صفقة إعلامية بين الرياض والدوحة
عاصفة (الجزيرة) تهبّ على مناطق أخرى!
هاشم عبد الستار
العلاقة بين الرياض والدوحة لم تكن على مايرام منذ
حادثة مركز الخفوس الحدودي في نهاية سبتمبر 1992 والذي
أسفر عن مقتل جنديين قطريين وجرح ثالث، وقد سكبت الحادثة
زيتاً في طريق العلاقات بين البلدين، ليفصل بين العاصمتين
الرياض ودوحة، ودفع بالدولة الصغيرة للخروج عن صمتها حيال
النزعة الوصائية لدى (الشقيقة الكبرى)، وقد صرّح حينذاك
مسؤول قطري بأن (المملكة السعودية اعتبرتنا دائماً بمثابة
تابع لها. لقد نضجت قطر وهي تعتزم إقامة علاقة من نوع
جديد مع الرياض)، ثم زاد الأمر تعقيداً بعد إكتشاف الدوحة
عن مخطط إنقلابي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي
تدبّره السعودية لإسقاط نظام الحكم في قطر.
تحررت الدوحة من ضغوطات الرياض منذ أن عقدت إتفاقية
دفاعية مع الولايات المتحدة، بعد حرب الخليج الثانية،
وقررت الدوحة أن تشق درباً مستقلاً عن هيمنة الرياض. ومنذاك،
بدأت العلاقات بين البلدين تشهد خضّات متفاوتة الشدّة،
بالنظر الى الموضوعات الخلافية بين البلدين سواء منها
على المستوى الخليجي، أو الإقليمي، أو الدولي. وبدأت إنطلاقة
الدوحة بوتيرة متسارعة، ما أثار غضب الرياض، كون الأولى
تتصرف بما يفوق حجمها السياسي، وأنها تلعب دور الكبار
ليس على مستوى المنطقة بل وعلى المستوى العالمي، بل تحوّلت
قطر إلى منافس حقيقي في قضايا كبيرة، بدءً من الخلافات
العربية العربية، وصولاً الى الملفات الدولية بين روسيا
والولايات المتحدة، إلى جانب الأدوار المتميزة في قضايا
فلسطين ولبنان.
بطبيعة الحال، لم يرق للرياض ما تعتبره (إستفزازياً)
قطرياً، ليس على خلفية دورها السياسي اللافت، إقليمياً
ودولياً، وإنما لأنها باتت قادرة على توظيف وسائل جديدة
قادرة على أكثر من مجرد (إزعاج) الشقيقة الكبرى وتهدد
إستقرارها، عبر المال السياسي والإعلام الفضائي.
سحبت الرياض سفيرها من الدوحة عام 2002، كرد فعل على
ما اعتبرته الرياض (إساءة) لها من خلال برامج إعلامية
تصفها بـ (المضللة) بثّتها قناة (الجزيرة) القطرية، بما
تمثّله كمتظهر لخروج قطر عن دائرة النفوذ السعودي. إعتبرت
الرياض أن الدوحة أصبحت حاضنة لكل المعارضين للسياسة السعودية،
الى حد اعتبار وجود أعضاء من جماعة (الإخوان المسلمين)
وعناصر من (الحوثيين) و(البعثيين) في قطر عملاً عدائياً
موجّهاً ضد السعودية، فيما لا تعتبر الرياض، مثلاً، وجود
أفراد مخالفين من العائلة الحاكمة في قطر على الأراضي
السعودية عملاً عدائياً، وقد تدرجه في سياق (الضيافة)
العربية.
في يوليو من العام الماضي، بدأت العلاقات بين الرياض
والدوحة تشهد تحوّلاً لافتاً، بعد (لقاء هام) جمع ولي
العهد السعودي الأمير سلطان ورئيس الوزراء ووزير الخارجية
القطري حمد بن جاسم لبحث موضوعات ساخنة، وكان إفتتاحاً
لحقبة جديدة من العلاقات السعودية القطرية. واللقاء، بحسب
مصادر (الحجاز)، كان يدور حول الحملات الإعلامية المتبادلة
بين الدوحة والرياض، على خلفية برامج بثّتها قناة (الجزيرة)
حول الفساد المالي للعائلة المالكة، كما ظهر في (صفقة
اليمامة)، واستضافة شخصيات معارضة للحكومة السعودية على
قناة (الجزيرة)، في سياق حملة إنتقادات واسعة دولية للرشى
التي حصل عليها الأمير سلطان وأبناؤه الأمراء بندر وخالد
وأمراء آخرون، والتي تسببت في جلبة عنيفة في مجتمع القضاء
البريطاني، بعد إيقاف التحقيق في دعاوى الفساد ضد شركة
بي أيه إي في قضية (اليمامة)، والتي حصد منها الأمير بندر
بن سلطان ملياري دولار، إلى جانب أشكال فساد أخرى مالية
وأخلاقية.
