السعودية وأنابوليس
شرعنة (الدولة اليهودية)
عبد الوهاب فقي
أنابوليس بكل موضوعاته وأهدافه كان رفضاً ضمنياً لمبادرة
السلام السعودية التي أعلن عنها أول مرة في بيروت سنة
2002، وأعيد طرحها معدّلة في قمة الرياض في مارس الماضي.
وبالرغم من أن إيهود أولمرت أتى في كلمته أمام الوفود
العربية المشاركة في المؤتمر على المبادرة، ولكن كلمتي
بوش وأولمرت تجاوزتا بنود المبادرة السعودية، وتحوّلت
الوفود العربية الى مجرد شهود على إعلان إسرائيل دولة
للشعب اليهودي، بما تحمل من دلالات بالغة الخطورة من بينها
إلغاء حق العودة للشعب الفلسطيني. فهذه الدولة اليهودية
تحظى بشرعية من خلال حضور العرب، الذي تمّ بحسب وزير الخارجية
الأمير سعود الفيصل على قاعدة الإجماع، الذي تم توظيفه
في المؤتمر لصالح إتفاق ثنائي أميركي ـ إسرائيلي على إعلان
إسرائيل دولة لليهود.
وصف الحضور السعودية بأنه شرعنة لمشروع بوش ـ أولمرت
بالنظر الى الدور الذي لعبته السعودية عبر ممثلها المثير
للجدل، الأمير بندر بن سلطان طيلة سنة 2007 من أجل الإتفاق
مع المسؤولين الإسرائيليين على إخراج مناسب ومقبول لتسوية
عربية ـ إسرائيلية تقوم على التطبيع مقابل السلام، وإلغاء
حقوق ثابتة للشعب الفلسطيني مثل حق العودة، وهو ما أفاد
منه أولمرت في أنابوليس وكذلك وزيرة خارجيته تسيبي ليفني
التي وضعت شرط السماح بقيام الدولة الفلسطينية في حدودها
الحالية بإسقاط حق العودة (والغريب أن قناة العربية إختارت
هذا اليوم لنشر تصريحات ليفني في برنامج تطبيعي بامتياز)،
بل أن أولمرت صرّح بأن الفلسطينيين الراغبين في العودة
الى ديارهم فستكون الضفة الغربية وقطاع غزة هي المكان
النهائي الذي سيحتضنهم، بما يخفي مشروعاً آخر يتم تحضيره
منذ سنوات، أي مشروع التوطين الذي كشفت معلومات خلال العام
الماضي بأن هناك دولاً خليجية مثل السعودية والكويت والإمارات
وقطر على استعداد لتمويل المشروع وتقديم تعويضات سخيّة
لفلسطينيي الشتات من أجل إقفال ملف حق العودة، بل لا يستبعد
أن يتم إخراج مليون وربع المليون فلسطيني داخل حدود 48
الى مناطق السلطة الفلسطينية.
وبالرغم من أن مؤتمر أنابوليس حمل معه فشله قبل ولادته،
فكان بمثابة حمل كاذب، فلم يحدث ما كان يأمله السلاميون
من عرب وإسرائيليين وأميركيين، فلم يحقق أكثر من قفرة
في المجهول، إن لم يكن إستطابة الاستسلام على حساب الشعب
الفلسطيني، ولكن أخطر ما في المؤتمر أنه كشف عورة الإجماع
العربي المزعوم، والأخطر أنه كشف مدى إستعداد المعتدلين
العرب للذهاب في مسلسل التنازلات عن حقوق ثابتة فلسطينية
وعربية وإسلامية، فقد حصلت إسرائيل على إعتراف عربي ضمني،
يراد له أن يكون إجماعياً وفي يوم ما إعلانياً، فيما قدّمت
هي عرضاً تافهاً يتمثل في إقامة دولة فلسطينية على حدود
الضفة والقطاع فحسب، بشرط تخلي العرب جميعاً عن حقوق الشعب
الفلسطيني وأهمها حق العودة، والتنازل عن القدس عاصمة
للدولة الفلسطينية.
