مسيرة المعارضة في السعودية
فشل المطالب الوطنية وخيار الإنفصال
فريد أيهم
في البداية يلزم تحرير مورد النزاع من أجل وعي أفضل
لموضوع المعارضة في السعودية، بفعل الملابسات المحيطة
بها، سواء من حيث مفهوم المعارضة، ومشروعيتها، ودورها،
والبرامج السياسية التي حملتها، والأهداف التي تتغيا تحقيقها،
سيما في بلد يحظر تشكيل أحزاب سياسية أو أي شكل من أشكال
التجمع، الأمر الذي يجعل عمل الجماعات السياسية محصوراً
في نطاق ضيق، ويتّسم بالغموض أحياناً أو بالسريّة تارة،
وغالباً ما تنتهي الى مواجهة مع النظام السياسي، بصرف
النظر عن آليات عمله سلمية كانت أم راديكالية عنفية.
لذلك، من الضروري التمييز بين معارضة في أنظمة ديمقراطية
تحتكم إلى عملية دستورية للتناوب على السلطة.. فهناك سلطة
وهناك معارضة يتناوبان على السلطة، وكلاهما خاضعان لحكم
القانون الذي ينظّم عملية التنافس والتجاذب على السلطة.
في هذه الحالة، تصبح المعارضة مشروعة كونها مندمجة في
النظام الديمقراطي، إذ لا معنى للديمقراطية ما لم تكفل
حرية التعبير، وحق التشكّل الجماعي، وحرية العمل السياسي
تمهيداً للوصول إلى حلبة التنافس على السلطة أو تصحيحها.
أما المعارضة في الأنظمة الشمولية وغير الديمقراطية،
فتأخذ مسارين: راديكالي يفضي إلى إطاحة النظام واستبداله
بنظام آخر، عن طريق العنف بأشكال متنوّعة: الإنقلاب العسكري،
الثورة الشعبية، الحرب الأهلية المؤديّة الى الفوضى العامة
وتالياً إطاحة النظام، الإنشقاق الداخلي سواء على مستوى
السلطة أو المجتمع عبر حركات إنفصالية في منطقة أو مناطق
خاضعة تحت سيادة الدولة. وإصلاحي: يعمل على تغيير سياسات
أو سلوك الدولة، عبر آليات سلمية منها التكتّلات النخبوية
العفويّة أو المنظّمة للضغط على السلطة من أجل الإصلاح،
أو المظاهرات العفويّة ذات الطابع الحقوقي، رفع العرائض
الى قادة الدولة، إشاعة ثقافة الاحتجاج عبر وسائل الإعلام
المسموحة محلياً وخارجياً، توزيع المنشورات المشتملة على
مطالب سياسية محدّدة. ما يجدر الإلفات إليه، أن المعارضة
في كلا الحالتين غير مؤطّرة بقانون، تماماً كما هي السلطة
التي تحكم ليس وفق لائحة قوانين ثابتة تحدد صلاحياتها.
فهنا يتم التجاذب على قاعدة كمية القوة المتوافرة لدى
كل طرف، بمعنى أن العلاقة بين السلطة والمجتمع محكومة
الى التباين أو التعادل في ميزان القوى. يتذكّر الناشطون
السياسيون في هذا البلد تصريحات متواترة عن الأمراء نايف
وسلمان وسلطان مفادها (لقد أخذنا هذا البلد بالسيف ـ القوة
ـ ومن أرادها فليأخذها بالسيف).
مهما يكن، فإن تجارب المعارضة السياسية في السعودية
تتطلب مزيداً من البحث العميق، ولا يكفي مجرد إخضاعها
للتصنيفات النمطية على أساس إستذكار تحدّراتها الإجتماعية
وخلفياتها الأيديولوجية، وميولها السياسية، إذ لم تعد
هذه العناصر وحدها الكفيلة برسم مسار قوى المعارضة، فثمة
تشابكات بالغة التعقيدة تحكمها تتداخل فيها الروابط المحلية
بين الفئات الإجتماعية، والظروف الإقتصادية والسياسية،
والتحوّلات الإقليمية والدولية، والمزاج الثقافي العام،
وسلوك السلطة في لحظة تاريخية معينة، وكذلك مناخات الإحتقان
السياسي والإيديولوجي، ومستوى الوعي التاريخي لدى المجتمع
والذي يشكّل عنصراً فاعلاً في حركة الإحتجاجات السياسية
في أي بلد.
