الترحيب العاصف
زيارة الملك تفجّر المكبوت البريطاني
ناصر عنقاوي
زيارة الملك عبد الله بعد عشرين عام لبريطانيا كانت
مختلفة.. فهو يزورها الآن وسط غمامة إعلامية سوداء، بالرغم
من محاولات الملكة التخفيف من وطأتها عبر المبالغة في
إكرام ضيفها وعشرة آخرين من الأمراء والمسؤولين الكبار
في قصرها، فيما وجد بقية أفراد الوفد متّسعاً من الغرف
الوفيرة في الفنادق باهظة الثمن في العاصمة البريطانية.
لفت إنتباه المضيف البريطاني الى غياب أي عنصر نسائي بين
الوفد الملكي الذي حضر حفل الاستقبال في قصر بنكنجهام.
لم تكن بالتأكيد زيارة هادئة ولا عادية، فهي تأتي بعد
مواجهة مصيرية مع القيم التاريخية الليبرالية والديمقراطية
ونجاح المال السعودي في تكميم العدل، وتعطيل القانون منذ
إيقاف التحقيق في رشاوى اليمامة، وتوريط أعلى سلطة قضائية
في الفساد، وزاد الطين بلة أن يسبق الزيارة تصريح ناري
من الملك عبد الله لإذاعة بي بي سي يضع الحكومة البريطانية
في موقف محرج، حين قال بأن السعودية وضعت معلومات حول
الإرهاب تحت تصرّف السلطات البريطانية ولكن الأخيرة لم
تأخذ بها، الأمر الذي أثار سخط الرأي العام البريطاني
الذي ألقى بأسئلة اللوم على حكومته لتقصيرها في أخذ معلومات
السعودية على محمل الجد. إكتشف البريطانيون عبر مقابلة
الأمير سعود الفيصل مع القناة الرابعة بأن المعلومات التي
وضعت تحت تصرف السلطات البريطانية لم تكن أكثر من إشارات
غامضة ولا تصلح أن تكون (مانيوال) يرشد الى الجماعات الإرهابية
ومخططاتها ومصادر تمويلها ومنابعها الأيديولوجية، هذا
في الوقت الذي تتصاعد فيه حملة على دور للحكومة السعودية
في دعم مراكز دينية متطرّفة في بريطانيا.
على أية حال، فإن الملك عبد الله جاء الى لندن محفوفاً
بحملة إنتقادات واسعة، ليس حول الملكية المطلقة التي يتربّع
على عرشها، ولا كونه ملكاً لواحدة من أسوأ دول العالم
في مجال حقوق الإنسان، وتصدير التطرف والإرهاب لأرجاء
مختلفة من العالم فحسب، ولكن لأن الملك عبد الله يأتي
هذه المرة متحرراً من أي مسؤولية لبلاده في نشر التطرف،
وتسميم القيم الديمقراطية، فهو يدخل الى لندن كما الفاتحين
والمحررين بعد أن تغلّب المال على المثال..
من تابع حركة الملك وحاشية مؤلفة من 400 شخصاً جاءوا
في خمس طائرات جامبو ضخمة يجوبون في قافلة من السيارات
شوارع وسط لندن يخيّل إليه أن الملك عبد الله بات أقرب
الى قصر بكنجهام من نزيلته الأصلية. هذه الزيارة تكشف
عن حقيقة أن العائلة المالكة تحررت من خطر العزلة الدولية،
بل هناك من طالب بإخماد موجة الغضب الشعبي من أجل مصلحة
قومية بريطانية عليا، فالغضب لا يعدو كونه موقفاً عابراً
لا يدخل في معادلة المصالح. بل أكثر من ذلك، زيارة الملك
عبد الله أوحت بأن السعودية خلعت رداء عار سبتمبر، وتتصرفّ
الآن بمنطق المال الذي أمدّها بسلاح حيوي في علاقاتها
الخارجية. تجاوز الحلفاء الغربيون عن آثام حليفهم الإقليمي،
وعقدوا معه أكبر صفقات التسلح التي يحصدون عبرها عشرات
المليارات من الدولارات.