ولكن السؤال: ماهو الدور السعودي في كل ما جرى؟
جواب ذلك ينقسم الى شقين، الأول ما قامت به السعودية
منذ سبتمبر 2006 وحتى انعقاد مؤتمر أنابوليس في نوفمبر
الماضي، حيث بذلت الدبلوماسية السعودية التي أدارها رئيس
مجلس الأمن الوطني الأمير بندر بن سلطان جهوداً مكثّفة
لجهة تسويق مبادرة سلام سعودية معدّلة بعد أن رفض الجانب
الاسرائيلي صيغتها الأولى، بعد أن فرض الأخير شروطه الثابتة،
وهي اعتراف عربي رسمي بالدولة العبرية، واعتبار القدس
عاصمة لها، وتخلي الفلسطينيين عن حق العودة مقابل تعويض
عربي لهم كجزء من مشروع توطين في الدول التي تضم مخيمات
فلسطينية مثل سوريا والاردن ولبنان.
عوّلت السعودية كثيراً على قدرتها الدبلوماسية وإمكانياتها
المالية في إقناع الدول العربية الأساسية، وقد نجحت بالفعل
في إقناع بعضها مثل الإردن، وتونس وإلى حد ما مصر رغم
ترددها في أن تكون في مقدمة الدول، ولكن السعودية واجهت
ممانعة صلبة من دول وقوى ممانعة عربية وإسلامية، ما جعل
مبادرة السلام العربية التي أعيد طرحها في الرياض في مارس
الماضي أمام محك مصداقية دينية وسياسية، فالسعودية التي
سعت الى تقديم نفسها كمدافع عنيد عن حقوق الشعب الفلسطيني
في مقابل الدعم الإيراني لحركات المقاومة الفلسطينية،
فإنها باتت الطرف الأكثر إستعداداً للتخلي عن تلك الحقوق
في مقابل أطراف عربية مثل سوريا.
لم تنجح السعودية في الحصول على إجماع عربي لتسويق
مبادرتها للأميركيين والإسرائيليين وللغرب عموماً، وراحت
تمارس دور الراعي للفلسطينيين عبر الاحتفاء بقيادتي فتح
وحماس والجهاد، سواء عبر دعوتهم لزيارة الأماكن المقدسة،
أو استضافتهم لعقد إتفاقات سياسية على أراضيها، كما جرى
في اتفاق مكة، الذي لم يصمد طويلاً بفعل تعنّت أطراف فتحاوية
يمثلها رئيس مجلس الأمن القومي الفلسطيني السابق محمد
دحلان، وتحظى بدعم الأمير بندر بن سلطان.
على أية حال، أخفقت السعودية في الحصول على مظّلة عربية
رسمية لمباركة مبادرتها في السلام، وتركت الباب مفتوحاً
أمام ترتيبات سريّة تشتمل على تكثيف الضغوطات على الأطراف
الممانعة كيما ترضخ لمنطق الواقعية السياسية بالمفهوم
الأميركي.
في ضوء ما سبق، يمكن القول بأن الدور السعودي يملي
رسم خط فاصل بين تمظرين سياسيين للحكومة السعودية. أولاً،
كون السعودية جزءً من معسكر ما يعرف بالمعتدلين العرب
الذين يشكّلون حلفاً ضد ما يصفه الرئيس بوش بالأشرار.
وهذا التحالف يصنّف إيران، سوريا، حماس، وحزب الله بوصفها
مصدر تهديد تماماً كما هي القاعدة. ثانياً، كون السعودية
جزءً من العالمين العربي والإسلامي، فإنها تلتزم بالمصالح
المشتركة مع الدول المجاورة وعلى أفق واسع الدول المنضوية
في هذين العالمين.
وقد لحظنا في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أن
السعودية سعت الى إستئناف الدور المزدوج الذي كانت تلعبه
خلال الحرب الباردة في السياسات الإقليمية والدولية. وقد
شعرت الرياض بالتهديد على وقع تداعيات تلك الهجمات، ولذلك
كرّست جهودها لجهة إعادة بناء تحالفها مع الولايات المتحدة
والغرب بصورة عامة، من خلال الإمتثال للأجندة السياسية
لدى إدارة بوش.
