بعد بلادها.. العراق وفلسطين ولبنان
السعودية.. مشروع تقسيم داخلي
يحي مفتي
رغم معارضتها لأي مشاريع تقسيم للكيانات الجيوسياسية
القائمة، وخصوصاً تلك التي تمثّل وجوداتها ضمانة أمنية
لبقائها، إلا أنها على استعداد للدخول في مشاريع تقسيم
داخلية، كتلك التي مارستها في الداخل حين اعتنقت مبدأ
إبقاء القسمة الداخلية من أجل توحيد السلطة المركزية.
هذا على مستوى دولتها، ولكنها بالنسبة للخارج، فإنها تميل
الى تحقيق مشروع الانقسامات الداخلية من أجل إضعاف مصادر
التهديد المحتملة لها (العراق مثالاً)، أو من أجل النفوذ
اليها (لبنان مثالاً)، أو السيطرة عليها (فلسطين مثالاً).
من حيث المبدأ، تتوجس العائلة المالكة من أية مخططات
تقسيمية في الخارطة الجيوبوليتيكية الإقليمية، ليس حرصاً
على وحدة الدول القائمة ولا انطلاقاً من عقيدة دينية أو
حتى سياسية، ولكن خوفاً من انتقال العدوى الى الدار، ولذلك
تنبري بعفوية الى مناهضة التقسيم. يبقى اليمن مثالاً ناشزاً
في تلك المعادلة لأسباب خاصة، فالسعودية كانت دائماً تخشى
الدول القويّة التي تهدد وحدتها الداخلية أو تمتلك أدوات
الإستقلال، ولذلك خالفت ميولها الفطرية في المثال اليمني،
فدعمت حركة إنفصال اليمن الجنوبي خلال الحرب الأهلية العام
1994، ثم قامت بعد إعادة توحيد شطري اليمن الشمالي والجنوبي
بدعم حزب التجمع الوطني للإصلاح الإسلامي. تاريخياً، كانت
اليمن ساحة لمشاريع تقسيمية سعودية تعتمد وتتغذى بدرجة
أساسية على الإنقسامات السياسية والإجتماعية.
فلسفة الوحدة في المنظور السعودي لا تنبعث من رؤية
قومية عروبية ولا عقدية إسلامية، وإنما هي تدور في فلك
الدولة التسلّطية التي تعزّز وجودها من تكاثر النظائر
المتساندة، أي وجود دول تسلّطية أخرى تحمل ذات السمات
والخصائص بما يشرعن وجودها، كونها تعيش ضمن محيط متماثل،
وفي الوقت نفسه تضمن مساندة الدول الأخرى التي تكفل وحدتها
من رفض أي تغيير في بنية الدول وكذلك أنظمة الحكم. ولذلك
عارضت الوحدة العربية بين مصر وسوريا، والعراق لاحقاً،
وعملت على تخريب مشروع الوحدة العربية عبر تمويل عمليات
إغتيال لجمال عبد الناصر، وتقديم عروض مالية مغرية لشخصيات
سياسية في سوريا والأردن للمشاركة في مخطط تخريبي يعيد
الجمهورية العربية المتحدة الى أجزائها الأولى.
في المقابل، لم يثبت حتى الآن أن شارك أمراء العائلة
المالكة بصورة مباشرة أو عبر حلفائها من شخصيات وقوى سياسية
عربية أو إسلامية في مشاريع تفتيت الكيانات الجيوبولتيكية
القائمة، خشية أن تفتح تلك المشاريع نفقاً يعبر منه المتربّصون
بوحدتها، فضلاً عن هشاشة الدولة التي يديرونها وتعدد المنافذ
التي تسمح لهم بتشجيع عناصر التقسيم في الداخل.
إذاً، فالعائلة المالكة تعارض تقسيم الدول المحيطة
وربما البعيدة المحمّلة بنذر شؤم عليها، ولكنها في الوقت
ذاته على استعداد تام للضلوع في مشاريع تقسيم داخلية،
أي داخل حدود الدول الأخرى، بما يحقق نفوذاً واسعاً لها،
وإضعافاً لقدرة الأخيرة على توجيه تهديد لها، وإبقائها
مرتهنة لدعمها المالي والسياسي.