مشروع الدمقرطة في الشرق الأوسط لم يعد مادة مدرجة
على المباحثات الثنائية ولا في العلاقات البينية، بل كان
للجانب السعودي اليد العليا في تحديد طبيعة الموضوعات
المراد طرقها، ومن بينها المعارضة السعودية في بريطانيا،
وتحميلها مسؤولية الإرهاب في بريطانيا وربما في العالم،
بالرغم من أن أياً من هذه القوى المعارضة لم تعتنق قط
خيار العنف ولا استعمال السلاح سواء داخل بريطانيا أو
إنطلاقاً من الأراضي البريطانية. للسعودية ذرائعها الخاصة
في إقحام معارضيها في المباحثات مع الحكومة البريطانية،
وهي اليوم قادرة بعد أن أعطبت القيم والقوانين في الغرب
مقابل توفير (كمية مال) كافية في الأسواق الغربية، على
إقحام ما تشاء من العوامل في معاملاتها التجارية، وإن
لم تصل حتى الآن الى حد الارتطام بالقانون وبالسلطة القضائية
المستقلة في بريطانيا.
مملكة الصحراء تزوّد العالم الآن بالمال والإنتحاريين،
وكان يفترض أن يتنبّه الملك عبد الله الى أن المال قد
يعني شيئاً بالنسبة للسياسيين ولكن الرأي العام البريطاني
سيشتغل على دور المتطرّفين المبثوثين في أرجاء مختلفة
من العالم بما فيها بريطانيا. تفاجأ الملك خلال زيارته
الى لندن التي دامت يومين بسورة الانتقادات الموجّهة ضد
المملكة السعودية، وبحسب دبلوماسي بريطاني كانت تعتبر
صدمة بالنسبة له. كانت صورة الملك كما رسمها الآخرون من
بلاده تختلف عن الصورة التي رسمت لدى البعض في الداخل،
فهو في بريطانيا ليس حاكماً معتدلاً ووسطياً، ولم تفلح
نجاحات أجهزة الأمن في دولته في مجال محاربة الجماعات
المسلّحة في أن تشكّل صورة مختلفة عنه في الخارج، فقد
ظلّت المملكة في الذاكرة الغربية المتشكّلة ما بعد الحادي
عشر من سبتمبر بأنها راعية للإرهاب، ووكر للمتطرفين، ونظام
حكم فاسد، ومصدر تخريب للقيم الليبرالية، ودولة معادية
للحرية وحقوق المرأة والأقليات.
حمّل الملك في زيارته الى بريطانيا كل شرور بلاده،
من التطرّف الفكري، الى الفساد المالي، الى قمع الإصلاحيين،
الى عنف الجماعات السلفية، والى الديكتاتورية السياسية.
في واقع الأمر، قدّمت وسائل الإعلام البريطانية كشف حساب
شامل عن أخطاء بلاده سواء في الداخل عبر تشجيع الكراهية
الدينية بين أطياف المجتمع من خلال مناهج تعليم دينية،
واعتقال الإصلاحيين واستعمال أقصى التدابير القمعية ضد
أصحاب الرأي وتعطيل الحريات العامة، وانتهاك حقوق المرأة،
وإغلاق المنتديات الثقافية، وفرض رقابة صارمة على النشر،
وإحتكار السلطة، وتزايد عمليات نهب الثروة الوطنية، وفي
العراق عبر جماعات العنف والقتل والتدمير في الأسواق ودور
العبادة، وفي لبنان عبر إرسال أموال وأفراد لإشعال الحروب
الداخلية، يشجّع عليها رجال دين سلفيون يستخدمون منابر
المساجد التي تخضع تحت إشراف المؤسسة الدينية الرسمية.
في المستويات العليا، حيث الإحتكام لمعايير مختلفة،
تكون العلاقات بين السعودية والدول الغربية مؤسسة على
مصلحة متبادلة، فلم يعد خافياً إرتباط الرئيس جورج بوش
ونائبه ديك تشيني بالأمراء السعوديين بفعل النفط وروابط
تجارية وعائلية سابقة، وهذا ما يجعل أي تحرك أميركي من
أجل تغيير الحكم السعودي أو تطويره مرتبطاً بتلك الرابطة
المصلحية. قد يتعاون الأمراء السعوديون مع أجهزة الأمن
الغربية تحقيقاً لأهداف مشتركة، ولكن هناك خطوط حمر متفق
عليها يحفظ فيه الجميع حقوقهم المشتركة.