على أية حال، فإن هذه الإزدواجية السياسية فشلت في
تحقيق منجز سياسي لافت، بفعل الإستقطاب الحاد على المستويين
الإقليمي والدولي، حيث لم يكن بإمكان السعودية أن تمارس
الدور ونقيضه في عالم يبدو منقسماً على نفسه، ولا يحتمل
مواقف مترددة، أو تقلّبات حادة وسريعة، كأن تكون السعودية
في جبهة الممانعة وفي جبهة المساومة في آن واحد، فليس
هناك مساحة للمناورة، أو مكان للإزدواجية في صراع المصالح
القائم حالياً في ظل القطبية الأحادية، والتي لا تسمح
للسعوديين بأن يلعبوا دوراً غامضاً.
ورطة المشاركة السعودية في مؤتمر أنابوليس تمثّلت في
رهانها الكبير على نتائجه، ولذلك نفهم من تصريح وزير الخارجية
السعودي الأمير سعود الفيصل بأن فشل مؤتمر أنابوليس سيقود
المنطقة الى اتجاه جديد، أي دعم الإرهاب. أهداف المؤتمر،
كما أعلن عنها، تتلخلص في تشكيل تحالف دولي ضد إيران،
وتوفير مشتركات جديدة وصلبة بين العرب والإسرائيليين وصولاً
الى التطبيع بين الجانبين.
السعودية، شأن دول خليجية أخرى، تخشى الحرب بين أميركا
وإيران، لأن الخاسر فيها ليس طرفاً واحداً، بل ستكون كارثية
على على المنطقة بأسرها، ولذلك فهي وضعت ثقلاً كبيراً
من أجل توفير عناصر نجاح أنابوليس إعتقاداً منها بأنها
تهدي الرئيس بوش منجزاً سياسياً ظلَّ يسعى للحصول عليه،
من أجل وقف غريزته الحربية. وربما يفسّر ذلك، مضي بوش
وأولمرت الى رفع سقف تطلعاتهما السياسية من خلال إعلان
إسرائيل دولة خاصة بالشعب اليهودي.
بين هذه التجاذبات السياسية والتطلّعات الصادمة لدى
الإسرائيليين بدعم أميركي، شعرت السعودية بأنها أمام موقف
شديد الحراجة، إذ أنها تدفع ثمناً باهظاً للغاية من أجل
تجنيب المنطقة كارثة عسكرية، خصوصاً وأن النتائج لن تكون
بالضرورة لصالح الأميركيين، وهو ما نبّه إليه الأمير سعود
الفيصل في مقابلة مع مجلة (تايم) الأميركية عشية إنعقاد
مؤتمر أنابوليس، حين قال عن تداعيات فشل المؤتمر بأن (النزاع
المقبل سيكون بالغ الخطورة وقد رأينا مؤشرات على ذلك (من
قبل)، ويتعين على اسرائيل بصفة خاصة ان تقلق من هذا فقد
ظهرت بعض نقاط الضعف لديها في مغامرة لبنان (الحرب على
لبنان عام 2006) وهي ليست غائبة عن أذهان الجميع). إذن
الخوف السعودي ليس فقط من مجرد إندلاع الحرب، بل من نتائجها
غير المضمونة أيضاً، على غرار نتائج حرب لبنان التي راهنت
السعودية على خسارة حزب الله فيها، فجاءت النتيجة صادمة،
بتحقيق الأخير إنجازاً عسكرياً باهراً.
إنه الخوف السعودي من إنجاز عسكري مماثل تحققه إيران
في المنطقة وتدفع ثمنه السعودية والمنطقة عموماً. ولاشك
أن الهواجس السعودية تتجاوز ذلك بكثير، وتصل إلى حد توقّع
زعزعة نظامها وربما زواله في حال تعرّضت المنطقة إلى هزّة
عنيفة بحجم الحرب على العراق، إذ مازال ملف تقسيم السعودية
على الرف الأميركي، وقد كشفت عن عنوانه الوزيرة رايس في
الأيام الأولى في حرب تموز 2006، حين تحدّثت عن شرق أوسط
جديد، ثم نشرت خارطته فيما بعد مواقع عسكرية أميركية.
