قنوات التجنيد في شبكات القاعدة مفتوحة
مواصلة تأصيل التطرف الفكري
محمد قستي
في ظل الإنشغالات السياسية الخارجية، تبدو الملفات
الساخنة داخلياً مسكوتاً عنها لأجل غير محدود، طالما أن
لا تأثيرات خارجية ضاغطة ولا تعبيرات سخط ظاهرة محلياً
تدفع بها إلى الواجهة. وباستثناء غلاء الأسعار المتصاعد،
فإن ملفات الفساد المالي، والإصلاح الشامل السياسي والإداري
والإقتصادي والقضائي، وسجّل إنتهاكات حقوق الإنسان، وتنقية
المناهج التعليمية، باتت مجمّدة. ويتساءل كثيرون عن مصير
الثروة النفطية المتعاظمة، وغياب دورها في مشاريع التنمية
وحلحلة المشكلات الإقتصادية ذات الصلة بأحوال السكان،
وعن مصير الشفافية والمحاسبة اللتين بشّر بهما الملك قبل
سنوات من أجل محاربة الفساد ووقف هدر المال العام، وتقليص
مخصصات الأمراء دون وجه حق، وعن مصير الإصلاح الذي تم
استبداله بـ (التطوير) كي لا يتّهم الأمراء بالفساد، ولكن
يبدو السؤال، شأن أسئلة أخرى، ضامرة عن قصد وسابق إصرار
من قبل الأمراء، فثمة موضوعات قابلة للإلهاء ونهب الإهتمام
العام.
من بين القضايا المسكوت عنها، ثقافة التطرّف التي تمثّل
فتاوى التكفير أحد أبرز موضوعاتها. وبالرغم من الحديث
عن حصر مصدر الإفتاء في المؤسسة الدينية الرسمية، إلا
أن لا الدولة ولا حليفها الديني السلفي ملتزمان بقرار
من هذا القبيل، فقد تحوّل سلاح التكفير إلى عنصر قوة بيد
الأمراء من أجل تكريس الإنقسام الداخلي وتفجير التناقضات
الأيديولوجية التي يمكن تثميرها في تعزيز السلطة المركزية،
كقوة حسم نهائي.
في السنوات الثلاث الأخيرة تشكّلت لجان مناصحة برعاية
وزارة الداخلية تستهدف البعد السياسي للتطرّف الديني،
بمعنى تصحيح موقف ورؤية وسلوك الجماعات السلفية الجهادوية
من نظام الحكم في السعودية، فيما لا إنشغال حقيقي على
مشروع إصلاح عقدي شامل والمفضي إلى تجفيف منابع التطرف،
وإزالة مبررات العنف.
في السنوات الماضية، كنّا ـ ومازلنا حتى الآن ـ نؤكّد
على أن ثمة تطابقاً بين القاعدة والمؤسسة الدينية الرسمية
في عودة كليهما لمرجعية فكرية واحدة، وما الإختلاف بينهما
سوى في وسيلة التطبيق وليس في الرؤية الدينية العامة لكل
الموضوعات الواردة في المنهج السلفي. نقطة الإفتراق الوحيدة
التي تساق، تدور حول الموقف من الدولة السعودية، إن كانت
قائمة على مشروعية دينية أو ظلّت طريقها الى إقامة دولة
تطبيق الشريعة على نحو ما بشّر به الشيخ إبن تيمية والشيخ
إبن القيم. ولكن حتى هذه النقطة الإفتراقية تبدو مواربة،
كون العرائض التي رفعها أقطاب كبار في المجتمع الديني
السلفي في التسعينيات تكشف عن موقف عقدي من الدولة السعودية،
يلفت بوضوح إلى أن المخالفات الشرعية، بحسب وجهة نظرها،
تنزع عنها صفة الدولة الدينية، وهو ما شكّل أساساً لجماعات
سلفية لاحقة إندمجت في شبكة القاعدة كيما تتوسل بالخيار
العسكري من أجل العمل على إسقاط الدولة السعودية.
صحيح أن ثمة في العائلة المالكة من حاول إستثمار الحماسة
الدينية في شكلها الفدائي في مشاريع سياسية داخلية وخارجية
وخصوصاً في العراق ولبنان، وربما في دول أوروبية، كما
بشّر بذلك الأمير بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني
في مرات عدّة.