يتحدث المسؤولون العراقيون عن تمويلات سعودية لمنظمات
إنشقاقية سنية وشيعية وبعثية، ويتحدث اللبنانيون عن أموال
طائلة لمنظمات متطرفة مثل (فتح الاسلام) أو حتى الجماعات
الموصولة بتيار المستقبل الذي يقوده الحريري، ويتحدث الفلسطينيون
عن أموال الى مستشار الأمن القومي الفلسطيني السابق محمد
دحلان من أجل إسقاط حكومة حماس. لماذا كل ذلك؟
يعتقد كتير من المراقبين أن مصدر تميّز السعودية يكمن
في قدرتها على توظيف الإسلام في معاركها السياسية، لسببين
أساسيين أنها تسيطر على إدارة الحرمين الشريفين، ما يسبغ
على الدولة السعودية مسحة دينية، والسبب الثاني وجود مؤسسة
دينية مشرعنة للدولة ومشبّعة، أي المؤسسة الدينية، بنزعة
شديدة التطرف إزاء الآخر المسلم وغير المسلم ويمنحها حق
الدعوة ولو عن طريق القوة، الأمر الذي يزودها بقدرة فريدة
على اختراق المجتمعات العربية والإسلامية ذات الطبيعة
المحافظة. في ضوء ما سبق، يمكن المجادلة بأن لجوء العائلة
المالكة الى عوامل التقسيم مذهبية كانت أم قبلية أو حتى
مناطقية تستمد قوتها من القدرة التمويلية الهائلة التي
تتمتع بها العائلة المالكة في صنع الأنصار المرتزقة وتوظيفهم
في معاركها السياسية الداخلية، تماماً كما جرى، للأسف،
مع مجموعات فلسطينية في لبنان حيث تمّ تمويلها لخوض مشاريع
مناهضة للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وانخرطت
في معارك لبنانية ـ سعودية على أرض لبنان، كتلك التي جرت
في مخيم نهر البارد في الشمال اللبناني، وقد يجري التحضير
لمعارك أخرى في المخيمات الفلسطينية بتمويل لبناني سعودي.
لقد حذّر مسؤولون في أكثر من بلد عربي تزاول السعودية
على أراضيها نفوذاً ودوراً تقسيمياً من مغبّة الإنجرار
الى لعبة قذرة تستهدف تثمير الإنقسام الداخلي لدعم فريق
سياسي على حساب آخر، أو تجنيد طائفة ضد أخرى. وكنا عبر
صفحات (الحجاز) قد حذّرنا العائلة المالكة من مخاطر التشرذم
السياسي على قاعدة مذهبية، فيما الفضاء العام مفتوح لها
من أجل ممارسة دور توحيدي يمنحها قدرة أكبر على النفوذ
المعنوي ويحفظ لها مكانة خاصة في نفوس الجميع وليس فريق
سياسي أو طائفة.
دحلان: مشروع السعودية في حرب غزة
|
المرونة المفقودة لدى العائلة المالكة في علاقاتها
الخارجية وخصوصاً في الدائرتين العربية والإسلامية، وإحساسها
المتضخم بالخطر على قاعدة مذهبية بدرجة أساسية يجعلها
دائماً حبيسة هواجس متخيّلة يعزّزها حلفاؤها عبر معلومات
مفبركة أو مضخّمة. يدهش المرء ما يقرأ في تصريحات الأمراء
الكبار من أرقام فلكية تعكس الخطر المتضخم. في تصريح ورد
في مقابلة مع مجلة (نيوزويك) لوزير الخارجية الأمير سعود
الفيصل في 13 نوفمبر جاء فيه أن (الإيرانيين طرحوا فكرة
أن تحل قوات عراقية هربت الى إيران في عهد صدام حسين (4
ملايين فرد)، مكان قوات التحالف، وهذا الأمر تم رفضه لأنه
غير واقعي، وفي الوقت ذاته عدواني). فهل أخبرنا الأمير
عن مصدره في هذا الرقم الفلكي، وكأن الجيش العراقي بكامله
قد انتقل الى إيران خلال حرب الثماني سنوات أو وقع في
أسر القوات الإيرانية ويجهّز الآن للحلول مكان قوات التحالف،
والمصيبة أن يرد هذا الرقم في مجلة أميركية من العيار
الثقيل. الملك عبد الله نفسه كان قد أفصح عن رقم فلكي
آخر لوزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري حين قال له
