قمة دمشق
الرياض تشعل (ثورة الأرز) إقليمياً!
محمد شمس
متلازمات لا تخلو من دلالة: الأولى، صدور قرار السعودية
بشأن حجم التمثيل في قمة دمشق فور نهاية زيارة نائب رئيس
الأميركي ديك تشيني للرياض، الذي طالب المسؤولين السعوديين
بالتفكير مليّاً قبل المشاركة في القمة العربية، وبعد
أيام من طلب أميركي للقادة العرب بالتريّث قبل إعلان مواقفها
من المشاركة في قمة دمشق، في إشارة الى انتظار وصول تشيني
للمنطقة.
الثانية، إعلان مندوب أو سفير السعودية في الجامعة
العربية أحمد القطّان بأنه سيرأس وفد بلاده في قمة دمشق،
في نفس اليوم الذي يؤكّد فيه بيان مجلس الوزراء السعودي
على وحدة العالم العربي. وكانت وكالة الأنباء السعودية
الرسمية ذكرت في 24 مارس أن مجلس الوزراء السعودي أكّد
في جلسته الأسبوعية على (دور المملكة الداعم والمناصر
دوماً لكل ما من شأنه تكريس وحدة العالم العربي، والذود
عن قضايا الأمة الإسلامية). وأكّد المجلس أيضاً على (التمسك
بما هو مشترك، وتغليب المصلحة الوطنية على التحالفات الخارجية،
واستثمار العلاقات الدولية بما يخدم الوطن والأمة).
الثالثة: أن يتزامن إعلان الرياض عن موقفها من المشاركة
في قمة دمشق مع تصريحات مصرية وأردنية ولبنانية حول أحجام
التمثيل.
بدت، إذن، واضحة وعلنية خلفية قرار السعودية بمشاركة
أقل من رمزية في قمة دمشق، فالخلاف السعودي السوري حول
لبنان بات مكشوفاً، ويمارس فيه الطرف السعودي أقصى درجات
عدم الإنضباط في التعبير عنه، وإن تطلب الإفصاح عنه إطلاق
حملة دعائية تطيح مهنية الصحافة وحياديتها، أو تستدعى
حملة دبلوماسية لا تخلو من تواطؤ وخرق للحد الأدنى من
الإحترام وتجاوز على الإعتبارات القومية والدينية، أو
حتى تستوجب المشاركة في مخطط يصل إلى حد التفكير بإسقاط
النظام في سوريا. ومع ذلك، تبقى السعودية متمسّكة بالوحدة
العربية، والتضامن العربي، والأخوة العربية وباقي الكليشات
المعوربة!.
الخلافات السورية السعودية، رغم قدمها، تعود الى اغتيال
رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 12 فبراير
2005، إذ تم توجيه الإتهام إلى سوريا بضلوعها في العملية،
فيما تنفي دمشق التهمة، ثم جاءت التطوّرات اللاحقة لتزيد
في الخلاف بين الرياض ودمشق، منها تصريحات نائب الرئيس
السوري فاروق الشرع في أغسطس الماضي، بعد تغيّب السعودية
عن اجتماع الدول المجاورة للعراق، حين انتقد غياب السعودية
ولو على مستوى موظف السفارة. وقد أشعل تصريح الشرع حماسة
المؤسسات الإعلامية السعودية لبدء حملة انتقادات ضد المسؤولين
السوريين، وبرعت تلك المؤسسات في الهجوم على القيادة السورية،
إلى حد اتهام الشرع وحكومته بالمراهنة على إيران، وأنهم
لا يجهلون بديهيات القضايا، فيما شنّ بيان سعودي بلهجة
عنيفة على الشرع كرد فعل على وصفه الدور السعودي الإقليمي
بالمشلول، وقالوا بأن حديثه (لا يصدر عن إنسان عاقل..)،
ومضى البيان في تصعيده بالقول (ولعل السيد الشرع زلّ لسانه
وكان يقصد بالشلل السياسة التي ينطلق باسمها ويمثلها).
وبلغت العلاقة بين الرياض ودمشق أسوأ فتراتها في اغسطس
2006، بعد وقف الأعمال العدائية الإسرائيلية على لبنان،
حيث وصف الرئيس السوري بشار الأسد بعض القادة العرب (في
إشارة الى السعودية بدرجة أساسية) بأنهم (أشباه رجال)،
لأنهم أطلقوا نعت (مغامرة) على عملية أسر جنديين إسرائيليين
من قبل حزب الله.