تاريخياً، تحتفظ حركات المعارضة على اختلاف نزوعاتها
الأيديولوجية والسياسية ببرامج وإستراتيجيات في التغيير،
ولكل منها رؤية محددة حول الدولة المنشودة، ولكن نقطة
الافتراق تبدأ من آلية إقامتها. وفي تجارب الحركات الاحتجاجية
في السعودية ما يفيد بقيامها بمحاولات تبديل النظام عن
طريق المؤسسة العسكرية أو الجمهور، ولكن أمكن تطويق هذه
المحاولات سواء عن طريق العنف أو تطبيق سياسات ذات طابع
تفريقي، يقوم على تعزيز الفوراق الإقتصادية وتكريس حالة
الإنقسام في المجتمع في عملية إزاحة واسعة النطاق للمواقع
وتصعيد وتخفيض مستمر لفئات تستهدف إحداث خلخة عميقة في
البنى الإجتماعية، وتنسحب عملية الخلخلة على الأجهزة الدولتية
ذات الطبيعة الحساسة مثل الجيش، والإعلام، والنفط، وقد
يمتدّ الى الجهاز البيروقراطي برمّته.
مراحل المعارضة
سلكت حركة المعارضة في السعودية خطاً تصاعديّاً نتيجة
عوامل عديدة، من بينها بطبيعة الحال زيادة منسوب الوعي
السياسي، إلى جانب الانفتاح الثقافي والإجتماعي على المستويين
المحلي والخارجي كأحد أبرز منتجات التحديث الإقتصادي والعمراني.
وبصورة عامة، مرّت المعارضة في السعودية ببثلاث مراحل:
جهيمان وتعليق: جهيمان: المعارضة المسلحة
|
ـ المعارضة الحقوقية ذات الطابع الخدماتي والمهني (الشيعة
في المنطقة الشرقية، أو العمال في أرامكو). ويمكن أن تسجّل
الخمسينيات من القرن الماضي كبداية إفتراضية (مع التذكير
بحوادث إحتجاجية متفرقة وقت منذ نشأة الدولة 1932 على
خلفية حقوقية)، أي مع بروز أنوية إحتجاجية بين عمّال أرامكو،
لجهة المطالبة بتحسين ظروف ومعاملة العمال المحليين أسوة
بنظرائهم الأميركيين. من جهة ثانية، كان الشيعة في المنطقة
الشرقية ملتزمين بأسلوب رفع العرائض الى الملك وكبار الأمراء
من أجل تزويد مناطقهم بالخدمات الأساسية، والسماح لهم
ببناء مراكز للعبادة الخاصة بهم، وأيضاً وقف الحملات التكفيرية
ضدهم من قبل علماء المؤسسة الدينية الرسمية.
ـ المعارضة الأيديولوجية (الحركات اليسارية والقومية
في الخمسينيات والستينيات) مستلهمة من التجربة الناصرية.
وقد شكّلت الإحتجاجات العمّالية القابلة التي سهّلت ولادة
تشكيلات إعتراضية قومية ويسارية، حيث تم استثمار السخط
المتعاظم بين العمال في إطار تنظيمي/حزبي، حيث تحوّلت
المطالب الإقتصادية الى مطالب سياسية قصوى، بلغت حد السعي
لإطاحة النظام سواء عبر مظاهرات احتجاجية أو إنقلابات
عسكرية كما جرى في القاعدة الجوية في الظهران بالمنطقة
الشرقية، من أجل إقامة نظام متحالف مع الزعيم المصري الراحل
جمال عبد الناصر. وقد واجه قادة التشكيلات الحزبية القومية
واليسارية حملة إعتقالات وتعذيب قاسية أرغمت كثيراً منهم
على المغادرة والعيش في المنفى (في العراق ومصر ولبنان
وسوريا وأوروبا) لسنوات طويلة.
