مستقبل العلاقات السعودية السورية
إنقلاب في سوريا بتمويل السعودية
عمر المالكي
أكدت الأنباء بأن انقلاباً عسكرياً قد تمّ إجهاضه في
دمشق في نوفمبر الماضي، وأن السعودية كانت طرفاً تمويلياً
فيه، وأن المخابرات الإسرائيلية كانت على علم به من خلال
رئيس الإستخبارات السعودية الأمير مقرن بن عبد العزيز.
الإنقلاب العسكري الفاشل، وتّر العلاقات السعودية السورية
أكثر فأكثر، ووسّع من دائرة المختلف بشأنه. هنا بعض الملاحظات
حول آفاق العلاقات السورية السعودية ومستقبلها.
يعتقد أن العلاقات السعودية السورية ستبقى متوترة الى
أمد غير منظور، وإن كان من الممكن التوقع بتخفيض حدّة
التوتر وليس إلغاءه.
والسبب الذي يدعو الى التوتر هو التالي:
أولاً ـ إن السعودية لا تنظر في علاقاتها مع دمشق (بشكل
خاص) بعين المصلحة السياسية، بقدر ما هي الرؤية الأيديولوجية
العقدية. بمعنى آخر، فإن الرياض تنظر الى النظام في دمشق،
كنظام (شيعي/ علوي) معاد، لا لأن سياساته مختلفة مع المصالح
السعودية فحسب، بل الأهم، لأنها متناقضة مع الأيديولوجية
الوهابية. إن الإلحاح على هذا العنصر الطائفي/ الأيديولوجي
لم يكن فاقعاً في نظرة السعوديين الى دمشق في عهد حافظ
الأسد، بالرغم من وجود اختلافات في وجهات النظر السياسية،
استطاعت سوريا إدارتها بحكمة. اليوم صارت الإصطفافات السياسية
حادّة بين محاور صارت واضحة، وليست معوّمة كما كانت في
الماضي. وقد كان لسقوط نظام صدام حسين أثر في تغليب السعوديين
لرؤيتهم العقدية على المصلحة السياسية. فقد رأوا أن لا
يوجد شيء يعوّض الهزيمة الأيديولوجية (للوهابيّة) مقابل
إيران (الشيعية) على صعيد الأرض العراقية بعد سقوط صدام،
لا يعوّض ذلك سوى إنهاء ما تعتبره حكم الأقليّة في سوريا،
مع ملاحظة أن السعودية نفسها تحكمها أقليّة مذهبيّة وهابيّة.
ثانياً ـ بناء على النظرة العقدية للأحداث، فإن السعودية
تميل الى (إسقاط) النظام السوري، بدل (التصالح) معه. وكانت
واشنطن قد اقترحت على السعودية ومصر بعد حرب تموز 2006،
أن تقوما بانتهاج سياسة تعتمد (جذب) سوريا الى محورهما
(محور الإعتدال!)، وبالتالي فك تحالفها مع إيران وحزب
الله وحماس. لكن السياسة السعودية كانت تعمل باتجاه آخر
أي (إسقاط النظام السوري) عبر دعم خدام والإخوان المسلمون
وتشجيع واشنطن وإسرائيل على ضرب سوريا.
لم تقدم السعودية أية تحفيزات لنظام دمشق بغرض جذبها
إليها، بل عمدت الى عكس ذلك: التصعيد السياسي والإعلامي
ضد النظام السوري؛ بل ومحاولة إسقاطه عبر انقلاب عسكري،
قيل أن رفعت الأسد ساهم فيه، وقيل أن الإخوان المسلمين
كانوا ضالعين فيه أيضاً. ترافق هذا مع حقيقة أن السعودية
تخلّت عن دعم سوريا بالمال منذ فترة طويلة، وتبنّت سياسات
بشأن السلام مع إسرائيل، رأت سوريا أنها ضارّة بمصالحها،
وهي المعنية الأساس بذلك الموضوع. وبالتالي لم تعد لدى
السعودية أوراق جاذبة لسوريا، كما أن السعودية لم تنشط
سياستها وقدراتها المالية بهذا الإتجاه.
