أميركا اللاديمقراطية
تكلم النفط فاسكت أيها الغرب!
Be nice to America or we will bring democracy to
your country
محمد قستي
خرجت السعودية والأردن ومصر من قائمة الدول المستهدفة
ديمقراطياً وحقوقياً، فرؤساء تحرير الصحف والناشطون الحقوقيون
يعتقلون في مصر، وجهاز المخابرات الأردنية يطوّر آلية
رقابية على الصحافة، ويتعرض الإصلاحيون للإعتقال التعسفي
في السعودية، وواشنطن لا يعنيها الأمر، كما لا تعنيها
عمليات التزوير في الإنتخابات التي جرت في مصر والأردن،
بقدر ما يعنيها قطع الطريق على أي جهة لا تحظى بالرضا
الأميركي كبطاقة عبور إلى السلطة، وإن جاءت عن طريق صناديق
الإقتراع. قرقيزيا، بورما، كينيا وغيرها تقع في دائرة
الإستهداف الديمقراطي الأميركي والأوروبي عموماً، ولكن
دول الإعتدال الشمولية باتت معفاة من الرسوم الديمقراطية.
مالذي يجمع بينهما؟: قبلة نفطية!
|
حققت الإدارة الأميركية فشلاً ذريعاً في مجال نشر الديمقراطية
في الشرق الأوسط، وباتت مجرد آلية لترسيخ الإستبداد فيه.
وأوصل المعتدلون العرب الأخ الأكبر الى قناعة مفادها أن
الإستبداد مصدر أساسي للإستقرار، وأن الديمقراطية مصدر
تهديد للمصالح الحيوية والإستراتيجية للغرب والولايات
المتحدة على وجه الخصوص.
في أكتوبر الماضي، تحدّث نائب مساعدة وزيرة الخارجية
الأميركية السابق سكوت كاربنتر عن فشل إدارة بوش في تطوير
إستراتيجيات تتكيّف مع كل دولة على حدة لتحقيق الديمقراطية
في العالم العربي، كما فشلت في العمل مع مجموعات وحكومات
في المنطقة من أجل وضع الإستراتيجيات حيز التنفيذ. وأوضح
كاربنتر بأن الرئيس الأميركي طلب من السعودية ومصر القيام
بمادرة لتطبيق الإستراتيجيات، إلا أنها لم تتجاوز مجرد
توصيات دون خارطة طريق.
أشغل المعتدلون العرب حليفهم الأميركي بالملف الأمني
في العراق، كيما ينسى تطبيق الحد الديمقراطي، بعد أن وصلت
رسالة أميركية من العراق الى القيادة السعودية بأن السعودية
مدرجة على قائمة العقاب الأميركي، وكان الصراع الأميركي
ـ الإيراني على خلفية البرنامج النووي فرجاً ومخرجاً للمعتدلين
العرب، الذين وجدوا فيه خياراً صالحاً لصرف الإنتباه عن
بلدانهم، وتوجيه بوصلة السياسة الأميركية باتجاه طهران
وليس الرياض والقاهرة.
من جانبها، وضعت واشنطن شروطاً على حلفائها المعتلدين
الشموليين من أجل تجنيبهم خيار الدمقرطة، وإزالة القلق
حيال الطريقة التي يدير فيها القادة المعتدلون جداً بلدانهم،
من بينها تقديم تنازلات إستثنائية في عملية السلام مع
اسرائيل، وعقد صفقات تسلّح بأثمان فلكية، ومضاعفة الجهود
في مجال الحرب على الإرهاب، وملاحقة مصادر تمويل المتطرفين،
وتوفير تسهيلات عسكرية للقوات الأميركية في المنطقة، وإجراء
إصلاحات تشريعية في مجال التجارة الدولية لجهة تسهيل مشاريع
الإستثمار الأجنبية، والتعاون في القضايا الإقليمية ذات
العلاقة بأمن الدولة العبرية وتفوّقها العسكري.
فرضت إدارة بوش تدابير صارمة ضد الحكومة العسكرية في
بورما في سبتمبر الماضي، ضمن ما أطلق عليه (بعثة التحرير)
التي قادتها الأمم المتحدة لدعم عشرات الآلاف من المتظاهرين،
ودعا بوش الهيئة الدولية لعمل ما في وسعها من أجل محاربة
الطغيان، والمرض، والجهل، والفقر وطالب بإصلاح المؤسسات.