(ما لم تطردوا 3 ملايين جندي إيراني من العراق فلن تشهد
بلادكم إستقراراً)، وقد أثار ذلك الرقم سخرية الوزير العراقي
واستخفافه بالمصادر التي يعتمد عليها الملك. وكان السفير
الأميركي السابق في العراق زلماي خليل زاد قد زار السعودية
قبل سنوات والتقى الملك وعدداً من الأمراء فواجهوه بوثائق
ومعلومات مثيرة للشفقة والدهشة كونها مزوّرة حول هوية
رئيس الوزراء العراقي وأنه عميل لإيران، وأن هناك 3 ملايين
جندي إيراني داخل العراق، فما كان منه الا أن قال لهم
من أين تأتون بهذه المعلومات وكيف لم نشعر بها نحن المتواجدين
على أرض العراق، وأن الوثائق التي بحوزتكم هي مزوّرة،
إلا أن الأمراء أصرّوا على موقفهم، ما دفع بالسفير زاد
الى توجيه إنتقادات علنية للسعودية في مقالة بصحيفة نيويورك
تايمز في يوليو الماضي واعتبر سياساتها مناهضة للإستقرار
في العراق.
وإذا ما وضعنا ذلك مع تصريحات للملك عبد الله لصحيفة
(السياسة) الكويتية في يناير الماضي تنذر بالتدّخل في
الشأن العراقي دعماً لأهل السنة، في حال إنسحبت القوات
الأميركية في العراق، وانتشار تقارير عن تمويل سعودي لجماعات
مسلّحة مرتبطة بتنظيم القاعدة لزعزعة النظام العراقي،
وإعداد مخطط يشارك فيه رئيس وزراء العراق الأسبق إياد
علاوي لإسقاط حكومة المالكي، فإننا نجد بأن العائلة المالكة
باتت في الرؤية العراقية الشعبية والرسمية معاً ضالعة
في مخطط تقسيمي داخلي، وإن عارضت مشروع تقسيم العراق،
لما له من تداعيات عليها، فضلاً عن كون التقسيم سيقوّي
طرفاً ويضعف آخر.
لبنانياً، فقدت السعودية وجهتها السياسية بعد أن حقّقت
نجاحاً إستثنائياً من خلال تجميع الفرقاء اللبنانيين في
الطائف وإصدار وثيقة الوفاق الوطني في نوفمبر 1989 التي
أسست لدولة ما بعد الحرب الأهلية، وقد اعتبرت الوثيقة
أساساً يستند إليه بالرغم من تحفّظات وانتقادات الفرقاء
كافة على بعض نصوصها، الا أن الأخير تمسّكت بمبدأ دستوري
مازال جميع الفرقاء سواء من الموالاة أو المعارضة يحتكم
إليه وهو مبدأ العيش المشترك.
ومنذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في الرابع
عشر من فبراير 2005، وخسارة السعودية لأكبر شخصية نافذة
تعتمد عليها في لبنان، إنزلقت نحو الفرقية، وبدأت تعزيز
الإنقسام الداخلي عبر خوض معارك الفرقاء المحليين، حتى
أصبحت جزءً أساسياً من لعبة التقسيم. ومنذ خروج القوات
السورية من لبنان في 26 أبريل 2005، كانت السعودية تعتقد
بأنها قد حصلت على فرصة تاريخية لملء الفراغ الأمني في
لبنان، ولعجزها عن إرسال قوات عسكرية الى لبنان، لجأت
الى حلفائها في الداخل، وتقديم الأموال لهم لمواجهة من
أسموهم بحلفاء سوريا في لبنان.
وكما في العراق، فإن السعودية دخلت الى لبنان عبر الحالة
الفرقائية، ولذلك لم تقبل أي مشروع توافقي داخلي، فقد
نظر إليها فريق المعارضة على أنها جزء من فريق السلطة،
المدعوم أميركياً، وفرنسياً. استنزف السفير عبد العزيز
خوجه جهوده التوفيقية بوحي من عقيدته السياسية والدينية
كفرد، ولكن توجيهات حكومته أملت إتجاهاً آخر، فما إن يقترب
من نقطة التوافق حتى تتبدد جهوده فيصبح للأمراء أجندة
أخرى يفصح عنها تارة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري،
أو رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط، أو رئيس حزب القوات
اللبنانية سمير جعجع.
