لقطات من الزيارة الملكية
حقوق الإنسان الضائعة في متاهات البازار الغربي
عبد الوهاب فقي
أزعجنا الغرب بدعاواه الديمقراطية والدفاع عن حقوق
الإنسان وكل مفردات القيم التي يبشرنا بها، فلم نجد منها
إلا سيلاً من الدماء تجري في أكثر من بلد عربي وإسلامي،
ودعماً للديكتاتوريات، وحماية لأعداء الإنسانية. تتوقف
تلك المفردات عن الإستخدام خارج حدود الدول الغربية، فالمنتج
الديمقراطي صنع خصيصاً للرجل الأبيض، أما مواطنو العالم
الثالث، فهم ـ من خلال الممارسة الحقيقية والفعلية للسياسة
الغربية ـ دو مستوى الإنسانية. وإذا ما أُريد تفعيل هذه
المفردات على أرض الواقع فإنها تتوقف عند حدود المصالح
المباشرة للغرب الذي يمتلك استعداداً واسعاً وبراغماتية
شيطانية للإلتفاف على كل مزاعمه، الى حد قلب الحقائق إن
تعلق الأمر بالمسوغات التي تدفعه للدفاع عن أنظمة فاسدة
مستبدة كما في السعودية ومصر وتونس وغيرها. بل أن الغرب
ذاته سيجادلك بأن (بلدك) الذي تعيش فيه (ديمقراطي!) وأن
(ملكك الفاسد) هو من أشرف خلق الله! وأطهرهم وأنزههم!
إن الغرب على استعداد ليجادلك بأن اللون الأسود يميل الى
البياض، وأن الحاكم الأعمى الذي يقودك يمتلك عينا زرقاء
اليمامة.
عكس هذا ستجد الغرب أعمى عن أي تطورات حقيقية في المجال
الديمقراطي إن كان ذلك البلد منافساً أو لا يقبل الإنضواء
تحت المظلة الغربية. وبهذا تكون مفردات حقوق الإنسان والديمقراطية
مبتذلة الى أبعد الحدود، كما وجدناها خلال السنوات الماضية.
لقد اصبحت سلاحاً يستخدمه الغرب ضد النظم التي لم تقبل
الخضوع، أي أنها صارت جزءً من أدوات السياسة لا من أدوات
القيم التي يزعم الغرب الترويج لها.
لكن ما ينطبق على الغرب كحكومات لا يشمل شعوب الغرب
نفسها، ومعظم منظمات المجتمع المدني فيه، مع علمنا بأن
بعض المنظمات الحقوقية قد احتويت ضمن اللعبة السياسية
الكبرى ومصالح الدول المهيمنة. شعوب الغرب ترسخت لديها
الحالة الإنسانية، وهي في مجملها جاهلة بما تفعله حكوماتها،
وهي بالطبع رغم تضليلها لا تقبل بما تقوم به حكوماتها
باسمها.
باختصار: ضمير الغرب الرسمي السياسي والإنساني في ثلاجة،
أما الضمير الشعبي فلا زال حيّاً ينبض!
وتأتي زيارة الملك عبدالله لعواصم أوروبية لتؤكد هذه
الحقيقة: حقيقة أن الغرب ضد أي تحول ديمقراطي يقطع عليه
طريق السلب والنهب والإستثمار الإستراتيجي لمشاريعه. ترى
أين كان موضوع حقوق الإنسان في زيارة الملك السعودي للدول
الأوروبية؟ ولماذا أصبح الملك السعودي بالنسبة للممكة
اليزابيث ـ كما يقول أحد الكاريكتاريرات ـ أكثر (ليبرالية)
من زوجها فيليب؟! تقول هذا والمسؤولون في حالة سجود لبراميل
النفط!
حقوق الإنسان المسعود!
موضوعة حقوق الإنسان لم تكن ذات قيمة في المباحثات
البريطانية السعودية. لم يكن السعوديون يريدون مناقشة
هذا الموضوع، ولم يكن الموضوع في الأصل ضمن أجندة المناقشات،
بل أن زيارة الملك السعودي للندن وعواصم اوروبية اخرى
تستهدف في الأساس التغطية على موضوع حقوق الإنسان في السعودية.