ووضع في سياق حربه ضد (الطغاة) قائمة من الدول تشمل بيلاروسيا،
وكوريا الشمالية، وسوريا وإيران وزيمبابوي، وكوبا، تاركاً
الدول غير الديمقراطية الحليفة لولايات المتحدة خارج دائرة
الضوء. ومن الغريب أن ملاحظات بوش على هذه الدول تنطبق
بصورة أكبر على حلفاء أميركا في المنطقة، فقد سبقت مصر
بورما في فرض حالة الطوارىء، والحريات العامة مثل حرية
التعبير والكلام والإجتماع والعبادة المنتهكة في بورما
لا تقل إن لم تكن أسوأ في السعودية، كما تخبر تقارير حقوق
الإنسان وأخبار الإصلاحيين وما جرى عليهم، وعلى الصحافيين
ومانالهم، والحقوقيين وما أصابهم من عقوبات. وقد امتنعت
إدارة بوش في الضغط على الحكومة السعودية من أجل تحسين
ظروف الإصلاحيين، ولم تجهر باعتراضها على اعتقال الإصلاحيين
أو تهديد حياتهم، أو فصلهم من الوظائف، أو حرمانهم من
حق السفر والتنقل. لم نسمع أن إدارة بوش طالبت الأمم المتحدة
بالضغط على حلفائها الأوروبيين باستعمال أدواتهم الدبلوماسية
والإقتصادية بمساعدة القوى الإصلاحية من أجل تحقيق الحرية،
كما فعل بوش بالنسبة لبورما.
يسخر بعض المراقبين الأميركيين من الموقف الإستعراضي
الذي قام به الرئيس بوش بخصوص بورما، التي لم تعد ترد
على لسانه في الآونة الأخيرة، واعتبروه ترضية رمزية للمتظاهرين
البورميين على أساس أن مثل تلك التظاهرات قد تسفر عن نتائج
واضحة في حال اقتفت دول أخرى مثل الصين خطوات مماثلة،
وهي الشريك التجاري الرئيسي والحليف الإقليمي لها.
مواقف الرئيس بوش في موضوعة الديمقراطية تحوّلت الى
مثار سخرية في الشارع الأميركي. وفي عهد هذا الرئيس العتيد
إنتشرت عبارات ساخرة مثل (Be nice to
America or we will bring democracy to your country),
فلم تعد الديمقراطية مبدأ، ولا قيمة حضارية غربية، فقد
أحالها بوش وحلفاؤه الأوروبيون الى سلاح يهدد به حكومات
معينة، حتى باتت الديمقراطية صنواً للإحتلال، وتدمير الدول
مثل أفغانستان والعراق، فكلما أرادت القوة العظمى في العالم
معاقبة خصومها شهرت في وجههم الديمقراطية.
السعودية، من بين دول الإعتدال العريقة، فهمت رسالة
بوش في الديمقراطية فقابلتها بأحسن منها، فدرأت الديمقراطية
بالنفط، وحالفها الحظ أو سابق التخطيط والإصرار بين الشركات
النفطية الكبرى بأن تجعل من النفط سلاحاً برّاقاً، تبعد
به شبح الديمقراطية عن حدودها، فأغدقت على الغرب الديمقراطي
نفطاً سياسياً الى حد التخمة والفساد المالي والأخلاقي
الذي سيشغله لسنوات بملفات الرشى على غرار الرشوة الفلكية
التي حصل عليها الأمير بندر بن سلطان، وأفضت إلى نكسة
ديمقراطية وقضائية في بريطانيا.
قرار تخلي الإدارة الأميركية عن نشر الديمقراطية ليس
جديداً، فهو يعود الى منتصف عام 2006، ولكن الجديد فيه
هو ذلك السلوك الفاضح مع الدول المرضي عنها أميركياً وأوروبياً،
حيث أصبحت السعودية عضواً فاعلاً في مجلس حقوق الإنسان
التابع لهيئة الأمم المتحدة، وصارت تقارير الخارجية الأميركية
تشيد بتحسّن أوضاع حقوق الإنسان في السعودية، وصارت ليبيا
أثيرة لدى الغرب، فتسنّمت رئاسة مجلس الأمن، وألجمت إدارة
بوش بلجام من الديكتاتورية وهي تنأى عن البوح بتصريح يسيء
لحليفتها مصر في موضوعات التعديلات الدستورية والإنتخابات
واعتقال رجال الإصلاح والمعارضين، ولحظنا كيف تمتم الرئيس
بوش بكلمات غامضة حين سئل عن موقفه من الحكم على (فتاة
القطيف)، في موقف يبدي فيه عجزاً ديمقراطياً مذهلاً، وتذكّر
أن هناك من سبقه من المرشّحين للحملات الانتخابية في اطلاق
تصريحات شديدة اللهجة ضد الحكومة السعودية..
إدارة بوش تخلّت عن إستراتيجية نشر الديمقراطية، انطلاقاً
من دوران عجلة البترودولار، يذكّرنا ما قاله فرانك فيراسترو
من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية المستقل في واشنطن
في مايو الماضي بأن الإدارة الأمريكية أظهرت مزيدا من
الأداء المتناقض حيال لاعبين أساسيين في سوق البترول،
ما أثار إلتباسا حول أهدافها الأساسية. وأضاف فيراسترو
المتخصص بسياسة الطاقة إننا نستخدم (الديمقراطية) حين
نتحدث عن فنزويلا أو الشرق الأوسط، معتبرا أن هذا الأمر
يشبه أكثر فأكثر سياسة المصالح الآنية.