بدء مرحلة التجاذب الداخلي مع اقتراب الإستحقاق الرئاسي
أقحمت السعودية في أتون صراع طرفي هابط، ففي ظل سباق المسافات
القصيرة التي يقطعه بعض الأقطاب التوافقيين في لبنان تتدخل
السعودية لدعم مرشح على حساب مرشحين آخرين لم يحسم الجدل
حولهم، الأمر الذي أدّى الى تعطيل دورها التوافقي المأمول،
إلى درجة توقّف النداءات التي كانت تنطلق من رئيس مجلس
النواب وعدد من الإعلاميين والسياسيين في لبنان الى السعودية
من أجل التدخل للعب دور الرعاية، فيما أصبح الفرنسي هو
اللاعب الرئيسي في لبنان، نيابة عن الأميركي.
على العكس، هناك من اللبنانيين من طالب السعودية بوقف
دورها التقسيمي عبر دعم أحد المرشّحين وتجاهل مواقف الفريق
الآخر. فقد دعا رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني الوزير
السابق طلال أرسلان في 23 أكتوبر الماضي السعودية (الى
رفع الغطاء علناً عن مرشح النصف زائد واحد لأنه انبعاث
للفتنة الداخلية). ويشرح ذلك بما نصه (إن سلوك بعض المسميين
على المملكة في لبنان يتعمّد بقصد أن يصور لأكثرية الشعب
اللبناني بأن المملكة أصبحت فريقاً أساسياً في الخلافات
اللبنانية الداخلية تستعدي الأكثرية الشعبية لصالح الأكثرية
البرلمانية الوهمية وحكومتها). وقال بأن هناك من يحاول
(الاستظلال) بالسعودية لتمرير مصالحه الشخصية على حساب
لبنان وتنفيذ موجبات رهاناتهم على حساب وحدة أهله (وأكثر
من ذلك من الانقلابيين من يرتكب جرم التهديد المستدام
بالفتنة المذهبية، الشيعية – السنية بالتحديد بطريقة توحي
للناس بأن المملكة العربية السعودية لا تعترض على الفتنة
ان لم تكن تشجع عليها).
رئيس تيار المردة سليمان فرنجية قال في مقابلة مع قناة
(أو تي في) التابعة للتيار الوطني الحر الذي يقوده الجنرال
ميشيل عون في 23 أكتوبر الماضي بأن الموالاة لديها مرشح
واحد وهو نسيب لحود، لأن الأخير هو مرشح السعودية. وقد
أشارت الصحف اللبنانية الى أن الأخيرة تشارك في تحرّك
من أجل توفير مظلة امنية للإستحقاق الرئاسي عبر تمويل
الخطة الأمنية لحماية نوّاب الموالاة من أجل إنجاز خطة
ترشيح رئيس بالنصف زائد واحد. هناك من لفت الى أن المعارضة
رفضت تدّخلاً سعودياً وقبلت بمصر للعب دور الوساطة بين
الفريقين اللبنانيين: فهل أصبحت مصر بديلاً عن السعودية
في إدارة عملية التسوية بين الموالاة والمعارضة، بعد انتقادات
واسعة من الزعماء اللبنانيين المحسوبين على المعارضة لدور
السعودية التقسيمي؟.
خلاصة الأمر، لم تحد العائلة المالكة عن نهجها في الدخول
الى البلدان العربية المضطربة أو المرشحة للإضطراب عبر
فريق موالٍ لها، أو تكون فيها قادرة على اختراق فرقه وقواه
السياسية أو الاجتماعية، وكأنها تصرّ على إرتكاب الخطأ
تلو الآخر، بالرغم من إدراك من وقع عليهم الخطأ تماماً
لما تقوم به العائلة المالكة وما تهدف إليه من وراء ذلك،
فإذا فشلت رهاناتها حصدت كفلاً مماثلاً من الخسارة التي
تكبّدها الفرقاء الموالون لها.
|