ـ المعارضة السياسية ذات المنطلقات الثورية، ويمكن
القول بأن مرحلة الثمانينات سجّلت عقداً ثورياً عنيفاً،
على خلفية نشوء حركة احتجاج سياسي سلفية وشيعية، بدأت
بحركة جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979 بالسيطرة على الحرم
المكّي تمهيداً للإنقضاض على الدولة، أعقبتها إحتجاجات
واسعة في ديسمبر 1979 في المنطقة الشرقية قادها تنظيم
ديني شيعي يهدف إلى إشعال ثورة شعبية تطيح الدولة السعودية
بوصفها دولة غير شرعية متحالفة مع الولايات المتحدة، إلى
جانب كونها ديكتاتورية طائفية. وبالرغم من نجاح الدولة
في قمع الحركتين، إلا أنها أرست مرحلة إضطربات واسعة استمرت
حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حيث بدأت المعارضة
السياسية الشيعية تنشط خارج الحدود، ونجحت في إرباك الحكومة
السعودية من خلال نشراتها الإعلامية ونشاطاتها الحقوقية
والاحتجاجية في أوروبا والولايات المتحدة، فيما تأخر ظهور
إرتدادات قمع حركة جهيمان إلى بداية التسعينيات حين تبنى
التيار السلفي الناشط نفس الأفكار التي بشّر بها جهيمان،
ثم أخذت طريقها الى التنفيذ في حركة القاعدة ومقاتليها
العائدين من أفغانستان.
ـ المعارضة السياسية ذات المنطلقات الإصلاحية الوطنية.
منذ حرب الخليج الثانية سنة 1990 وصولاً الى 2004، انطلقت
القوى السياسية من مختلف الطيف الأيديولوجي والإجتماعي
والمذهبي تتخذ من الدولة وطنية كانت أم دينية منطقاً لنشاطها
الإحتجاجي، فالعمل السياسي يدور حول نقطة ارتكاز أساسية
وهي الدولة بعد أن كانت الطائفة أو المنطقة.
ففي العريضة الوطنية التي تقدّمت بها طائفة من الشخصيات
الوطنية والدينية سنة 1991 الى الملك فهد، تم التأكيد
على (إشراك جمهور المواطنين في تقرير كل ما يمسّ حياتهم
ومصيرهم ومراقبة ومحاسبة كافة الأجهزة التنفيذية التي
تعمل لخدمتهم ورعاية شؤونهم حتى يلقى كل مواطن ربه وقد
تحمّل كافة مسؤوليته، ودون أن يدعي أنه قد حيل بينه وبين
القيام بما افترضه الله عليه). وجاء أيضاً (أن الإصلاح
الجذري الشامل لم يعد فريضة شرعية وواجباً وطنياً فحسب،
بل هو اليوم مطلب عالمي إنساني، يتناول بالتغيير الأسرة
الدولية كلها، حتى الإتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية،
ولن ترضوا لمهبط الوحي، وقبلة المسلمين ومجتمع لا إله
إلا الله محمد رسول الله، أن يتخلف عن ركب الحرية والإصلاح).
وتضيف العريضة (والعالم كله يتحدث اليوم أن نظم الحكم
في دول الخليج تحتاج إلى إصلاح جذري يضمن تمكين المواطنين
من أداء واجبهم بالمشاركة الفعّالة والإسهام الإيجابي
في إدارة شؤون بلادهم ومن ثم لابد من إعادة صياغة هذه
النظم بطريقة صحيحة تحقق هذه الأغراض ولذلك فإن من الواجب
أن نستبق الحوادث ونصلح أوضاعنا على ضوء شريعتنا السمحاء).
وبصورة عامة، فإن تياراً وطنياً بدأ يشق طريقه منذ
عقدين متوسّلاً برؤية إصلاحية ناضجة وعميقة، وتحوّل الى
ما يشبه جماعات الضغط التي تزاول نشاطات بهدف إحداث تغييرات
في بنية النظام وليس إطاحته، مثل الدعوة إلى الإنتخابات
التشريعية، وإصلاح النظام القضائي، وإقرار حكم القانون،
وفرض مبدأ الشفافية في مجال توزيع الثروة، ومحاربة الفساد
بأشكاله المختلفة الإداري والإقتصادي.
