بين الرياض وباريس
علاقة متجدّدة بأهداف إستراتيجية
هاشم عبد الستار
لا بد أن يثير التواشج بين الرياض وباريس أسئلة كبرى،
في ظل عودة لافتة لفرنسا الى معقل الاستعمار البريطاني
القديم، وهي عودة غير تقليدية بطبيعة الحال، فالتعاون
بين باريس وأبو ظبي بدأ من نقطة بالغة الحساسية، والتي
تعبّر، دائماً، عن بلوغ علاقات الدول مرحلة التحالف الإستراتيجي،
خصوصاً إذا كانت مصحوبة بصفقات أسلحة فلكية ونوعية، ومناورات
عسكرية مشتركة، ووجود مادي لقوات فرنسية على الأراضي الإماراتية.
والى جانب قاعدة بحرية في إلإمارات، جرت مناورات مشتركة
مع البحرين وقطر في مياه الخليج.
بالنسبة للرياض، كانت باريس ورقة المساومة التقليدية
في المفاوضات العسكرية مع لندن، خصوصاً حين تبدّي الأخيرة
تصلّباً بشأن شروط سريّة يفرضها الأمراء قبل إبرام صفقات
الأسلحة، كما حدث في مفاوضات شراء طائرات التورنيدو البريطانية
التي واجهت صعوبات تفاوضية على خلفية نسبة الرشى المقررة
للطرف السعودي، الأمر الذي دفع بالمفاوض العنيد الأمير
سلطان للتلويح بخيار طائرات رافال الفرنسية، من أجل تحسين
الشروط السعودية في المفاوضات مع البريطانيين، وهي عادة
درجت عليها السعودية في مفاوضاتها مع الدول المصدّرة للسلاح.
كان فتح مكتب التحقيق في الغش التجاري الخطير في بريطانيا
في ملف الرشى المتعلّقة بصفقة (اليمامة)، قد حسم خيارات
الأمراء السعوديين الذين نفّذوا تهديدهم أول مرة بفتح
أفق الخيارات التسليحية، وإلغاء الأفضلية البريطانية،
ومن ثم تعزيز التعاون الإستراتيجي بين باريس والرياض على
حساب لندن.
في عهد الرئيس ساركوزي، بدأت العلاقة بين الرياض وباريس
تأخذ وتيرة تصاعدية لافتة، فيما بدا التراجع واضحاً في
العلاقة بين لندن والرياض، وكأن ما حذّر منه الأمير بندر
بن سلطان رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير قبل
عدة شهور قد نفّذه بطريقة أخرى. بعض المصادر وصفت العلاقة
الحميمية بين باريس والرياض بأنها طبيعية في ظل دخول ساركوزي
في تحالف إستراتيجي مع واشنطن، واستعداده لتدشين مرحلة
دبلوماسية يمينية متصالحة معها.
ولكن، هناك أسئلة أخرى لم تحسم الإجابات عنها، بالرغم
من المشتركات الإستراتيجية بين باريس والرياض. فماهي،
على سبيل المثال، طبيعة العلاقة الأمنية بين الرياض وباريس؟،
وهل ثمة عناصر للقاعدة في فرنسا؟ وهل استبدلت الرياض باريس
لندن لتكون محوراً للتعاون والتنسيق الأمني؟ نشير على
وجه السرعة، أن فرقة من الكوماندوس الفرنسي ساهمت في إخماد
انتفاضة جهيمان في نوفمبر 1979، وقامت بقصف منارة الحرم
المكي، على خلفية تحصّن بعض أفراد الحركة بداخلها.
هناك بلا شك، قضايا ذات اهتمام مشترك بين الرياض وبارس،
وللأخيرة دور في ملفات المنطقة: سوريا، لبنان، الوضع الإقليمي..
وباستثناء العراق، فقد ورثت فرنسا الدور البريطاني في
التنسيق مع واشنطن على المستوى الإقليمي، فيما يشير بعض
المراقبين الى أن واشنطن تقدّم مكافأة لباريس في مقابل
تعاونها في ملفات المنطقة، وخصوصاً لبنان وسوريا، فيما
يرى آخرون بأن الرياض تعاقب لندن لأنها لم تنجح في طي
ملف فضيحة رشى اليمامة.
يتساءل آخرون: هل باتت باريس أقرب إلى تل أبيب من لندن،
وبالتالي فهي أقرب إلى معسكر المعتدلين العرب وبالضرورة
إلى واشنطن؟، وهل تحوّلت باريس إلى رأس حربة أميركية وأوروبية
في الأزمة مع إيران؟.
فيما يرتبط بالتعاون الأمني بين باريس والرياض، نقلت
صحيفة عكاظ السعودية في 24 فبراير الماضي عن وزير الداخلية
الأمير نايف قوله بأن الجانبين السعودي والفرنسي إتفقا
على العمل بشكل مباشر بين الأجهزة الأمنية فى المملكة
ومثيلاتها فى فرنسا دون أية معوقات أو قنوات أخرى، وقال
الأمير نايف بأن ذلك ( حتى نستطيع أن نحقق الأمن بالشكل
المطلوب ونكسب الوقت). وهذا التصريح جاء عقب توقيع الجانبين
إتفاقاً أمنياً في مجالات مكافحة الإرهاب والهجرة غير
الشرعية والدفاع المدني. وهي موضوعات تبدو مثيرة وخصوصاً
في موضوع (الهجرة غير الشرعية)، ما لم يكن الأمر متعلقاً
بمهاجرين سعوديين الى فرنسا بأعداد كبيرة، فيما جرى تخفيض
شأن أمر السعوديين العائدين من العراق عبر الحدود.
وزيرة الداخلية الفرنسية ميشيل إليو ماري أضافت ضوءً
جديداً على العلاقة بين الرياض وباريس، واعتبرتها إستراتيجية
وليست مؤقتة. ووصفت العلاقة بأنها (عريقة وقديمة)، ولا
سيما في المجال الأمني. وأكّدت بأن مجالات التعاون بين
البلدين تشمل كل المجالات وخاصة التي تتعلق بالأمن الداخلي
وكل الأنشطة التي تضطلع بها وزارتا الداخلية في البلدين.
ووصفت الإتفاقية الأمنية بين فرنسا والسعودية بأنها إتفاقية
إستراتيجية وليست مؤقتة.
مراقبون وصفوا هذه الإتفاقية بأنها مؤشر على مرحلة
جديدة، فتحت الباب واسعاً على تعاون شامل. ويبدو أن الرياض
نجحت في اللعب على نظام الجينات الإستعمارية، ضمن معادلة
الحلفاء الجدد التي رسمتها المخاصمة مع سوريا وإيران،
فيما اختارت باريس أن تكون طرفاً إقليمياً في التجاذب
بين السعوديين والسوريين على الساحة اللبنانية، وأن تحصد
باريس بعضاً من ثمار التجاذب طالما أن الأثمان المدفوعة
ستكون من جيوب الآخرين.
تشعر إدارة ساركوزي بالإرتياح في علاقاتها مع السعودية،
طالما أن أفرادها يجنون مالاً وفيراً بقليل من الكلف السياسية،
خصوصاً إذا كانت في سياق توجّه عام مكفول قانونياً، ولكن
ما لم يحسبه الساركوزيون حتى الآن أن يغفلوا مصير الشيراكيون
الذين أفادوا قليلاً من الهبات السعودية والحريرية السياسية،
ولكنهم في نهاية المطاف دفعوها من سمعتهم وجيوبهم.
|