لكن الحكومة البريطانية التي واجهت حملة عنيفة من منظمات
حقوقية ومن تعليقات الصحافة والبرلمانيين من نفس الحزب
الحاكم وغيره، حملة قائمة في أساس منها على حقيقة استبداد
وديكتاتورية النظام السعودي، تشير فيما تشير اليه الى
اضطهاد المرأة والأقليات المذهبية في السعودية، وكذلك
الأقليات الدينية المهاجرة للعمل.. لم يكن أمام الحكومة
البريطانية إلا الزعم بأنها ناقشت موضوع حقوق الإنسان
في السعودية للتغطية على حقيقة أن مجمل النقاش كان يدور
حول صفقات التسلح البريطانية للسعودية والتي تصل قيمتها
الى عشرات المليارات من الدولارات.
لم تكن الحكومة البريطانية قادرة على الدفاع عن استبداد
النظام السعودي، ولا رد الهجمات العنيفة. فزعيم حزب الأحرار
الديمقراطيين (ثالث أقوى حزب في بريطانيا) قاطع مأدبة
أقامتها الملكة على شرف الملك السعودي في قصر باكنغهام،
محتجاً بأن سجل حقوق الإنسان للحكومة السعودية (مروع)،
وأن هناك تمييزاً منظماً ضد النساء ومن يدينون بعقائد
أخرى، وأن النظام يطبق عقوبات بدنية على صغار المجرمين
كقطع اليد والرأس في أماكن عامة.
أما العضو اليساري جون مكدونل، النائب عن حزب العمال،
فأبدى انزعاجه من استقبال الحكومة (لواحد من أكبر الزعماء
غير الديمقراطيين الذين ينتهكون حقوق الإنسان على مستوى
العالم).
هنا زعمت متحدثة باسم مكتب رئيس الوزراء غوردون براون
بأن حكومتها أعربت عن قلقها بشأن أوضاع حقوق الإنسان في
السعودية، وقالت بأن تلك الحكومة لديها مخاوف بشأن مجالات
معينة، لتنتهي الى القول بأنها (تعترف) بوجود تطورات مهمة
تحدث في السعودية مثل (تشكيل هيئة وطنية لحقوق الإنسان)!
هنا اضطر وزير الخارجية السعودية أن ينفي (وبخشونة)
مزاعم مكتب رئيس الوزراء من أن الحكومة بحثت مسألة حقوق
الإنسان، وقال بأن الموضوع لم يثر، وأن حقوق الإنسان أمر
يخص الحكومة السعودية وشعبها. واضاف: (نحن مسؤولون أمام
شعبنا، وهو الذي يسألنا عن الحقوق التي نضمنها، لكننا
لم نتحدث كحكومتين بشأن هذه القضية)!
هنا ابتلعت الحكومة البريطانية ذلك النفي لتصحح مزاعمها
فيخرج علينا متحدث باسم داوننغ ستريت ليقول بأن (مسألة
حقوق الإنسان لم تتم إثارتها خلال المباحثات التي جرت
وجهاً لوجه بين براون والملك عبد الله، لكن الحكومة أثارتها
مع أعضاء في الوفد السعودي). وتابع بأن براون تحدث مع
الملك عن موضوع التعليم في السعودية وعن عملية السلام
والتعاون في مجال الإرهاب!
واضح أن موضوع حقوق الإنسان بدأ بالتراجع من أحد ثوابت
السياسة الأوروبية والأميركية، الى مجرد موضوع ثانوي لا
يتطرق إليه إلا حين يراد ابتزاز نظام من الأنظمة، والسعودية
لا تحتاج الى ابتزاز كبير، فهي تدفع فاتورة الحماية طائعة
مختارة!. وفي المقابل فإن أصدقاء السعودية المتلهفين على
أموالها تخلوا متعمدين عن دعوات الديمقراطية وغضوا النظر
عن الإنتهاكات المستمرة والمتصاعدة من قبل حلفاء أميركا
في الشرق الأوسط، حتى لا يزعجوهم، خاصة حين يكونوا ضيوفاً
لديهم، وبتخصيص أكثر حين لا تكون تلك القضايا على طاولة
المباحثات، بل قد تكون السعودية اشترطت على الحكومة البريطانية
عدم إثارة الموضوع من أصله. ويبدو أن لندن وعواصم غربية
أخرى لا تريد أن تضغط على حلفائها السعوديين في هذا المجال
لأنه يتعارض مع مصالحها وقد يؤدي الى نتائج عكسية بسبب
الحساسية المفرطة لدعاة الإستبداد السعوديين الذين قد
يعيقون صفقة التسلح من طائرات التايفون.