وكما أفاد عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية، من جيش
الإخوان في الفترة ما بين 1912 ـ 1927 لتحقيق مآربه السياسية،
فإن أبناءه وأحفاده ساروا على نهجه في تسخير السلفيين
الجهاديين في مشاريع سياسية عابرة للحدود، قد تضم إلى
جانب السعودية إسرائيل والولايات المتحدة، دون أن يدرك
هؤلاء المخدوعون بأنهم يساقون ببلاهة الى محرقة موت ليس
فيها للأهداف الدينية مكانة، تماماً كما اكتشف بعض الهاربين
من محارق موت في العراق ولبنان.
ما يلفت الإنتباه، أن ما يسمى فكر القاعدة، ليس سوى
محاولة إخفاء شهادة المنشأ للفكر المتطرّف، وحين يقال
بأن فكر القاعدة قد تم القضاء على كثير من مصادره في الداخل،
لا يعدو كونه دعوى غير واقعية. يتفاجأ بعض المراقبين بأن
هذا الفكر مازال ناشطاً في السعودية، ما يسقط الزعم القائل
بأن الحكومة السعودية تمكّنت من إخماد بؤر التطرّف، وقطع
مصادر تمويل القاعدة، وتطويق خطوط التجنيد الخاصة بالشبكة.
في 9 مارس الماضي، كانت وزارة الداخلية السعودية في
حالة استنفار بعد رواج رسالة صوتية مسجّلة من نائب زعيم
تنظيم القاعدة أيمن الظواهري والتي تدعو لجمع الأموال.
حملة قادتها الوزارة ودامت إسبوعاً كاملاً من أجل ملاحقة
تداعيات الرسالة، بعد مطالبة المواطنين والمقيمين الذين
وصلتهم الرسالة بالإبلاغ عنها. وأعلنت الوزارة عن إلقاء
القبض على عشرات ممن اشتغلوا على تعميم الرسالة عبر الهاتف
الجوّال التي تضمّنت دعوة بالتبرعات لدعم المحتاجين من
الأسر في باكستان وأفغانستان.
ما يجدر ذكره، أن غياب النشاطات العسكرية للجماعات
السلفية المسلّحة في الداخل، لا يعكس غياباً لأدبيات الفكر
السلفي المتشدد، التي مازالت تروج في الأسواق العامة،
وهي كفيلة بتحقيق أغراض الشبكات التنظيمية المسلّحة من
قبيل التجنيد، والتمويل، والدعاية.
فهناك من يرى بأن ما تم إنجازه في مجال القضاء على
فكر التطرف لا يتجاوز البعد الأمني، أما البعد العقدي
فمازال متماسكاً، وهو نفسه الذي ينبثُّ عبر أقنية الدولة
نفسها، وخصوصاً وزارة الشؤون الإسلامية، ووزارة التربية
والتعليم، أو مؤسسات فرعية مثل اللجنة الدائمة للبحوث
والإفتاء والإرشاد، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والجامعات الدينية، ومراكز الدعوة، ومواقع العلماء على
الشبكة العنكبوتية.
إحتفاظ الفكر المتشدد بقنوات دعوية ناشطة يمنح الجماعات
المسلحّة، بما فيها تنظيم القاعدة، فرصة إستئناف عملها
الجهادوي، والذي قد يأخذ أشكالاً متطوّرة ومعقدّة بحسب
طبيعة الظروف السياسية والأمنية التي تخلقها حالة السخط
الشعبي كرد فعل على إخفاقات الدولة في تسوية مشكلات ملحّة
إقتصادية وسياسية وحقوقية.
تدرك وزارة الداخلية بأن ثمة ثغرات كبرى يمكن للجماعات
المسلّحة العبور منها، من خلال ما تشيعه وسائل التعبير
الدعوي في الداخل من ثقافة متشددة تجد طريقها إلى كل قنوات
الإتصال الرسمية والشعبية. يلفت إلى ذلك أيضاً تصريح اللواء
منصور التركي، المتحدّت بإسم وزارة الداخلية حين قال بأن
خطط مكافحة القاعدة غير كافية، مشيراً إلى إمكانية استمرار
عمليات التجنيد، ومطالباً بمواجهة القصور في دور الأسرة
والمدرسة والمسجد لتوفير الحماية الفكرية.
