من يصنع الجنون في المنطقة؟
إنفلات الفوضى الخلاّقة
محمد فلالي
ثمة نبرة عالية التوتر تكسو لهجة قادة أوروبيين وأميركيين
تلقى صداها الكثيف في لهجة قادة ثالوث الإعتدال خلال الشهر
الفائتين بخصوص قضايا المنطقة: العراق، فلسطين، لبنان،
بل وعموم الشرق الأوسط، وكأن العالم يشهد شروط تخصيب لحرب
عالمية قادمة، قد تكون أشد فتكاً من الحرب في العراق أو
أفغانستان. تصريحات بعض القادة الأوروبيين إزاء قضايا
شرق أوسطية كانت إنقلابية وصادمة ليس للرأي العام العربي
بل وحتى للرأي العام في بلدانهم، كما تنبىء نتائج إستطلاعات
الرأي في فرنسا وبريطانيا والفجوة المتعاظمة بين حكومتي
البلدين وشعبيهما، وهذا ما ظهر في نتائج الانتخابات البلدية
في فرنسا والتي تكبّد فيها ساركوزي بخسارة كبيرة، رغم
أنه لم يمض عاماً كاملاً على وصوله الأليزيه، فيما تتعزز
التوقّعات بسقوط حزب العمال في بريطانيا في أي انتخابات
قادمة، أما الإدارة الأميركية فقد جاءت نتائج إستطلاع
صادمة لها، وأن الشعب الأميركي لن يتحمل حمر حمقاء جديدة،
بعد إخفاق إدارة بوش في تحقيق منجز عسكري لافت في أفغانستان
والعراق، وقد ينتظر فريق بوش حساب عسير بعد هذا العام،
بسبب الإنهيار الإقتصادي الذي أصاب الولايات المتحدة من
جراء مغامرات عسكرية غير محسوبة بدقة، سوى تلبية لمصالح
المجموعات الصناعية المتصاهرة مع رجال السياسة.
يكاد المشهد السياسي في الشرق الاوسط يجنح على نحو
عاجل الى أن يكون قاتماً بدرجة غير مسبوقة. فوتائر التصعيد
السياسي في عدد من بقع الشرق الاوسط (العراق، لبنان، فلسطين..)
تنذر بتشظيات كارثية ليس على مستوى الشرق الاوسط فحسب
بل وعلى مستوى العالم. فالإنسياق نحو بلوغ أقصى حافة الصدام
في هذه المناطق يعكس إنفلات زمام الحكمة لدى القادة السياسيين.
إن سخونة الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط ترجع بدرجة
أساسية إلى أن ثمة قراءة أوروبية وأميركية لهذه المنطقة
قد أفرزت قراراتها الراديكالية. وفيما تتلحّف السياسة
الاميركية بشعار الحرب على الارهاب الذي يعنوّن مسارات
التحرك الدبلوماسي والإستراتيجي في أرجاء كوكبنا، فإن
حدّة التوترات السياسية تكاد تغمر كل المواقع المستهدفة
ضمن مشروع الحرب على الارهاب. إن واحدة من أهم النتائج
الكارثية لإستراتيجية المحافظين الجدد في تعميم الفوضى
الخلاّقة، أنها جعلت كل العالم مكاناً غير آمن، وأن ثقافة
الخوف التي يتغذى عليها الشعب الأميركي لم تكن سوى تقويضاً
لدعوى الرئيس بوش في (تأمين سلامة شعبنا).
يلفت إنتباه الناظر إلى السياسة الأميركية في الشرق
الاوسط غياب عنصر الحكمة، وكأن الطاقم السياسي الذي يدير
البيت الابيض محثوث بأجندة فارطة في الإعتداد لجهة إعادة
صياغة العالم وفق منظومة المصالح الاستراتيجية الكونية
للولايات المتحدة الاميركية.