وتمظهر التدهور في العلاقات السورية السعودية في الإستياء
السعودي من عدم تجاوب سوريا للمبادرة العربية بحسب تفسير
عرب الإعتدال، بقيادة الولايات المتحدة. وحقيقة الأمر،
أن الخلاف لم يعد مقتصراً على الملف اللبناني، بل ينفتح
على أفق الواقع العربي برمته والذي يراد قلبه رأساً على
عقب ليكون مؤهّلاً لتبدلات سياسية كبرى في المنطقة، تتخذ
من لبنان مدخلاً لها وتستوعب مجمل القضايا ذات الطبيعة
الخلافية بين تياري الإعتدال والممانعة في الشرق الأوسط.
بالنسبة للسوريين، فإن الضغوطات التي تعرّضوا لها من الحلفاء
والخصوم زادت في تصلّبهم حيال الموضوع اللبناني، لاقتناعهم
بأن ثمة (تبييتات) بالغة الخطورة تشمل إستقرار النظام
السوري نفسه، ويتذكّر الأخير المخطط الإنقلابي في التسعينيات،
حين قررت السعودية بالتعاون مع الكيان الإسرائيلي من أجل
إطاحة نظام حافظ الأسد، عبر اختراق مؤسسة الجيش السوري
الذي شاركت بعض قطاعاته في الدفاع عن السعودية في حرب
الخليج الثانية. ولكن الأميركيين أوقفوا تنفيذ المخطط
خشية تداعيات فشله على المنطقة، ونصحوا السعوديين بعدم
السير في المخطط.
على أية حال، فإن تخفيض التمثيل السعودي في قمة دمشق
يتلطى خلف الملف اللبناني، للتنصّل من واجباتها العربية
والإسلامية، وأبرزها القضية الفلسطينية التي دخلت مرحلة
بالغة الخطورة إثر الإعلان عن الدولة اليهودية في مؤتمر
أنابوليس في نهاية نوفمبر الماضي، والحديث بعدها عن مشاريع
التوطين التي تشارك السعودية فيها كأحد كبار المموّلين،
وكذلك الحصار المفروض على غزة وارتكاب إسرائيل مجازر دموية
في ظل صمت عربي مريب، وأزمات أخرى قد تشهدها المنطقة على
وقع التوترات السياسية بين الولايات المتحدة وإيران وسوريا،
والتي تضع السعودية في أتونها ما يجعل وجودها في القمة
نافراً لأنها ستضطر إلى مسايرة الموقف العربي الممانع.
الحضور السعودي في دمشق لم يكن مقدّراً له أن يحقق
تميّزاً حتى بمشاركة الملك عبد الله، لأنه لا مواقف متميّزة
يتوقع صدورها منه، فالسلوك السعودي طيلة العامين الماضيين
كان مناقضاً لمسار الممانعة المتصاعد، فقد تحوّلت السعودية
الى قطب أساسي في المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، يخبر
عنه صمتها حيال الدماء البريئة التي كانت تسفك في شوارع
غزّة.
لا تريد السعودية حضور قمة لم تعد تجد فيها دوراً يناسبها،
ولا مكانة تحقق فيها وجودها المتخيّل، فما هو مطلوب منها
ليس في قمة دمشق، ولا في أي قمة عربية أخرى مقبلة ما لم
يتم تبديل الواقع العربي برمته، أو أن ينتصر الخيار الأميركي
ـ الإسرائيلي في المنطقة.
من وجهة نظر أخرى، فإن تخفيض السعودية لأدنى تمثيل
لها في تاريخ القمم العربية لا يعكس مجرد إستياء من سوريا،
بل يحمل في طياته نذر شؤم على لبنان والمنطقة بصورة عامة،
وهو أشبه بانفصال عن الواقع العربي وتالياً التخلي عن
أية التزامات في مرحلة قادمة، وقد يبشّر المنطقة بأزمات
خطرة، بل إن أية تدهور أمني في لبنان أو أية بقعة أخرى
في المنطقة سيكون للسعودية دور رئيسي فيه.