وحتى الآن لا يبدو أن السعودية تميل الى مصالحة نظام
دمشق، بل هي تتجه الى التصعيد حتى على الصعيد الشعبي،
بمعنى (إنزال الخلاف السياسي بين البلدين ليشمل الصراع
بين الشعبين السعودي والسوري) وهي طريقة استخدمتها السعودية
سابقاً مع العراق، ومع اليمن بعيد احتلال الكويت، وبالطبع
مع إيران أيضاً. ومثال ذلك، إعدام أربعة سوريين دفعة واحدة
بتهمة المتاجرة بمواد مخدّرة الأمر الذي أثار استغراب
السفارة السورية، وولّد مظاهرة في دمشق أمام السفارة السعودية،
فيما ينتظر نحو 40 سورياً حكماً بالإعدام في السعودية.
ثالثاً ـ إن الخلاف السوري السعودي ـ من وجهة النظر
السعودية ـ تعدّى مسألة الخلاف الجزئي المحدود، الى اعتباره
مواجهة شاملة على محاور عديدة عنوانها الكبير: (التحالف
السوري مع إيران). فمع أن التحالف الإيراني السوري هو
من عمر الثورة الإيرانية، أي منذ عام 1979م، ومع أن دعم
سوريا لفصائل فلسطينية راديكالية ليس جديداً فهذا هو تاريخ
سوريا، ومع أن دعم سوريا لحزب الله ليس جديداً هو الآخر؛
ومع أن سوريا والسعودية احتفظتا دائماً بمواقف متباينة
بشأن حلول الصراع مع إسرائيل، بالرغم من أن سوريا لم تقم
مطلقاً بمعارضة التوجهات السعودية علناً بشكل متحدّي،
حتى مبادرة الأمير عبدالله قبلها السوريون على مضض ولم
يفتحوا معركة بهذا الشأن. إضافة الى ذلك، وبالرغم من أن
التواجد السوري في لبنان كان بتشريع عربي دعمته السعودية
ومصر، بل أن السعودية ساهمت عسكرياً في التواجد بلبنان
ضمن ما سمي بقوات الردع العربية، حيث أرسلت نحو 5 آلاف
جندي الى جانب 25 جندي سوري.. وبالرغم من أن السعودية
وسوريا تقاسمتا النفوذ في لبنان لمدّة طويلة.. إلا أن
هذا الموضوع كما المواضيع الأخرى انفجرت بعد حرب تموز
2006، وليس بعد مقتل الحريري، الذي ترى السعودية أن سوريا
قد قامت باغتياله وهي تعلم أن سلفيين سعوديين كانوا وراء
عملية الإغتيال فكان التصعيد السعودي ضد سوريا في هذه
الجزئية يستهدف التعمية على احتمالات شبه مؤكدة على قتله
على يد سعودي انتحاري.
حرب تموز بالتحديد كانت بمثابة انفجار في السياسة السعودية،
حيث أن تلك الحرب جاءت على قاعدة تراكم انتصارات للحلف
السوري الإيراني، أخرجت السعودية من عقالها، فاختطت السياسة
الخارجية السعودية طريق المواجهة المباشرة، بالرغم من
أنها لا تمتلك من أدوات تلك المواجهة إلا أوراق تبدو الآن
أنها ليست بقوة الأوراق السورية.
السعودية بالتحديد التفتت متأخرة الى أن التحالف السوري
الإيراني قد قوّض مكانتها في العالم العربي والإسلامي
بشكل غير مسبوق. في الماضي كانت تنظر اليه كتحالف جزئي
ضعيف لا يؤثر على مكانتها، ولا يعطي دمشق القوة الكافية
لتمرير سياساتها في العالم العربي. ولكن السنوات التي
تلت احتلال العراق، كشفت عن أن ذلك الحلف قد استنفر قواه
ونجح في إفشال المخطط الأميركي في العراق، ثم نجح ذلك
الحلف في استعادة المبادرة بعد إخراج السوريين من لبنان،
حيث نجح حزب الله في حربه الأخيرة مع اسرائيل. ونجح الحلف
السوري الإيراني في فلسطين، حيث سيطرت حماس بالإنتخاب
أولا على مقاليد السلطة، ثم بالقوة على غزة بعد أن تم
التمرد على اللعبة الديمقراطية. وبالتالي فإن السعودية
وجدت نفسها وجهاً لوجه مع ذلك الحلف الذي بات يقوّض مكانتها.
