السعودية والعراق: الإلتفاف بسياسة جديدة
ناصر عنقاوي
خلال الأشهر الستة الماضية ظهر وكأن الحكومة السعودية
قد استقرّت على تبنّي سياسة جديدة تجاه الوضع في العراق.
الأمير مقرن رئيس الإستخبارات
|
السياسة القديمة كانت تعتمد وجهين: تمويل العنف في
العراق عبر بعض مشائخها، من خلال ارسال الأموال والرجال
للقيام بأعمال التفجير. هذا من جهة، فيما تقوم الحكومة
السعودية من جهة أخرى بإدانة ما يجري ودعمها للسياسة الأميركية
بشكل عام. وقد احتفظت الحكومة السعودية بهامش من الإستقلال
في الرأي بشأن الموضوع العراقي، مخالف للرؤية الأميركية،
فهي قد رفضت الإعتراف بالحكومة العراقية المنتخبة، وطالبت
بالمزيد من السلطات للسنّة العرب، كما أنها أدانت النفوذ
الإيراني في العراق، وهددت بإرسال جيوشها لمقاتلة الإيرانيين
حسب ما كتب نواف عبيد في إحدى الصحف الأميركية.
كانت للسعودية مصلحة في إفشال الجهود الأميركية في
العراق، حتى لا تتحول قوات المارينز للعمل في مهمة أخرى،
قد تكون السعودية نفسها ساحتها. اتفق معها في هذا الرأي
ـ والفعل ـ كل من سوريا وإيران اللتان ساهمتا في توريط
القوات الأميركية وإشغالها حتى أذنيها في المستنقع العراقي.
لكن ما بعد هذا التوريط الأميركي، الذي أريد منه حماية
السعودية نفسها، فإن الدول الثلاث تختلف في الصورة التي
يجب أن يكون عليها العراق. السعودية كانت ترفض ـ وبشكل
قاطع ـ التحاكم الى صناديق الإقتراعات التي ستأتي بأغلبية
شيعية أياً كان ميلها السياسي أو أيديولوجيتها السياسية.
كان خيار السعودية هو إعادة حكم البعث القديم بوجوه جديدة.
غير أن السعودية خلال الأشهر الماضية بدت مختلفة بنحو
ما.
هي لم تغيّر موقفها من الحكومة العراقية، ولم تفتح
سفارتها في بغداد بالرغم من أنها قالت بأنها ستقوم بذلك
قريباً حينما كانت تتعرض لضغوط مسؤولين أميركيين ـ وبينهم
زلماي خليل زاد ـ كانوا يتهمونها بتمويل العنف في العراق
بالمال والرجال، وبأنها لا تبذل جهوداً كافية لدى حلفائها
في العراق لإيقاف العنف وتهيئة الأرضية للمصالحة الوطنية.
في تلك الأثناء كانت الولايات المتحدة تستعد لتطبيق خطتها
الأمنية، وكانت بضغطها على السعودية تستهدف تحييد تأثيراتها
السلبية وإن لم تكن تطمع في تعاونها الجاد، كونها في الأساس
لا تمتلك أوراقاً كبيرة لتلعبها، عدا اوراق التخريب عبر
الدعم المالي والبشري لجماعة القاعدة والذي كان يمرّر
اليها عبر المشايخ المقربين من الأميرين سلطان ونايف.
في تلك الفترة ظهر وكأن السعودية قد غيرت اتجاهها،
وأعلن سعود الفيصل عن قرب فتح سفارة بلاده في بغداد. ولكنه
لم يفعل ذلك حتى الآن، وكأن فتح السفارة لازال يستخدم
كورقة سياسية ضاغطة على الحكومة العراقية التي يسيطر عليها
الشيعة والأكراد بشكل كبير.