كل المبررات التي ساقتها السعودية وردّدها أمين عام
الجامعة العربية عمرو موسى حول موضوع حجم تمثيل الدول
الأعضاء في القمة العربية وإدراجة ضمن عنوان (السيادة)،
لا يعدو كونه تبهيتاًَ لأصل المشكلة، ولم نسمع تصريحاً
من الدول العربية التي عناها الكلام الأميركي بالتريّث
قبل إعلان المشاركة في قمة دمشق ينتقد التدخّل الأميركي
في سيادة الدول، ولم نسمع أيضاً تصريحاً لعمرو موسى الذي
بلغته مراراً تصريحات لرؤساء وقادة عرب مثل حسني مبارك
والملك عبد الله السعودي والملك عبد الله الأردني ووزراؤهم
وهم يتحدثون بالنيابة عن لبنان، ويشترطون مشاركتهم في
القمة ونجاحها بانتخاب رئيس للبنان، وهو أمر سيادي.
الأنكى من ذلك كله، أن السعودية، وحلفاءها في معسكر
الإعتدال، قرروا منذ البداية إفشال قمة دمشق عبر التبشير
بالغياب عنها، بل وتشجيع دول عربية أخرى على اقتفاء ذات
الموقف، بالرغم أن حضور قادة العرب بأجمعهم لن يعني على
الإطلاق توفير ضمانة نجاح، ولم يكن الحال على هذا النحو
في أغلب القمم السابقة.
ولكن، فإن غياب الملك عبد الله أو وزير خارجيته الأمير
سعود الفيصل عن قمة دمشق يعني لكثيرين إفراغاً لمضمون
العمل العربي المشترك، وتأسيساً لمرحلة يكون فيها السير
الإنفرادي قانوناً حاكماً، كما يبطن قطيعة بخلفية عدائية
لما تنطوي عليه المرحلة المقبلة من مخاطر مواجهات أمنية
في أكثر من بلد، إذ لا يمكن توقّع أن تشهد لبنان، على
سبيل المثال، تسوية من أي نوع طالما أصدرت السعودية قرارها
النهائي حيال قمة دمشق، وبالتالي فإن مصير مبادرة رئيس
مجلس النواب اللبناني نبيه بري والمتوقّع تسييلها بعد
القمة سيكون معروفاً سلفاً، لأن التصلّب السعودي سيعكس
نفسه على الفور في مواقف حلفائها في لبنان.
ولذلك، فمن المتوقع أن تمضي السعودية بوتيرة عالية
في خيارات التصعيد السياسي مع سوريا، وقد يشمل إيران بما
يتطلبه من تصنيع غيوم طائفية سوداء تغطي سماء المنطقة،
وإبعاد تأثيرات القضية الفلسطينية على الخلافات المقبلة،
حيث ستكون السعودية أحد كبار الخاسرين في تثميرها، بحكم
إملاءات أنابوليس الملزمة لها ولبقية المعتدلين.
مصر التي تعتبر نفسها على الدوام راعية القمم العربية،
والحاضنة الأم للجامعة العربية وجدت نفسها أمام خيارين
أحلاهما مر: إما المشاركة في القمة على مستوى رئيس الجمهورية،
وبالتالي إغضاب حلفائها الأميركيين والسعوديين، أو إقتفاء
الطريق السعودي واعتماد مندوبها في الجامعة ممثلاً عنها.
ولكن يبدو أن خياراً ثالثاً كان صالحاً، بايفاد شخصية
رفيعة المستوى، فيما أبقت الأردن الباب موارباً أمام حجم
المشاركة وكذلك فعلت البحرين.
بالنسبة لدمشق التي أدركت أن خصومها عمدوا الى استغلال
القمة للضغط عليها من أجل إملاء شروطهم، فإنها قررت إسقاط
هذه الورقة وأوصلت رسالة واضحة وعلنية: القمة بمن حضر،
وأن القمة العربية ليست شأناً سورياً منفرداً. وبذلك،
أوصدت الباب أمام السعودية وغيرها بخصوص استغلال ورقة
القمة من أجل إرغام السوريين على القبول بالمبادرة العربية
حول لبنان بحسب التفسير السعودي المصري.
حكومة فؤاد السنيورة انتظرت صدور قرار السعودية بشان
حجم مشاركتها في قمة دمشق، وعقدت في 25 مارس إجتماعاً
وزارياً لتقرير الموقف بشأن المشاركة في قمة دمشق، والذي
جاء متطابقاً مع التعليمات السعودية، ولم يكن متوقعاً
حدوث اختراق في موقف حكومة السنيورة طالما أن الأخير بقي
حتى اللحظة الأخيرة من جلسة مجلس الوزراء اللبناني على
اتصال بوزير الخارجية السعودية سعود الفيصل.