هذا التصريح يطيح مزاعم سابقة لكبار الأمراء، وخصوصاً
ولي العهد الأمير سلطان ووزير الداخلية الأمير نايف، بأن
التطرف على شفير الهاوية، وأنه يشهد قرب نهايته. فما تحفل
به الثقافة السلفية الرائجة كفيلاً بتوليد خلايا جديدة
للعنف، ما يجعل التصريحات حول مواجهة الإرهاب باعثة على
الملل، كونها لا تصدر عن حقائق على الأرض. أحدهم تساءل:
كيف يمكن الزعم بنهاية فكر التطرف، ومازال شائعاً في القنوات
الفضائية السلفية، وفي الدروس الدينية في المساجد، وفي
الخطب الدعوية، وفي فتاوى اللجنة الدائمة، الى جانب صور
وأشرطة رجال دين معروفين بخطبهم التكفيرية والتي يتم توزيعها
عبر (التسجيلات الإسلامية) المنتشرة في المدن والقرى النائية
وحتى محطّات البنزين في الطرق السريعة.
أورد أحدهم أسئلة إستنكارية مشتملة على حقائق منها
قوله: كيف تريدنا أن نقضي على الإرهاب وفكر القاعدة وبعض
أئمة المساجد والمشايخ، يوم أن منعوا من جمع التبرعات
داخل بيوتهم أو مساجدهم حولوها عبر رسائل الـ SMS عن طريق
بعض مواقع شبكة الإنترنت وبغطاء إسلامي وأرصدتهم بمئات
الألوف دون عناء أو تعب وياغافل لك الله!. وكيف تريدنا
أن نقضي على الإرهاب ووزارة التربية والتعليم لم تخصّص
وتقرّر كتاباً واحداً فقط لتحصّن فيه عقول الطلاب والطالبات
من فكر القاعدة يحتوى على خطورة التكفير. وكيف تريدنا
أن نقضي على الإرهاب ووزارة الشؤون الإسلامية ووزارة الداخلية
لم يضعا حتى هذه الساعة برنامجاً خاصاً بالنساء من تحصين
النساء من فكر القاعدة وذلك بمنع التبرعات داخل الأوساط
النسائية وداخل دور التحفيظ وتشديد المراقبة عليهن، وأن
تكون المحاضرات بإذن رسمي من وزارة الشؤون الإسلامية،
والمصرحّات لهن فقط إلى غير ذلك من الضوابط. وكيف تريدنا
أن نقضي على الإرهاب وكتب بعض مشايخ التكفير في بلادنا
والمقبوض عليهم تباع في المكتبات وبعضها وجدت مع المقبوض
عليهم أثناء المداهمات، بل خرج كتاباً مؤخراً يقرّر ماكان
يقوله ناصر الفهد وعلي الخضير والخالدي في باب الولاء
والبراء ويباع في أرقى مكتبات السعودية! وكيف تريدنا أن
نقضي على الأرهاب وبعض أئمة المساجد سمعته وبإذني يقنت
ويدعو لتنظيم القاعدة في العراق وافغانستان فقل لي بربك
أين وزارة الداخلية عن هذا وأين وزارة الشؤون الإسلامية
(المخدرة عن هذه القضايا)، وكيف تريدنا أن نقضي على الإرهاب
وهناك من يوجّه (الشباب) ويقرّر لهم أن يعجّلوا في الخروج
على الطاغوت وأن عليهم الإستعداد قبل الخروج وهذا نص كلامه:
(..ليس المعني في الموقف الثاني تلك الحركات الجهادية
التي تدافع عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وغيرها،
وإنما المعني هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية
في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد
والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس،
ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك؛ مما ينشأ عنه
اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء
المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهاً لوجه أمام إخوانهم
المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم وقيل لهم بأن حكومتهم
شرعية، وأن الخارجين عليها متطرفون إرهابيون مفسدون، ولم
يجد الناس من يزيل عنهم هذا اللبس، فحينئذ تقع الفتنة
بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضًا..). ويخلص بسؤال ينمّ
عن قربه من السلطة: كيف نقضي على الإرهاب وبعض العاملين
في القطاعات العسكرية والأمنية يجهلون هذا الفكر؟ وكيفية
التعامل معه ونحن نعلم أن تنظيم القاعدة من أهدافه إختراق
الأجهزة العكسرية كافة كما قرر ذلك في الكثير من الصوتيات
والمطبوعات!