ويمكن القول، أن الخطاب الإصلاحي الذي تبنّته القوى
السياسية في السعودية على اختلاف أطيافها كان راقياً وناضجاً
بل أمكن الزعم بأن هذا الخطاب أرقى من خطاب الدولة نفسها،
ليس على مستوى المطالب فحسب بل وفي طريقة التعبير عنه،
الأمر الذي يجعل استعمال الدولة لسلاح العنف ضد التيار
الاصلاحي مستهجناً بل منبوذاً، إذ ليس من المنطقي أن يوضع
من يحمل مطالب سلمية ومشروعة ومن يحمل السلاح في مرتبة
سواء.
بالنسبة للمعارضة السلفية المتطرّفة التي لجأت منذ
البداية في التعبير عن مطالبها بطريقة عنفية تلتقي مع
الدولة في التوسّل بأيديولوجية موحّدة، بمعنى أن المعارضة
السلفية والدولة تستمدّان من الأيديولوجية الوهابية خطاب
السلطة والمعارضة على السواء، فهي أيديولوجية قابلة للتكييف
لجهة الحكم، كما أنها في المقابل قابلة للتكييف لجهة المعارضة.
ولكن الأسئلة الكبرى تبقى: لماذا لم تنشأ معارضة وطنية
حتى الآن؟ ولماذا أجهضت سريعاً تجربة التيار الإصلاح الوطني؟
وهل صحيح القول بأن المعارضة تعكس حال الدولة، بمعنى أن
الخاصية الوطنية المفقودة في الدولة تنسحب على المعارضة
التي لم تنشأ على ثقافة وطنية، ولم تنجح هي في تطوير وتنشئة
ثقافة وطنية تمكّنها من السير بالدولة الى مرحلة الوطن؟
لماذا تفقد أطراف المعارضة آلية التواصل فيما بينها، ولماذا
تجد قوى المعارضة نفسها أمام خيار العمل المنفرد وليس
المشترك، فهل التباين الأيديولوجي هو سبب القطيعة، أم
انعدام الثقة، أم غياب الألفة والتقليد السياسي الاحتجاجي،
أم خلو التجربة السياسية المحلية من تراث معارضة وطنية،
أم هي حداثة تجربة بعض الحركات الاعتراضية، أم ضحالة الوعي
السياسي؟
أسئلة بالغة الدقة والخطورة والجديّة، ويجب أن تكون
مورد اشتغال جميع الناشطين السياسيين والإصلاحيين، إذ
إن غياب آلية للعمل السياسي الوطني بين القوى الإصلاحية
قد يضمر خيارات أكثر نجاعة، وقد يلجأ آخرون الى بدائل
من سنخ التي بحوزة الدولة نفسها، أي بتبنى خيار الإنفصال
وتشجيع الظواهر الإنشقاقية، لأنها وحدها التي يمكن أن
تلقى قبولاً من الجمهور العام خارج نطاق رعاية الدولة،
وكون ثقافة القسمة هي الثقافة المبثوثة من الدولة نفسها،
فحين يقرّر الملك وكبار الأمراء (سلطان ونايف) بأن الدولة
سلفية، فهم يعزلون الغالبية العظمى عن إطار الدولة، وحين
تصدر فتاوى التكفير من كبار علماء المؤسسة الدينية الرسمية
ضد طوائف وفئات وشخصيات غير منضوية داخل دائرة المذهب
الرسمي للدولة، يصبح خيار الغالبية هو الإنفصال، إذ لا
معنى لتقديم الولاء لدولة لا تحترم خياراتهم الفكرية والسياسية
والإجتماعية.
لم تنجح المعارضة الوطنية في التشكّل، لسبب أساسي وهو
غياب ثقافة وطنية لدى الدولة، وبالتالي قد يكون تفكيك
الدولة وإعادتها إلى أجزائها السابقة خياراً موضوعياً،
إذ حين يتعذّر التعايش المشترك على أساس الحقوق المتكافئة
والمساواة والعدالة، فإن الجماعات المنضوية بالقهر في
الدولة القائمة تصبح في حلّ من أي التزامات من جانب واحد،
وتصبح المصلحة وحدها المعيار النهائي لتقرير مصير الجماعات،
تماماً كما هو معيار الدولة نفسها التي لم تقم إلا على
تحقيق مصلحة فئوية، خاصة.
|