ردود فعل الغياب السعودي على الساحة اللبنانية كانت
متفاوتة، بين تطمين من قيادات المعارضة بأن لا توترات
أمنية ستقع على خلفية زيادة منسوب التوتر بين دمشق والرياض،
وبين تبشير بانفلات أمني واسع النطاق، فيما تحدّث البعض
عن عودة مسلسل الإغتيالات في لبنان، وبين توقّع توتّرات
أمنية محدودة تأتي في سياق التجاذبات المتبادلة الخارجية
على الساحة اللبنانية.
مصادر صحافية مقرّبة من فريق الموالاة في لبنان، ربطت
بين قرار السعودية تخفيض تمثيلها الى مستوى مندوب في قمة
دمشق، وتسريب أنباء عن حشود عسكرية سورية على الحدود مع
لبنان وحشود منظمات فلسطينية محسوبة على سوريا في منطقة
قوسايا البقاعية، بالتزامن مع تحذير إسرائيلي نشرته صحيفة
(يديعوت إحرونوت) في 24 مارس بأن حزب الله وإيران سيقصفان
تل أبيب ومنطقتها بالصواريخ في حال نشوب حرب مع إسرائيل.
هذا التحذير الوارد في سياق (تقرير سري) وضعته مديرية
إقتصاد الطوارىء الإسرائيلية أتى استكمالاً لأجواء التوتير
الذي بدأ قبل أسابيع من قمة دمشق، حيث يتداخل التحرّك
السعودي بالأميركي والإسرائيلي في عملية التجاذب التي
يخوضها معسكر الإعتدال ضد قوى الممانعة في المنطقة. وإذ
يتم تصوير النتائج الكارثية على الدولة العبرية من جراء
حرب إفتراضية تقودها سوريا وإيران وحزب الله، فإن المتوقّع
استقطاب حشد دولي وتأييد من عرب الإعتدال في مواجهة القوى
المعادية الممثلة في كل الممانعين.
القيادة السورية توقّعت في مرحلة مبكرة غياب قيادات
عربية عن قمة دمشق، وقد أعدّت نفسها لما سيعلن عنه الجانب
السعودي، وقررت إحباط الذريعة السعودية بقولها (ليس من
شأن سوريا تعيين رئيس للبنان)، وأن لبنان سيكون، شأن قضايا
أخرى ساخنة في المنطقة العربية، مدرجاً على قائمة الموضوعات
المراد تداولها في القمة.
أكثر من ذلك، قررت الحكومة السورية تهميش المندوب السعودي
للقمة، بل اعتبرت حضوره كغيابه، من حيث البروتوكول الرسمي
في تسليم رئاسة القمة، أو حتى في إلقاء الكلمات في الجلسة
الإفتتاحية، بل وتغييبه حتى عن اجتماعات الرؤوساء والملوك
العرب.
وكان متوقعاً تأخير أولوية الملف اللبناني في مناقشات
القادة العرب في قمة دمشق، إذ أن الأطراف المعنية والنافذة
غائبة، فيما تم تصعيد أولوية القضية الفلسطينية التي تجد
فيها دمشق مناسبة لمحو ما تعتبره خديعة المشاركة السورية
في مؤتمر أنابوليس. وبحسب تصريحات صحافية لوزير الخارجية
السوري وليد المعلم بأن القمة ستخصص لموضوع فلسطين بجدارة.
وقد عملت دمشق على إفشال مبادرة السعودية للسلام، وكذلك
مقررات أنابوليس وأعطت مساحة للفلسطينيين والعرب الممانعين
لأية تسوية مع الدولة العبرية، وهو ما شكّل رداً سورياً
نموذجياً على الغياب السعودي. وبالرغم من سلبيات غياب
الملك عبد الله على دمشق، فإن واحدة من إيجابياته تحرير
سوريا وعدد من قادة العرب في البوح بمواقف غير متحفّظة
حيال عملية السلام مع الدولة العبرية، والتي حققت الأخيرة
أهدافاً كبيرة على حساب العرب منذ مؤتمر مدريد في نهاية
1991، وحتى أنابوليس في نوفمبر 2007.
|