ما يلفت الإنتباه، أن المراقبين لوتيرة الخطاب السلفي
المتشدد في السعودية يجمعون على أن الأخيرة لم تنجح حتى
الآن في تشخيص دقيق لمشكلة الخطاب الذي تتبناه، وتروّج
له، والسبب في ذلك أنها ترى فيه مصدراً لمشروعيتها الدينية،
وقد تفيد منه لمواجهة خصومها، فالحليف الديني هو، من وجهة
نظر الدولة، يمثّل صاروخ غير موجّه، كما وصفه وزير العمل
الحالي غازي القصيبي ذات يوم، ولابد من إطلاقه قبل أن
يقع في أيدي الأعداء. ولكن هذا النمط من التعامل مع الخطاب
وأنصاره وخصوصاً المصنّفين في خانة الحلفاء، مشروط بمنسوب
وعي منخفض، فما إن ينتبه هؤلاء إلى طبيعة الخدعة التي
وقعوا تحت تأثيرها فإن رد فعلهم سيكون إنتقامياً وتقويضياً.
البديل عن نتيجة مأساوية كهذه، هو الإشتغال على مراجعة
فكرية شاملة، وتقوم على أساس تنقية التراث السلفي من التكفير،
وإعداد البحوث العلمية لعلاج ظاهرة التطرف، وتخفيض دور
المؤسسة الدينية في الشأن العام، وإشاعة حرية التعبير
وإطلاق مشاريع حوارية على مستوى وطني.
فلا تزال عملية التصحيح للمناهج والخطاب في بدايتها،
ينبىء عن ذلك نزعة الإقصاء على قاعدة دينية وتكفير المخالف،
فمازالت المناهج الدراسية الدينية متمسكّة بنفس المواقف
النمطية من أتباع المذاهب غير السلفية وكذلك أتباع الديانات
السماوية الأخرى. من جهة ثانية، لا يزال الإجتهاد داخل
الدائرة الدينية محفوفاً بأحكام (التبديع)، و(التكفير).
بالرغم من الإنتقادات المتصاعدة لمناهج التعليم الديني،
فإن اعتماد الحرب كوسيلة لنشر الدين أحد الرسائل الكبرى
التي يتلقاها الطلاب في المدارس الحكومية، وإسقاط توصيف
الصليبيين على أتباع الديانة المسيحية، بما تستحضر أجواء
حروب مقدّسة ذات طابع كوني.
يمثل كتاب (عقيدة التوحيد والشريعة) الذي يتم تدريسه
للتلاميذ حتى مرحلة الثانوية نموذجاً لعملية التنقيح للمناهج.
فالطلاّب يدرّسون بأن عليهم كمسلمين رفض الديانات الأخرى
كافة. وحين يوضع ذلك في سياق الحديث المسهب عن إنجازات
مؤسس المذهب الوهابي الشيخ محمد بن عبد الوهاب على المستويين
الديني والتاريخي، فإن التوجيه العقدي يبدو واضحاً إذ
يصبح الإسلام الصحيح مقترناً باعتناق المذهب السلفي الوهابي،
مشفوعاً بآراء عقدية تكيل النكير على تقديس الأولياء وزيارة
القبور. ولايكاد التلاميذ يتلقون شيئاً ذا قيمة عن التاريخ
الإسلامي، أو تاريخ العالم، فكل ما يراد منهم معرفته أن
تاريخاً قدرياً عليهم استيعابه، يبدأ بنزول الوحي على
النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ويعاد إحياؤه على
يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي يتحوّل تدريجياً إلى
رمز للصحوة الدينية.
ما تقوم به وزارة التربية والتعليم من عمليات تنقيج
للمناهج، لا يعتبر ملزماً للمشايخ ولا للثقافة الشعبية
السائدة خارج جدران المدارس، حيث يحافظ الخطاب الديني
السلفي المتشدد على وحدته وتماسكه وفورانه. فالشفافية
والانفتاح على العالم يبدوان ميزتين ممقوتتين لدى المجتمع
السلفي، الذي يرى في الإلتصاق بموروثه وثقافته بصرف النظر
عن موقف الآخر رداً طبيعياً على من يطالبونه بالتصحيح.
|