تتحرك فرق الدبلوماسية الاميركية في الشرق الاوسط بإضبارة
إملاءات يتم فرضها على حكومات وشعوب الشرق الاوسط، بعد
ألقت هذه الفرق عن كاهلها عناء المعتنق الديمقراطي، فهي
لم تأت للمنطقة للتبشير بقيم الديمقراطية والليبرالية،
بل هي تأتي اليها بمنطق الفاتح والمنتصر الذي يملي شروطاً
عبر تحريك الأساطيل في مياه المنطقة، وإجراء استعراضات
عسكرية تهويلية لإخضاع العالم، وتحويله الى مجرد مستعمرة
كبرى تديره الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون.
ليس مستغرباً أن تنتقل حدة النبرة السياسية الى القارة
الاوروبية، التي تعاد على وقع تصعيد أميركي منفلت من عقال
الحكمة، فصار القادة الأوروبيون يرددون ما يلهج به فريق
الحرب في واشنطن، بما يشبه عملية استنساخ سياسي تصدر عن
رؤية شوفينية للعالم، وتبشّر بعودة الكولونيالية المتوحشّة.
فرنسا التي كانت تنزع قبل سنوات عديدة نحو اجتراح درب
مستقل عن (الأمركة) الجلوبالية، وقعت سريعاً في شبكة الصيد
الأميركية. عكف بعض المراقبون عن اكتشاف سبب التحول المفاجىء
في لهجة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، فبعد أن كان
معارضاً للحرب على العراق تحت ذريعة مكافحة الارهاب، ورفضه
انسياق فرنسا وراء المشروع الاميركي في العالم، أصبح يمارس
دوراً أميركياً لا يزايد عليه البريطاني المتهم دائماً
من الصحافة البريطانية بأنه يمتثل حرفياً لممليات الاجندة
الاميركية. وجاء فرانسوا ساركوزي ليحسم المقارنة العقيمة
بين الأقرب الى سياسة واشنطن، فلم يعد هناك من يجادل اليوم
بأن فرنسا أصبحت حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة،
ووارثاً للدور البريطاني السابق، وهاي اليوم تقترب من
شواطىء الخليج بعد أن كان وجودها يقتصر على مياه البحر
المتوسط.
فجائية التحول في الموقف الفرنسي تكاد تنسحب على قضايا
الشرق الاوسط كافة: التحقيق في إغتيال رئيس الوزراء اللبناني
الاسبق رفيق الحريري، سلاح حزب الله، النظام السوري، الوضع
المتفجّر في فلسطين، الملف النووي الايراني.. فمن يرقب
تصريحات ساركوزي في مجمل قضايا الشرق الاوسط يشعر وكأن
سحر الديمقراطية الفرنسية قد إنقشع، وأن طبول الحرب تقرع
من الأليزيه، مستعيداً تصريح سلفه شيراك حين هدّد بشنّ
حرب نووية ضد الدول والجماعات التي تهدد المصالح الفرنسية
يمثّل ذروة التوتر في اللهجة السياسية الفرنسية، وقد أثار
بذلك حفيظة ساسة أوروبيين وبخاصة الالمان الذين انتقدوا
شيراك بشدة، الأمر الذي دفع به لتخفيف وطأة الشكل الخارجي
لتصريحه مع الابقاء على مضمونه الانفجاري، حين جعل خيار
الحرب مفتوحاً، ولكن ما يتنباه ساركوزي عملياً من خلال
عقد صفقات عسكرية فلكية مع دولة الإمارات العريبة المتحدة،
والسعودية وإجراء مناورات بحرية مشتركة في مياه الخليج
كجزء من عملية الاستعراض العسكري الذي يندرج في سياق الضغط
على إيران بخصوص ملفها النووي، يعتبر دليلاً على أن الجنون
لم يعد مقتصراً على بوش وفريقه وإنما يتمدد في القارة
الأوروبية وقد يصل إلى قارات أخرى، ولا نتمنى أن تنقل
زيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الى المنطقة جرعة
جنون زائدة، حتى لا يخسر العالم عقله.
|