مزاعم الديمقراطية الغربية تجد تجسيداً عكسياً لها
في السعودية كما في مصر وغيرهما. الغرب لا يريد ديمقراطية
ولا حقوق إنسان، بل يريد شيئاً آخر أهم لديه من هذه القيم!
وحقوق المرأة
تورط وزير الخارجية السعودية في لقائه مع القناة التلفزيونة
البريطانية الرابعة حين سأله المقدم عن حقوق المرأة السعودية
التي لا تمتلك الحق حتى بقيادة السيارة. قال الوزير الإجابة
المعروفة: الموضوع قضية اجتماعية لا دخل لها بالحكومة.
أي أن المجتمع هو الذي يرفض ذلك. والمجتمع هنا يمثله بجمعه
مجموعة من الجهلة الوهابيين الذين لا يشكلون نسبة تذكر
من مجموع الشعب السعودي.
ولكن المذيع عاد وسأله: لماذا لم تطرح الحكومة قانوناً
يمنح الحق للنسوة بقيادة السيارة، وبالتالي فمن لا يريد
لا يقود؟ هنا تهرب وزير الخارجية مرة أخرى بصورة ملتوية
بأن المسألة لا تتعلق بالقانون بل بالأعراف الإجتماعية.
ولكن المذيع باغته بسؤال محرج: ولكن ماذا عن رأيك أنت!
هل تؤيد أن تقود المرأة السيارة أم لا؟!
أشاح الوزير بوجهه وهو يحاول الخروج من المأزق، مانحاً
نفسه فرصة للتفكير، ليقول بعدها التالي: (عن نفسي.. أعتقد
أنهن ينبغي أن يقدن السيارات.. لكننا لسنا من يتخذ قرارا
في هذا الشأن. يجب ان يكون قرار الأسر. ليست مسألة سياسية
انها مسألة إجتماعية. نعتقد أن هذا أمر تقرره الأسر..
أمر يقرره الناس ولا تفرضه الحكومة).
السؤال ماذا لو قررت بعض النسوة قيادة السيارة، فهل
سيسكت الطاقم السياسي عنهن، أم سيعتقلهن كما فعل من قبل؟!
وحقوق المسيحيين أيضاً!
حين زار الملك فهد لندن عام 1985، ألبسته الملكة الصليب،
فثارت ثائرة بعض التيارات الدينية الملتصقة بالسلطة. ولاتزال
صورة الملك تستخدمها فلول القاعدة في السعودية لتثبت بأن
الملك السعودي والعرش السعودي بمجمله ما هو إلا صنيعة
للإستعمار وأعداء الإسلام.
الملك عبدالله لم يشأ هذه المرة أن يقبل وساماً بريطانياً
يحمل الصليب، فقد تعلم من سيرة سلفه! ولكنه أراد أن يكسب
بعض الألق ويظهر بلده كبلد متسامح دينياً، وأن ينافس ـ
ربما ـ الإنفتاح الإيراني خاصة في عهد خاتمي، الذي شتمه
الوهابيون كثيراً واستدلوا بصور لقاءاته مع المسيحيين
واليهود ليقولوا بأنه عميل لأعداء الإسلام. هذه المرة
جاء الملك عبدالله ليلتقي ولأول مرة البابا في الفاتيكان،
وكأنه يمثل جميع المسلمين فيما يمثل البابا جميع المسيحيين،
والحقيقة فإن الطرفين لا يمتلكان التمثيل المزعوم.
الزيارة للفاتيكان كان يجب ان يقوم بها المفتي أو أي
شيخ وهابي، حينها يكون طابعها دينياً بحتاً. لكن الملك
يعلم بأن مؤسسته الدينية المتطرفة لا تتحمل لقاءً مثل
هذا ولا أدنى منه. إنها لا تقبل أن تقابل قيادات دينية
إسلامية غير وهابية داخل السعودية إما لأنهم متصوفة أو
شيعة يوصمون دائماً بأنهم مبتدعة ومشركون. وإذا كان الملك
يمثل قيادة سياسية، فإن البابا ليس بعيداً عن مجال السياسة
أيضاً، ما يجعل الزيارة أقرب الى السياسية منها الى أي
شيء آخر.