بوش يقول بأن (كل أمة متحضّرة تتحمل مسؤولية الوقوف
من أجل الشعوب التي تعاني من الديكتاتورية)، ويشير في
ذلك الى دول ميلابيلاورسيا، وكوريا الشمالية، وسوريا،
وايران التي وصفها أنظمة ديكتاتورية تنكر الحقوق الأصلية
لشعوبها كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولم
نجد دولاً أخرى لا يتمتع سكانها بالحد الأدنى من المشاركة
السياسية والحريات العامة ضمن القائمة النمطية لدى إدارة
بوش والحكومات الغربية بصفة عامة. وقد يأتي يوم تزول فيه
أسماء بعض هذه الدول في حال تطابقت المصالح وليس المبادىء
بينها وبين الولايات المتحد والغرب.
لم تعد دول مثل السعودية أو باكستان أو مصر، أو بقية
حلفاء الولايات المتحدة كحكومات أوتوقراطية واردة في التصريحات
الأميركية الناقدة، بالرغم من أن هذه الدول لم تغيّر ولم
تبدّل في نهجها الشمولي، بل تشعر الآن بأن ثمة غطاءً أميركياً
لكل ممارساتها الإستبدادية.
زيارة الرئيس الأميركي الى الشرق الأوسط في الثامن
من يناير لم تكن من أجل تشجيع الديمقراطية، ولا الضغط
على حلفائه المعتدلين جداً من أجل الإسراع في تطبيق أجندة
إصلاحية شاملة وفاعلة، بل هناك هدف واحد تشجيع عملية السلام
مع الدولة العبرية وحشد الدعم الإقليمي لها، وتوفير دعم
للقوى الحليفة للولايات المتحدة من أجل السير بمشاريع
الهلاك السياسي. ولذلك، فإن من كان ينتظر وصول المخلّص
الأميركي، ليس الشعوب ولا الإصلاحيين، ولا ضحايا حقوق
الإنسان، بل هم المعتدلون بالمقاييس الأميركية ممثلين
في دول الخليج الست زائداً مصر والأردن، الى جانب قوى
سلطوية في فلسطين ولبنان. فهؤلاء وحدهم ينتظرون هبات وجرعات
التأييد الأميركية، بعد أن فقدوا رصيدهم الشعبي والرسمي.
أتى بوش الى المنطقة بعد سقوط هيبة المنظمات الدولية
وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وبات العالم
كله في عهدة حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، فهو
يقرر إحتلال أو استقلال الدول وأحجامها أيضاً، كما يقرر
السلام والإستقرار في الشرق الأوسط، بل وفي العالم، كما
تخبرنا أزمة الدرع الصاروخية بين واشنطن وروسيا.
تحوّلت هيئة الأمم المتحدة وبصورة فاضحة إلى سلاح بيد
الولايات المتحدة، وكان مشيناً ذلك الإنغماس السافر في
شأن لبنان عبر إصدار قرارات متوالية لدعم الحكومة، وتحويل
منظمة دولية إلى مايشبه (شرطة الطريق السريع) لتسجيل المخالفات،
وتحديد الغرامات. لم يعد أعضاء هيئة الأمم المتحدة يمارسون
دوراً في (مهمة التحرير) التي ينعتها الرئيس بوش، لأنها
مصممة لغايات أخرى، لا شأن لها بالتحرير، ولا بالديمقراطية،
ولا حقوق الإنسان..
جاء بوش إلى المنطقة وقد أنهى مهمته في التحرير على
طريقته الخاصة.. يخطف موقف الشعب الأميركي برمته في تعبير
عن إحباطه من فشل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة
كون المجلس إلتزم الصمت حيال الإضطهاد الذي تمارسه هافانا
وكراكاس وبيونغ يانغ وطهران، وينتقد المجلس بشدّه لأنه
يولي إهتماماً بانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان الفلسطيني.
يقول ذلك كله، وإسرائيل الوديعة الوادعة لا تقوم بأكثر
من قصف البيوت واقتلاع الأشجار، وهدم المساكن، وإطلاق
النار العشوائي على المدنيين، ومنع سيارات الإسعاف من
إيصال جرحى رصاصها الى المستشفيات، وهي تدابير لا تستحق
أكثر من (ضبط النفس)، كما عوّدتنا بيانات البيت الأبيض،
وليس إلى انتقادات من منظمة دولية بحجم مجلس حقوق الإنسان
الذي لا يكاد يبين، وكل ذلك لأن واشنطن غير راضية عن أداء
المجلس الذي تريده مصمماً لمحاربة خصوم واشنطن في العالم.
تنبّه كثير من الجبابرة في الشرق الأوسط الى أن حملة
الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر تستهدف معاقبة
الدول العربية التي لا تمتثل لقيادة واشنطن في حربها على
العراق وفي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ولذلك قرروا
أن يعطوها ما تريد، ليحصلوا على بطاقة (معتدل) من الطراز
الأول، وإلغاء وصمة (العدو) أو (الشرير)، وكان لهم ذلك،
طالما أن نجاحاً نموذجياً قد حققه الحلفاء التاريخيون
للولايات المتحدة في مجال ضمان المصالح الحيوية لها، بما
يجعلهم في مأمن من عقاب ديمقراطي يسلبهم متعة الجبروت،
فليس هكذا تكافيء واشنطن من أخلص لها الطاعة وارتضاها
بلا شريك.
|