لقاء جدة بين الطرفين إنتهى الى (إتفاق جنتلمان) على
وقف الحملات الإعلامية المتبادلة، كمقدّمة لفتح الطريق
المسدود في العلاقات بين الرياض والدوحة، حيث بدأ فصل
جديد بزيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة الى جدة ولقائه
الملك عبد الله في ديسمبر الماضي، ثم حضور الأخير الى
قمة مجلس التعاون الخليجي في دوحة، بعد أن تغيّب عن القمة
الخليجية سنة 2002 على خلفية موقف الرياض من سياسة الدوحة
إزائها.
وكانت جريدة (الجريدة) الكويتية ذكرت في 24 سبتمبر
الماضي، أن قطر وافقت على طلب الرياض بأن تتوقف (الجزيرة)
عن مهاجمة النظام السعودي مقابل حضور الملك عبدالله لقمة
الدوحة. ونقلت الجريدة عن مصادر عربية وقطرية بأن الإتفاق
السعودي القطري على أن تعيد السعودية سفيرها إلى الدوحة
قبل نهاية العام الماضي، والسماح لقناة (الجزيرة) بإعادة
فتح مكتب لها في العاصمة السعودية، بشرط وقفها ما اعتبرته
الرياض (تجاوزات) حيال المملكة.
نشير الى أن إنطلاقة (الجزيرة) في منتصف التسعينيات
كانت علامة فارقة في الاعلام العربي، بسبب هامش الحرية
المسموح لها في تناول موضوعات حسّاسة، الأمر الذي خلق
مناخاً جديداً في العالم العربي، ودفع بدول أخرى لأن تحذو
حذوها، وما قناة (العربية) إلا رد فعل على (الجزيرة) في
محاولة لتطويق تأثيراتها على الرأي العام العربي والدولي.
قرار الدوحة بتخفيض نبرة الإنتقادات التي توجّهها قناة
(الجزيرة) للسياسة السعودية، كان مثار إهتمام الصحافة
الغربية والأميركية. وقد نشرت عدّة صحف أميركية مثل (هيرالد
تروبيون) و(نيويورك تايمز) مقالاً للكاتب الصحافي روبرت
وورث في الرابع والسادس من يناير الجاري بعناوين مختلفة،
وفيما يلي نص البيان:
حينما أصدرت محكمة سعودية حكماً بجلد فتاة تعرّضت للإغتصاب
200 جلدة في شهر نوفمبر بعد أن أصرّت على مقاضاة الرجال
السبعة الذين اغتصبوها فقد أثارت القضية إستياء عارماً
في كل انحاء العالم بما فيه الشرق الأوسط.
ولكن موجة الإستياء في قضية (فتاة القطيف) لم تشمل
قناة (الجزيرة) التي يشاهدها 40 مليون شخصاً. وكان صمت
(الجزيرة) ملفتاً للإنتباه لأنها كانت حتى فترة قريبة
وبعكس معظم المنابر الإعلامية العربية راغبة بل ومتحمّسة
لتوجيه إنتقادات عنيفة لحكام السعودية.
ويقول محلّلون إعلاميون أن (الجزيرة) شرعت منذ 3 أشهر
في التعامل بطريقة ناعمة مع العائلة الحاكمة السعودية.
ويبدو أن حكام قطر هم الذين فرضوا على إدارة (الجزيرة)
إعتماد لهجتها المتحفّظة الجديدة.
ومع أن حكّام قطر كانوا قد أسّسوا (الجزيرة) قبل عقد
من الزمن كمنبر ضد الحكومة السعودية بالدرجة الأولى فالظاهر
أنهم باتوا يعتقدون أنه لم يعد بوسعهم الإستمرار في استعداء
السعودية ـ (السنّية) مثل قطر ـ في ضوء التهديد الذي تمثّله
إيران. ويحتمل أن تكون طموحات إيران النووية مخيفة لدولة
قطر الصغيرة التي تستضيف قاعدة عسكرية أميركية كبرى.