وراحت تصف دمشق بأنها مجرد تابع في الفلك السوري، وأن
ايران تبدو وكأنها تسير السياسة السورية، وأنها تحتل سوريا
بل وتنشر أيديولوجيتها المذهبية هناك.
وبالتالي فالسعودية ترى خلافها مع دمشق مجرد عنوان
لصراعها مع إيران. ولكن السؤال لماذا لا تواجه السعودية
إيران بشكل مباشر؟ باختصار لأن السعودية تخاف من ذلك،
وبعض صقور السعودية (بندر وأبوه والجناح السديري) يريدون
من أميركا أن تقوم بالنيابة عنهم بضرب إيران، بل أن هناك
ترحيباً فيما يبدو أن تقوم اسرائيل بمهاجمة المفاعل النووي
الإيراني. ذات المسألة تتعلق بسوريا، فالسعودية كانت تحض
واشنطن واسرائيل على مهاجمة سوريا وإسقاط نظام الأسد،
لكن الأميركيين والإسرائيليين تنبهوا أولا الى أن إزاحة
الأسد قد تأتي بأصولية سنيّة (الإخوان المسلمون) قد تكون
أكثر تشدداً مع اسرائيل، وكان لسان الحال يقول: (مجنون
تعرفه، خير من مجنون لا تعرفه)! وتنبّه الإسرائيليون والأميركيون
معاً بأن إسقاط النظام في دمشق ليس لعبة، خاصة بعد أن
ثبت بالتجربة أن أميركا لا تستطيع أن تشن حرباً أخرى في
الوقت الحالي لا ضد سوريا ولا ضد إيران، وأن اسرائيل بعد
حرب تموز أضعف من أن تقوم بالمبادرة في الهجوم وإشعال
الحرب. بمعنى أن تمني زوال الأسد شيء، وإمكانية إسقاطه
شيء آخر.
رابعاً ـ وما يجعل مستقبل العلاقات السعودية السورية
متوتراً، أن السعودية هي جزء من منظومة تحالف ضد المحور
السوري الإيراني، بمعنى أن السعودية مجرد رقم في تحالف
أميركي إسرائيلي. ومادامت واشنطن والغرب عموماً كما إسرائيل
تعتمد منهج المصادمة مع دمشق، فإن السعودية لا يمكنها
الشذوذ عن هذا، شأنها في ذلك شأن مصر والأردن. وأكبر دليل
على ذلك، النصيحة الأميركية لدول الإعتدال بعدم المشاركة
في قمة دمشق التي عقدت في مارس الماضي، حيث غابت الدول
المعتدلة بناء على تلك النصيحة.
خامساً ـ بالرغم من أن دمشق لا تبدو راغبة في التصعيد
مع السعودية، إلا أنها لن تمانع في مجاراة التصعيد السعودي،
كما بدا واضحاً في مناقشة الجامعة العربية موضوع المواجهات
المسلحة بين جناحي الموالاة والمعارضة في لبنان. والخلاف
الحقيقي ليس في أن دمشق غير راغبة في ضبط الخلافات بين
البلدين، بل أن السعودية هي التي تمانع، متصورة أنها هي
الأقوى وهي التي ستفرض إرادتها وخيارها السياسي في النهاية.
والأرجح أنه حتى لو تم التفاهم بين دمشق والرياض بشأن
مشاكل لبنان على أساس لا غالب ولا مغلوب، ونجح اللبنانيون
في حل معضلتهم السياسية، فإن الملفات الأخرى ستبقى معكراً
للعلاقات لفترة طويلة فيما يبدو. وما يجعل هذا الأمر مرجحاً
هو أن المحور الأميركي المتحالف مع محور الإعتدال العربي
ليس بصدد تحقيق منجز سياسي لا في فلسطين ولا في العراق
ولا في لبنان ولا في إيران ولا في أفغانستان.. على عكس
ذلك، فإن المزيد من الخسائر قد تكون تنتظر ذلك المحور.