الضيافة الخاصة للملك وحاشيته لم تعبّر عن لملمة سريعة
للجرح الذي أحدثه تصريح الملك عبد الله قبل وصوله الى
لندن بفشل الحكومة البريطانية في مواجهة الإرهاب، حين
قال في تصريح لإذاعة بي بي سي بأن السعودية (أوصلت معلومات
الى بريطانيا قبل وقوع الهجمات في السابع من يوليو ولكن
للأسف، لم تتخذ بريطانيا أية إجراء عملي وكان بإمكانها
تفادي المأساة). هذا التصريح إعتبره الإعلام البريطاني
تبديلاً للأدوار، وتحويل الضحية الى جلاّد، وتنصّل الأخير
من دماء الأبرياء. مرّرت الملكة اليزابيث عثرة الملك عبد
الله رغم صدور بيان إم آي فايف يعتبر فيه مزاعم الملك
عبد الله مليئة بالثغرات. وقال مسؤول أمني بريطاني (لقد
قلنا سابقاً بأن ليس هناك شيء لدى الإستخبارات البريطانية
يشير الى مؤامرة محدّدة لتنفيذ هجمات إنتحارية في لندن،
وفي الحقيقة فإن المعلومات كانت غامضة تماماً ولم تكن
موثوقة).
هذه التصريحات تركت أثرها المباشر على جدول اللقاءات
الثنائية، فقد ألغي مؤتمر صحافي يضم وزيري خارجية البلدين،
وتذّرع وزير الخارجية البريطاني بموعد مسبق في الولايات
المتحدة، فيما تم الإكتفاء بمؤتمر على مستوى السفراء.
وإذا كانت الحكومة البريطانية قد أقفلت ملف التحقيق
في ملف الرشى الخاصة بصفقة اليمامة، فقد تبنّت المؤسسات
الأهلية والحقوقية المسؤولية نيابة عن الحكومة، حيث قام
المعارضون لتجارة الأسلحة بالتظاهر ضد وقف الحكومة للتحقيق
في مزاعم الفساد في صفقة اليمامة. كان الأمير بندر بن
سلطان، مستشار الأمن الوطني بين أفراد الوفد الملكي ولا
شك أن قدومه الى بريطانيا له مغزى خاص، فضلاً عن وقوفه
على طبيعة الانتقادات الموجهّة إليه في وسائل الإعلام
البريطانية. كل أمير سعودي ضمن الوفد الملكي إصحطب حاشيته
معه الى لندن، ودخل بها الى القصر، وحتى الرئيس الأميركي
جورج بوش جاء بطائرة خاصة إضافة الى الوفد الصحافي في
البيت الأبيض. يذكّر البريطانيون ضيوفهم السعوديين بأن
الملكة إليزابيث لا تصطحب في رحلاتها الخارجية أكثر من
30 عنصراً منهم سكرتارية خاصة ومصففات الشعر، وفي ذلك
إشارة الى البذخ السعودي غير المسبوق الذي تأباه التقاليد
الملكية العريقة. وفيما بلغت نفقات زيارة الملك وحاشيته
ما يقرب من مليار دولار، فإن ثمة إنتقادات صحافية واجهت
رئيس الوزراء براون الذي تولى حقيبة المالية لعشر سنوات،
أنفق 3 آلاف جنيه بريطاني (6 آلاف دولار أميركي) من أموال
دافعي الضرائب لشراء ربطات عنق بيضاء من محلات سافيل راو
بمناسبة إستقبال الملك وحاشيته في تلك الليلة.