بالطبع، وبعيداً عن هدية الملك للبابا والتي كانت عبارة
عن سيف مذهب، إضافة الى ما يشبه التماثيل المصنوعة من
الذهب والفضة لجمل وسعفة نخيل.. وهدية البابا للملك وهي
لوحة منقوشة كبيرة تعود للقرن السادس عشر تجسد الفاتيكان
اضافة الى ميداليات بابوية.. فإن الرجلين لم يجدا ما يختلفان
بشأنه: فقد بينا اتفاقهما حول ضرورة إيجاد حل عادل لنزاعات
الشرق الأوسط ومواصلة الحوار بين الأديان للنهوض والتعايش،
وأكدا على ضرورة الحوار بين الثقافات وأهمية التعاون المسيحي
الإسلامي لترقية العدل والقيم الروحية. وكل هذا مجرد كلام
في كلام. فلا السعودية رائدة في الحوار حتى مع مواطنيها
المختلفين، ولا هي نموذج التعايش السلمي، ولا هي من يقبل
الآخر بأفكاره، خاصة وأن هذه القضية من المسلمات في المملكة
يكررها الكتاب في الصحافة المحلية صباح مساء. ما قالا
أنهما يشتركان فيه مجرد دعاوى غير صحيحة. حتى البابا نفسه
أظهر موقفاً سياسياً وفكرياً عنيفاً ضد المسلمين في العديد
من المناسبات، كان آخرها محاضرته التي ألقاها في جامعة
ألمانية حين ربط الإسلام بالعنف.
إذن ماذا يريد الملك من زيارة البابا، وماذا أراد البابا
من رسالة يوصلها إليه.
الملك أراد إظهار التسامح الوهابي المسعود، وهو تسامح
لم يوجد على مدى التاريخ السعودي/ الوهابي لا مع المسلم
المختلف ولا مع غير المسلم، ولا مجال هنا للتفصيل.
أما البابا، فأراد استثمار زيارة الملك ليخفف من غلواء
التشدد السعودي تجاه المسيحيين من العمال الأجانب، فأشار
الى الوجود الإيجابي والمثمر للمسيحيين في السعودية. في
ذات الوقت تمت تهيئة تصريح يليق باستقبال الملك عبدالله،
بحيث يذكره بما يريده البابا. فقد صرح الأسقف المسؤول
عن الكاثوليك في منطقة الخليج بول هيندر من مقره في أبو
ظبي: (آمل أن يكون هناك ـ في السعودية ـ المزيد من الأمن
والحرية لأبنائنا). وأضاف: (أنا لا أتوقع أن أتمكن من
بناء كاتدرائية، لكن على الأقل نحتاج الى حرية العبادة
في أمان). وتساءل مسؤولو الفاتيكان عن سبب حظر بناء الكنائس
في السعودية، بينما يستطيع المسلمون بناء مساجد في أوروبا،
خاصة وأن هناك ما يصل الى 1.2 مليون مسيحي في السعودية
غالبيتهم من العمال.
والى وقت قريب لم يكن المسيحيون قادرين على ممارسة
عباداتهم حتى في منازلهم، وقال هيندر ان القواعد التي
تنظم العبادات الخاصة لغير المسلمين في السعودية ليست
واضحة وعرضة للتفسير من قبل متشددين في المواقف المختلفة.
وتابع: ما هي الحدود، وكم عدد الاشخاص الذين يمثلون جمعاً
خاصاً؟ ما مدى ارتفاع الاصوات الذي يمكن ان نصل اليه خلال
مراسمنا؟ ليس هناك قواعد محددة . وأضاف: إن ذلك يترك للشرطة
هامشا للحكم على كل حالة. واذا كان هناك متشدد في موقع
مسؤولية فليس هناك حماية ويمكن ان تتهم بسرعة بعمل شيء
غير قانوني حتى لو اعتقدنا انه قانوني.
وتمنى هيندر أن تسمح السلطات السعودية للمسيحيين باستخدام
قاعات لا يظهر من الخارج أنها أماكن عبادة. وقال: أهم
شيء هو أن نحصل على إمكانية التجمع بحرية، والأمن في ممارسة
عبادتنا وقداسنا وأنشطتنا. وحث هيندر السلطات السعودية
أن تسمح للمزيد من رجال الكنائس بدخول البلاد لتوجيه الكاثوليك.
|