وإذا ما حدث هذا، فإن مرارة السعودية ستكون مضاعفة من
السوريين والإيرانيين وحزب الله وحماس.
سادساً ـ ويتعلق بمستقبل السياسة الخارجية السعودية،
فإن من الملاحظ اليوم أن السعودية فقدت معظم الأوراق المهمّة،
التي لبعضها ـ كما قضية فلسطين ـ صلة بشرعية النظام السعودي
نفسه. فوقوف السعودية ضد حماس لا شك أنه كلفها كثيراً،
كما أن موقفها من حزب الله واصطفافها سياسياً مع اسرائيل
انحدر بسمعة السعودية الى الحضيض، حاولت الأخيرة رفعه
وتقويته من خلال اشعال الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة،
وطرح نفسها المدافع عن السنّة. وهناك مشاكل بنيوية أخرى
في السياسة الخارجية السعودية: ان الفعالية السياسية السعودية
كانت تعتمد على المال بدل (النشاط السياسي)، وهذا المال
كان يستخدم في أكثر الأحوال من أجل (تهدئة الخصم والمخالف
في السياسة) وليس من أجل (تغيير نهجه السياسي بالضرورة).
هذا تغير، فالسعودية لم تعد مانحاً كما كان في الماضي،
رغم زيادة إيراداتها، كما أنها لا تتمتع بفعالية ونشاط
سياسيين، وتفتقر العلمية في قراءة الأحداث، وبالتالي لا
ترى كثير من الدول أهمية للعنصر السعودي الذي انكفأ على
نفسه ليلعب ضمن محور صغير في العالم العربي (الأردن ومصر
ودول الخليج الى حد ما).
ثم إن السعودية ذات طموحات كبيرة، في حين أن فعلها
ونشاطها دون مستوى ذلك بكثير، أي أنها تريد أن تكون لاعباً
بدون بذل جهد، مثل ذلك الجهد الذي تبذله الدبلوماسية الإيرانية
شديدة النشاط والفاعلية. ومع أن السعودية تخلت عن كثير
من القضايا العربية والإسلامية الى حد كبير (الصحراء الغربية،
أفغانستان، الشيشان، كشمير، الأقليات الإسلامية في فطاني
جنوب تايلاند، ومورو جنوب الفلبين، العراق نفسه، قضايا
السودان في الجنوب ودارفور، قضية الصومال، قضية جزر القمر
الدولة العربية التي تعرضت لمشاكل داخلية مؤخراً، وغيرها
من القضايا).. مع هذا فإن السعودية رغم انحصارها في قضايا
قليلة، من أجل تخفيف الأعباء السياسية، فإن ذلك لم ينعكس
على فاعليتها السياسية، وأدّى الى إفقادها المكانة الإسلامية
والعربية التي كانت تتمتع بها. السعودية تلعب اليوم دوراً
أقل بكثير مما كانت تلعبه في الماضي. ويبدو أنها استعاضت
عن ذلك النشاط السياسي، بالنشاط الإستخباري الذي يميل
الى التخريب أكثر منه الى البناء. بمعنى أن السعودية ليس
لديها (مشروع سياسي) واضح. بعكس المحور الإيراني السوري،
الذي له رؤية واضحة، ولا يحمل أعباءً أكثر من حجمه، ولا
ينقصه تحيّن الفرص واستغلالها.
السياسة الخارجية السعودية تعكس الى حد كبير أزمة النظام
السعودي في الداخل، فهو نظام (هرم) وحركته بطيئة، وجهده
قليل، ونجاحه محدود، وإبداعاته معدومة. لا مستقبل للسياسة
السعودية إلا المزيد من الخسائر، لا يعوضها التحالف مع
أميركا التي تعاني هي الأخرى من تضاؤل لنفوذها ومكانتها
في الشرق الأوسط.
|