ناشطو حقوق الإنسان كان لهم طريقة مختلفة في استقبال
الضيف وحاشيته، فقد تظاهروا أمام السفارة السعودية من
أجل تعويم زيارة الملك وإثارة إنتباه الرأي العام ووسائل
الإعلام المحلية والعالمية بشأن ملف الانتهاكات لحقوق
الانسان في السعودية. زعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين
بالنيابة فينس كابل، أعلن مقاطعة الزيارة وانسحب من طاقم
المستقبلين في القصر الملكي. وقال بأن (وفق كل المعايير،
فإن تقييم وزارة خارجيتنا هي مريعة على الإطلاق، فهو يشير
الى تمييز منظّم ضد النساء، وأتباع الديانات الأخرى، وممارسة
عقوبة الإعدام بصورة منظمة عبر الرجم، وقطع الرؤوس).
يحاول المسؤولون البريطانيون، شأن نظرائهم الأميركيين،
التخفيف من حدّة الانتقادات ضد علاقات دولتهم مع أنظمة
شمولية كالسعودية، ويصرّ أولئك المسؤولين على أن حكومتهم
تثير بصورة دائمة قلقهم بشأن أوضاع حقوق الانسان مع السلطات
السعودية، ولكن المداولات غالباً ما تهيمن عليها الأزمات
الإقليمية، والتعاون ضد الإرهاب، والروابط التجارية التي
تقدّر بسبعة مليارات دولارات سنوياً بالنسبة للمصدّرين
البريطانيين.
رئيس الوزراء جوردون براون التقى الملك عبد الله وناقش
معه ملفات العراق ولبنان وإيران، والمساعي الأميركية بشأن
مؤتمر السلام في الشرق الأوسط في أنابوليس هذا الشهر،
حيث أبلغ براون رسالة واضحة للقيادة السعودية بأن بريطانيا
تأمل في أن يجلس السعوديون مع الوفد الإسرائيلي بصورة
علنية. للتذكير فحسب، فإن أولمرت يريد من المشاركين العرب
إعترافاً واضحاً بأن فلسطين المحتلة هي (دولة الشعب اليهودي).
في المجمل، فإنها زيارة غير عادية يقوم بها الملك،
ويقول البريطانيون بأنها من المرات النادرة التي تمضي
زيارة قائد أجنبي بصورة خاطئة، والسبب في ذلك أنها كانت
زيارة بالغة التعقيد، وزادها تعقيداً إنتقاده الساذج لأجهزة
الاستخبارات البريطانية بخصوص مكافحة الإرهاب، ما يعتبر
إستفزازاً واضحاً للشارع البريطاني عموماً وللحكومة البريطانية،
وأيضاً الغياب غير المنظور ولأسباب شخصية بالنسبة لوزير
الخارجية البريطانية ديفيد ميليباند، وما لحقه من قرارات
وتداعيات.
يقول المراقبون بأن تلك الهزّات على سطح العلاقة بين
البلدين هي غير مريحة لأسباب مركّبة. وخلال هذه الزيارة،
فإن ثمة تبايناً بدأ ينزل الى موضوعات على الأرض منها
عدم التوافق على قمة السلام في الشرق الأوسط، فيما تكفّلت
منظمات حقوق الإنسان وجماعات الضغط بعرض باقي الموضوعات
الخلافية على صعيد حقوق الإنسان، والفساد المالي عبر صفقات
الأسلحة، وبث الكراهية الدينية. بالنسبة لبريطانيا، كما
أميركا، كان الهدف دائماً تأمين خطوط المصالح الإستراتيجية
وتعزيز عوامل الإستقرار في المنطقة كشرط حيوي لحفظ المصالح.
ولكن هذا الهدف بات مشوباً بالعفن، خصوصاً بعد تفجّر ملف
الرشى بصورة صادمة وتتجاوز القيم الأخلاقية.
على أية حال، فإن الزيارة التي قام بها الملك عبد الله
لم تكن مؤسسة على كمية معلومات كافية حول ما يمكن أن يكون
عليه إستقبال الضيف في بلد بات محتقناً بدرجة شديدة على
الدولة التي صدّرت له الفساد والإرهاب لقاء كمية أموال
يراد لها أن تكون ثمناً بخساً للقيم التقليدية في المجتمع
والدولة معاً، وغياب تلك المعلومات هو سبب صدمة الملك
في زيارته العاصفة.
|