شكل إستثمارات
في عواصم غربية عديدة.
هذه هي أهمية السعودية اليوم، فرغم ضعفها السياسي،
فإن جيوبها المالية المتلئة تمثل إغراءً كبيراً أقوى من
الطروحات والقيم الغربية المدّعاة، وأقوى حتى من الأداء
السياسي السعودي على الصعيد الإقليمي الذي يمكن تثميره
في المشروع الغربي/ الأميركي. ذلك أن السعودية بمجرد تخليها
عن محيطها الطبيعي، صارت لا تقدم فائدة كبيرة للسياسة
الأميركية، اللهم إلا في جانب التخريب: شراء الذمم لدى
البعض، والأهم إشعال الفتن خاصة الطائفية منها.
وهكذا، فإن زيارة الملك الى العواصم الأوروبية، وفرش
البسط الحمراء أمام أقدامه، لا يعبر عن احترام بقدر ما
يعبر عن جشع وطمع بالمال السعودي المهدور، الذي لا يمكن
أن يهدره إلا نظام مستبد لا يراعي مصالح شعبه. وطالما
أن الإستبداد والفساد سمتان تدران المال على الغرب، فلا
مانع من حماية هذا النظام والدفاع عنه وعن فساده.
ومن هنا كانت زيارة الملك عبدالله غير سياسية بمعنى
مناقشة ملفات سياسية والوصول بها الى اتفاق مشترك، فالمشترك
السياسي موجود مع دول الغرب، إن كان بشأن لبنان أو العراق
أو حتى الموضوع النووي الإيراني. لذا، يمكن الإستخلاص
بأن هدف الزيارة مجرد دفع الرشى للدول الغربية على شكل
صفقات وعقود لم تنشر حتى الآن تفاصيلها، ويراد لها أن
تستكمل فيما بعد. ومقابل هذا سيكون الغرب راضياً عن النظام
السعودي مادحاً لإصلاحات! خادم الحرمين! مبجلاً للديمقراطية
الوليدة في صحراء نجد! صامتاً عن الوهابية مفرخة الحروب
والإرهاب.
لم تكن زيارة الملك عبدالله تعبيراً عن صحوة سياسية،
ولا بحثاً في موضوع سياسي مختلف عليه مع الغرب، بل هي
زيارة علاقات عامة، وتقوية التواصل بالحبل السرّي للنظام
السعودي مع الغرب، يضخّ من خلاله وبصورة معاكسة (الوليد)
الى (أمّه) الدعم والغذاء!
|