دولـة الـقـنـاع
(السعودية تقف على مسافة واحدة بين كل الأطراف)، عبارة
دخلت مؤخراً على الدبلوماسية السعودية، وهي تخوض غمار
التجاذب السياسي في القضايا الإقليمية.. فمن جهة تشدّد
على الشراكة الوطنية في العراق ولبنان وفلسطين.. وتنتقد
الدولة العراقية الحالية لأنها لم تضمن حصة أهل السنة
في الحكم، وتنتقد المعارضة في لبنان لأنها تريد الشراكة
الوطنية، تحت حجة القبول بالأصول الدستورية، ومبادىء اللعبة
الديمقراطية، وتضغط على حركة حماس من أجل تسليم السلطة
في غزة لقيادة محمود عباس..
قراءة السعودية لملّفات المنطقة الساخنة، تأتي دائماً
على النقيض من وضعها الداخلي، فهي تمارس نقيض مطالبها
للخارج داخلياً. فلا هي دولة شراكة وطنية ولا هي دولة
دستورية ولا ديمقراطية..
كانت فيما مضى تعلن بأنها تتسمك بمبدأ عدم التدخل في
الشؤون الداخلية للدول، ولكن المبدأ سقط وأن إعادة إستعماله
يثير سخرية من يلمسوا باليد آثار التدخل السعودي، وهم
الأقدر على تسمية الأشياء بأسمائها. أحد المتضررين من
التدخل السعودي في لبنان قال بأن السعودية ليس لها حلفاء
في لبنان وإنما أتباع. أما في العراق، فللسعودية نوعان
من التمثيل شعبي ورسمي. على المستوى الشعبي، يتعمّد التمثيل
السعودي في العراق بالدم الحرام، حيث تخوض الجماعات السلفية
المسلّحة غزواتها الوهمية ضد الأبرياء في الأسواق والشوارع،
وحتى المدارس ورياض الأطفال.. على المستوى الرسمي، فقد
تكفّل جهازان أمنيان وطنيان بامتياز: جهاز الإستخبارات
العامة، ومجلس الأمن الوطني بنوعين من العمليات: دفع الأموال
للجماعات المتطرّفة في الداخل للقيام بعمليات مسلّحة من
أجل تخريب العملية السياسية، وتقديم كل التسهيلات المالية
واللوجستية والتنظيمية للحركات المهدوية التي تتفجر كألغام
متوالية في الجنوب العراقي. لقاءات تنسيق مكثّفة أجراها
الأمير مقرن بن عبد العزيز، رئيس الاستخبارات العامة،
مع رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، وأطراف أردنية ومصرية
وأخرى عراقية مرتبطة بجهاز المخابرات الذي يقوده محمد
الشهواني، البعثي السابق والحليف الممتاز للمخابرات المركزية
الأميركية، بدأت بالعاصمة البريطانية ثم تواصلت في عواصم
أخرى عربية وأجنبية منها عمان والقاهرة. بعد فشل حركة
(جند السماء) في شهر محرم من العام الماضي 1428هـ، عقد
الأمير مقرن لقاءات عدة (من بينها لقاء على يخت الأمير)
مع إياد علاوي وعدد من مهندسي الفتن، أعضاء في المخابرات
العراقية والإردنية والمصرية، من أجل تأهيل حركات مهدوية
أخرى. في أحد اللقاءات عبّر علاوي عن خيبة أمله بعد موت
(المهدي المصنّع بعثياً والمموّل سعودياً = عصام القرعاوي)،
حيث طمأن الأمير مقرن صاحبه بأن موت هذا المهدي لن يغلق
الباب أمام صناعة نماذج مهدوية أخرى وقال بالحرف: لا تخف،
هناك مهدي ثانٍ، وثالث، ورابع..
في لبنان، وضعت السعودية ثقلاً نوعياً لدعم الخلطة
المتناقضة الممثلة في فريق 14 آذار، نكاية بمن خيّب أملها
في حرب يوليو 2006، وانتقاماً من السوريين الذين مازالوا
في مركز الإستهداف الأميركي. أفشلوا كل جهود التسوية للأزمة
اللبنانية مادام للسوريين فيها مصلحة، وغضبوا من الفرنسيين
لأنهم فتحوا نافذة للمفاوضات معهم حول الموضوع اللبناني،
ونجحوا في إفشاله وقدّموا لساركوزي مكافأة مغرية (صفقة
عسكرية يجني منها الأمير سلطان وأبناؤه بعضاً من عمولاتها).
ذهب الأمير سعود الفيصل الى باريس لحشد الضغوط الدولية
على سوريا من أجل القبول بمبادرة الجامعة العربية، وظهر
في السابع من فبراير بأن الأمير سعود الفيصل حمل (رسالة
حازمة)، من الملك عبد الله مفادها أن ثمة قراراً جراحياً
بات ضرورياً للرد على سوريا من أجل إرغامها على القبول
بمبادرة الجامعة العربية، وهي ليست شيئاً آخر سوى المبادرة
السعودية ـ المصرية ـ الأميركية.
بعد يومين من تصريحات سعود الفيصل، إنبرى رئيس تيار
المستقبل، سعد الحريري ليطلق في اليوم الذي وصل فيه عمرو
موسى الى بيروت خطاباً نارياً، يذكّر بخطابات الحرب. من
سوء حظ السعودية أن من يمثّلها في لبنان صبياً لم يبلغ
الحلم السياسي، فليس له من اللغة العربية إلا ما جاد به
الخالق على مليكنا المفدّى، فإذا كان الشعر ديوان العرب،
وإذا كان في مقدّمة الصفات الكاريزمية فصاحة اللسان وبلاغته،
وبها يملك القائد قلوب محبيه، فقد كان سعد بليغاً بمال
أبيه، وجاءت كلمته الملتهبة في السابع من فبراير، منسوجة
بمفردات ميليشياوية تبعث على الإزدراء..
من سوء حظ آل سعود، أن يدعو قطبهم الحالم في ذكرى رحيل
والده اللبنانيين للمواجهة (إذا كان قدرنا المواجهة فنحن
لها!). بكلمة، ليس سعد وجه سعد على السعودية، وليس به
تتمثّل في لبنان، وإذا ما أرادته قناعاً لخوض معركة مع
أطراف محلية وخارجية، فنبشّرها بالخسارة المصحوبة بالعار.
في فلسطين، لاذت السعودية بالصمت، على عادتها غير الكريمة
دائماً والكيدية هذه المرة، حيال الحصار الخانق على أهالي
قطاع غزة، حتى بدا وكأن ليس هناك جامعة عربية ولا منظمة
مؤتمر إسلامي ولا قيادات محشوّة بكل العنتريات التي ما
قتلت ذبابة، على حد نزار قباني. وبعد أن بلغ الحصار الإسرائيلي
الغاشم مستوى خطيراً، خرجت السعودية عن صمتها، ولكن ليس
من أجل مساعدة أهالي غزة، أو قيام بكل ما من شأنه إنقاذ
الأطفال والنساء والشيوخ والحياة بأسرها من موت جماعي،
وإنما من أجل الضغط على قيادات حماس للتخلي عن السلطة
لصالح محمود عباس. أليس من العار أن يساوم الأمراء السعوديون
الشعب الفلسطيني على الرغيف لتنتزع منهم كرامتهم. فأي
مسافة تلك التي تتحدث عنها هذه الدولة، وقد أسقطت حتى
قناع الحياء!
|