وتمثّل السياسة الجديدة أحدث فصل في عملية تدجين الجزيرة
التي كان المسؤولون الأميركيون يعتبرونها مجرّد أداة دعائية
للإرهابيين. فقد توقّفت (الجزيرة) عن إطلاق صفة (المقاومة)
على المتمرّدين العراقيين، كما توقّفت عن إطلاق تسمية
(شهداء) على ضحايا الجيش الأميركي.
إن هذه السياسة الجديدة تظهر كيف أن وسائل الإعلام
العربية رغم الحريات الجديدة التي استحدثتها قناة (الجزيرة)
نفسها ما تزال تُعامل كأدوات سياسية لحكام المنطقة الأوتوقراطيين.
ويقول مصطفى العاني الباحث في مركز أبحاث الخليج في
دبي أن (دول الخليج باتت تشعر أنها كلها في مركب واحد
بسبب التهديد الإيراني وبسبب الفوضى العراقية والضعف الأميركي.
ولهذا السبب وافق القطريون على إعطاء السعوديين تعهّدات
بشأن التغطية الإعلامية التي تقوم بها قناة الجزيرة).
وأضاف السيّد العاني أن القطريين قدّموا هذه التعهّدات
أثناء إجتماع عقد خلال شهر سبتمبر في الرياض بين الملك
عبدالله ومسؤولين كبار في حكومة قطر.
ورافق المسؤولين القطريين إلى ذلك الإجتماع الذي كان
الهدف منه تسوية النزاع المتطاول بين البلدين ضيف غير
معهود هو رئيس مجلس إدارة (الجزيرة) الشيخ حمد بن ثامر
آل ثاني.
لقد رفض المدير العام لـ (الجزيرة) وضّاخ خنفر أن يجيب
على الإتصالات الهاتفية والإيميلات التي وجّهتها له الـ
(نيويورك تايمز)، ولكن عدداً من موظّفي القناة التلفزيونية
أكّدوا أن رئيس مجلس الإدارة حضر إجتماع الرياض. ورفض
هؤلاء إعطاء أسمائهم بسبب حساسية الموضوع. من جهتهما لم
تعلّق حكومتا قطر والسعودية حول الموضوع. في أي حال فسرعان
ما شعر العاملون في (الجزيرة) بنتائج التفاهم.
وقد جاء في إيميل وردنا من أحد العاملين في قسم الأخبار:
(أعطيت أوامر بعدم التعاطي مع أية قضية سعودية بدون مراجعة
الإدارة العليا. واختفت كل الأصوات المعارضة من شاشاتنا).
وأضاف أن تغطية السعودية في قناة (الجزيرة) كانت على الدوام
مرتبطة بدوافع سياسية.
ففي السابق كانت الإدارة العليا تفرض على صحفيي قسم
الأخبار بثّ مواد سلبية حول السعودية، وذلك لاسترضاء القيادة
القطرية في ما يبدو. وقال أن التغييرات الأخيرة تبدو للعاملين
في قسم الأخبار كتعبير صارخ عن إرادة سياسية بحتة. وقال:
(كشرط لتحسين علاقاتهم مع قطر طلب السعوديون إسكات (الجزيرة)،
وقد حصلوا على مبتغاهم).
إن التغييرات الحاصلة في (الجزيرة) تمثّل جزءاً من
مصالحة أوسع نطاقاً بين السعودية وقطر. ففي شهر ديسمبر
أعلن الأمير سعود الفيصل أن بلاده ستعيد سفيرها إلى قطر
للمرة الأولى منذ العام 2002.
وفي شهر ديسمبر كذلك حضر السعوديون قمة (مجلس التعاون
الخليجي) في الدوحة، بعدما كانوا رفضوا الحضور إلى الدوحة
أثناء آخر قمة عُقِدت في العاصمة القطرية. كما ألمح السعوديون
إلى أنهم يمكن أن يرخّصوا لقناة (الجزيرة) بفتح مكتب في
الرياض.
وقد أسفر النزاع بين قطر والسعودية رغم تفاهته عن عواقب
مهمّة. فقد أسفر عن تأسيس (الجزيرة) التي بدورها أسهمت
في تغيير النظرة إلى الأمور ـ بل ربما في تغيير الوقائع
نفسها ـ في العالم العربي وخارجه خلال عقد من الزمن. وكان
النزاع بين البلدين قد ابتدأ حينما اتهمت القيادة القطرية
السعوديين بدعم محاولة إنقلاب فاشلة.