لم تحقق السعودية إختراقاً على المستويين الفلسطيني
والعربي، وربما زهدت في ذلك بعد سلسلة إخفاقات في قضايا
كانت تراهن عليها مثل فلسطين ولبنان والعراق، بالرغم من
أنها مازالت تحاول وفي أحيان كثيرة بصورة منفردة، إلا
أن رهانها دائماً يستند على الخواصر الأضعف، وهو سبب كافٍ
لأن يهبها الفشل ويهب غيرها نجاحاً مع مرتبة الشرف.
وفيما تتخلى السعودية عن تحقيق إنجازات سياسية لافتة،
فإن دورها يقتصر على (دفع الضرر) الوشيك أو المحتمل، فيما
تسلّم غيرها زمام المبادرة سواء في لبنان (يديرها الفرنسيون
نيابة عن الأميركيين)، أو فلسطين (وخصوصاً بعد أنابوليس
والإتفاق على مفاوضات ثنائية فلسطينية إسرائيلية)، وفي
العراق (حيث تبلغ الغاية السعودية مستوى الحد من النفوذ
الإيراني)، أما أفغانستان فقد باتت في عهدة الناتو.
السعودية، وعلى لسان وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل،
كانت تخشى الفشل، لما يسفر عنه من نتائج كارثية، ليس على
المستوى الإقليمي بل وعلى المستوى المحلي أيضاً، وهي رسالة
غير مباشرة للولايات المتحدة من أجل ممارسة دور مؤثر في
عملية السلام، للحيلولة دون تجدّد مبررات الراديكالية
الدينية. ماخشي منه الفيصل قد غرس بذرة الراديكالية، فأنابوليس
لم تكن سوى شكلاً آخر من معاهدة فرساي المحرّضة على حروب
مستقبلية.
وجهة نظر فلسطينية حول مشاركة السعودية في مؤتمر أنابوليس
تقوم على استهجان المشاركة، ويقول عنان العجاوي: أن التطبيع
السعودي مع الصهاينة وبعكس الجميع يأتي كهِّبة مجانية
تمنح لإسرائيل وبدون أي مقابل تضيفه هذه الخطوة الإنبطاحية
لصالح القضية الفلسطينية). ويرى بأن التحالف الأميركي
ـ السعودي ـ الإسرائيلي موجّه ضد سوريا من أجل الضغط عليها
لفك تحالفها الإستراتيجي مع إيران، وحماس وحزب الله. فالمصلحة
السعودية تقوم، حسب الكاتب، على إبعاد وتنحية سوريا يبررها
قلق النظام السعودي من موقف شعبه في حالة استهداف سوريا.
في نهاية المطاف فإن السعودية بدأت علناً لِعبة التطبيع
مع إسرائيل أكّدتها لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين بما
ينفي التزامها بمبادرة عدم التطبيع حتى انسحاب اسرائيل
من كافة الأراضي العربيه لعام 67. فحضورهم هذا المؤتمر
المخيب للآمال هو بمثابة تنصل من تلك المبادرة المرفوضه
إسرائيلياً والإنسياق خلف المشروع الأميركي ـ الاسرائيلي.
الوفد السعودي المشارك في أنابوليس، جاء محمّلاً بالشيكات
و(الكاش) لسد أية ثغرات خلافية تعيق أطراف النزاع وإغراق
كل من هو على استعداد للإنضواء في مشروع السلام بصيغته
الأنابوليسية، فالفائض المالي لدى السعودية والبالغ 200
مليار دولار، قابل للتوظيف في مشاريع (التوطين) الفلسطيني،
و(التخريب) في العراق، و(التآمر) في لبنان، فدبلوماسية
المال تعود مجدداً في دولة تعجز عن توظيف غيره لتحقيق
منجزات غير مأمونة.
|