حين تم تطبيق خطة أمن بغداد، وظهرت بعض النجاحات الملموسة،
مترادفاً مع مواجهات بين عشائر الأنبار وأتباع القاعدة
وتطهير المنطقة من الأخيرين.. وفي الوقت الذي جرى فيه
(تفاهم ما) بين سوريا وإيران من جهة والأميركيين بشأن
الوضع العراقي، ظهر أن هناك تغيراً في (التكتيك) السعودي
في الموقف من الوضع العراقي برمته.
فمن جهة زادت الحملة الداخلية ضدّ إرسال سعوديين للقتال
في العراق وفي غيره (لبنان مثلاً) حيث ظهر أن السعوديين
يساقون الى الموت وهم ينظرون، بلا هدف ولا قضية.. في هذا
السياق جاءت تصريحات المفتي المحذرة من القتال في الخارج،
وكذلك تصريحات الشيخ العودة التي فسرت على أنها ضد ابن
لادن.
ومن جهة ثانية ظهر أن الضحايا السعوديين كثر في العراق،
ولربما كان كثيراً من المقاتلين السعوديين قد قتلوا على
يد العراقيين من التنظيمات التي كانت حليفة بالأمس لتنظيم
القاعدة وللعشائر (العرب السنّة) الأمر الذي أشعل مرارة
في النفوس بين أهالي الضحايا الذين تعودوا على إقامة مجالس
العزاء بشكل متواتر.
ومن جهة ثالثة نجحت السعودية في إقناع الولايات المتحدة
الأميركية بأولوية مواجهة الخطر الإيراني في العراق، وقد
استجاب بوش لهواجس حلفائه المصريين والأردنيين والسعوديين،
وتصاعدت حمّى المواجهة السياسية والإعلامية بين ايران
وأميركا، ومما زادها لهيباً الملف النووي الإيراني.
أما الموقف من الحكومة العراقية الحالية، فقد رأت السعودية
صعوبة اقتلاعها شعبياً، أو عبر صناديق الإنتخابات، أو
إلغاء العملية الإنتخابية، أو إسقاطها بالعنف، وهي قضايا
كان السعوديون يراهنون على حدوثها. الذي ظهر مؤخراً هو
أن السعودية تتحرك في مسارين:
الأول ـ تشجيع من يستمع لها بين العراقيين بالدخول
في العملية السياسية واستحصال ما يمكن استحصاله من مغانم
السلطة، وزيادة رصيدها بشكل تدريجي مع توفير غطاء سياسي
عربي ضاغط على الحكومة العراقية لتقديم المزيد من التنازلات.
الثاني ـ الإطاحة بطاقم الحكم القائم في العراق، وهو
هدف قديم لم تتخلّ عنه السعودية. لكن الجديد هذه المرة
هو أن البديل ليس العودة الى حكم الأقليّة القديم، بل
الإتيان بوجه شيعي (إياد علاوي) يتولى الإطاحة بـ (العمائم)
عبر تعاونه مع بقايا النظام السابق، وعبر التغلغل في جهاز
الدولة. ويبدو أن حكومة المالكي قد تنبهت لذلك، فأعلنت
قبل بضعة أشهر تحذيراً مبطناً لبعض الدول دون تسميتها،
كما أن تلك الحكومة تأخذ على علاوي بأنه وراء دعم جماعة
(الزركة) التي خططت لاحتلال النجف وقتل المراجع الدينية
فيها، وأن الحكومة السعودية بشخص الأمير مقرن، رئيس الإستخبارات،
ضالع فيها.
أياً تكن الأحوال، فإن مستقبل العلاقات العراقية السعودية
غامض، حيث تحمل الحكومة العراقية السعودية مسؤولية الكثير
من الدماء التي سالت على يد مقاتلي القاعدة الذين هم في
أكثرهم جاؤوا من السعودية، كما أن الأخيرة لم تتوقف ـ
بنظر المسؤولين العراقيين ـ عن تصميمها في الإطاحة بكل
المشروع السياسي القائم.
|