وتأسّست (الجزيرة) بفضل هبة بقيمة 150 مليون دولار
من أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. واستفادت (الجزيرة)
من فشل مشروع إنشاء تلفزيون (بي بي سي) باللغة العربية
كانت تملكه شركة سعودية بسبب شروط الرقابة التي أصرّ عليها
السعوديون. وقد تدفّق صحفيو (بي بي سي ـ هيئة الإذاعة
البريطانية) على (الجزيرة).
ويقول مارك لينش أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج
وواشنطن الذي ألّف كتاباً حول دور (الجزيرة) في تغيير
وسائل الإعلام العربية أن مجرّد تأسيس (الجزيرة) كان تحدّياً
للسعوديين الذين دأبوا منذ السبعينات على استخدام ثروتهم
النفطية للسيطرة على معظم وسائل الإعلام العربية سعياً
منهم للحؤول دون حملات إعلامية شعبوية من النوع الذي اطلقه
عبد الناصر في الستينات.
واشتدّ النزاع بين البلدين في العام 2002 حينما بثّت
(الجزيرة) نقاشاً حول سياسات السعودية إزاء القضية الفلسطينية
مباشرة بعد الكشف عن مبادرة الأمير عبدالله (في حينه)
لتسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي. وتخلّل النقاش إنتقادات
عنيفة للعائلة الحاكمة السعودية فردّ السعوديون بسحب سفيرهم
من قطر.
كما استفزّ السعوديين بثّ مقاطع طويلة من أشرطة أسامة
بن لادن الذي كان هدفه الأول هو إطاحة النظام السعودي.
وغالباً ما تمّ إتهام قناة (الجزيرة) بأنها أسهمت في تحويل
بن لادن إلى شخصية شهيرة وبأنها ساعدته في تجنيد أنصاره
في العالمين العربي والإسلامي.
وزاد في حنق السعوديين أن (الجزيرة) استفادت من مشاعر
العداء لأميركا في المنطقة في حين كان الدعم العسكري والمالي
الأميركي يتدفّق على الإمارة الصغيرة.
ويقول الصحفي الأميركي المتقاعد عبدالله شليفر وهو
أستاذ فخري في الجامعة الأميركية بالقاهرة أن (قطر أحرزت
شعبية كبيرة إبان حرب 2003 بسبب الجزيرة ـ رغم أن التخطيط
للحرب كان يجري في مقر (القيادة المركزية) الأميركية في
قطر).
ولكن تغطية (الجزيرة) تطوّرت وباتت أكثر اعتدالاً لأسباب
داخلية وكذلك بسبب الضغوط الأميركية. وفي العام 2003 تأسّست
قناة (العربية) كمقابل لقناة (الجزيرة). وحدث أن ردّت
(العربية) على إنتقادات (الجزيرة) للسعودية بهجمات على
السياسة القطرية. ولكن التغييرات التي طرأت مؤخراً مدى
تأثير طموحات إيران النووية على المنطقة.
ويقول نيل باتريك الذي يعمل كمحلّل في (مجموعة الأزمات
الدولية) أن (الخوف من ردّ ثأري إيراني في حال تعرّض إيران
لهجوم أميركي هو الذي أقنع القيادة القطرية بتعزيز التضامن
في إطار مجلس التعاون الخليجي وبتحسين العلاقات مع السعودية
وبكبح التغطية الإعلامية التي تقوم بها (الجزيرة).
وعلى المستوى المباشر كان القطريون يحرصون على نجاح
قمة مجلس التعاون الخليجي الأمر الذي يتعذر تحقيقه بدون
مشاركة السعوديين. ويعرب بعض العاملين في قسم الأخبار
في (الجزيرة) عن إعتقادهم بأن المحطة لن تتجاهل التطورات
في السعودية أو تقلّل من أهميتها بغض النظر عن وعود مجلس
الإدارة.
ولكن صحفيين عرب آخرين يعتبرون أن استعداد (الجزيرة)
للإنصياع للخط السعودي هو بحد ذاته برهان على عدم وجود
وسائل إعلام مستقلة فعلاً في المنطقة.
وحسب سليمان الهتلان رئيس التحرير السابق لمجلة (فوربس)
العربية فإن (وسائل الإعلام العربية اليوم ما تزال تلعب
دور شعراء القبائل في الجاهلية. أي دور مدح القبيلة وليس
دور عرض الحقائق).
|