النفط لا يعيد نفسه
(حقبة سعودية) ثانية غير ممكنة
محمد قستي
إرتبطت (الحقبة السعودية) الأولى برحيل الزعيم المصري
جمال عبد الناصر، وبداية الطفرة النفطية في منتصف السبعينيات.
وقتذاك، كان الفراغ القيادي في الساحة العربية، والأوضاع
الإقليمية والدولية، والأهم صعود الخيار الإسلامي على
وقع تقهقر الخيار القومي بعد هزيمة حزيران سنة 1967، والتطوّرات
اللاحقة (الجهاد الأفغاني مثالاً) والتي وهبت السعودية
فرصة تاريخية كيما ترسم لنفسها موقعاً ريادياً في العالمين
العربي والإسلامي. فقد لعب النفط ورعاية الأماكن المقدسة
دوراً مركزياً في صوغ (الحقبة السعودية) الأولى والتي
دامت حتى نهاية الثمانينات، كانت فيها السعودية الدولة
القطبية الأبرز في النظام السياسي العربي. وزاد من (تحوقبها)
دخولها في تحالف إستراتيجي مع الولايات المتحدة وأوروبا،
الأمر الذي أعطاها موقعاً حيوياً في الترتيبات الأمنية
والسياسية خليجياً وعربياً وإسلامياً.
كانت أزمة الخليج الثانية في أغسطس 1991 نقطة تحوّل
دراماتيكية في مكانة السعودية، حيث رسمت الأزمة خطاً فاصلاً
بين معسكرين على المستويين العربي والإسلامي، وبدأت لهجة
جديدة غير مسبوقة تبرز بصورة لافتة، حيث بدأ الحديث عن
عرب النفط وعرب الحرمان، ودول المال ودول العمالة، ما
يبطن موقفاً سياسياً وأيديولوجياً من هيمنة السعودية،
التي فقدت مركزيتها لصالح تحالف عربي جديد يرفض الهيمنة
الأميركية وحلفائها في المنطقة.
ومنذ نهوض السعودية من كبوة الحادي عشر من سبتمبر،
مستعينة بالطفرة النفطية كرافعة رئيسية منذ العام 2004،
بدأ الحديث عن (حقبة سعودية) ثانية، تستعيد فيها دورها
الريادي في النظام الإقليمي. الإ أن ثمة مفارقات جوهرية
طرأت في المرحلة الراهنة، تجعل من (حقبة سعودية جديدة)
إمكانية غير قائمة، بالرغم من وجود بعض العناصر السابقة
لتثميرها في تشكيل هذه الحقبة، من قبيل النفط والعلاقة
الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. أولى
تلك المفارقات أن الفراغ القيادي في المنطقة لم يعد موجوداً،
فثمة معسكر جديد يصطلح عليه بمعسكر الممانعة، يحظى بشعبية
واسعة عربية وإسلامية، ويضم إيران وسوريا وحماس في فلسطين
وحزب الله في لبنان وقوى سياسية منبثّة على طول الجغرافية
العربية والإسلامية وتقف في وجه معسكر الإعتدال الذي تقوده
الولايات المتحدة ويضم إسرائيل ومصر والسعودية والإردن
إضافة الى قوى سياسية غير شعبية في فلسطين ولبنان، وبالتالي
فإن دوراً قطبياً للسعودية في النظام الإقليمي العربي
غير ممكن التحقق. وتعدّ هذه المفارقة جوهرية كون السعودية
لم تعد قادرة على تمييز موقفها حيال قضايا بالغة الحساسية
مثل: أفغانستان، والعراق، وفلسطين، ولبنان، بل هناك دليل
كافٍ على أن الموقف السعودي كان سلبياً وباعثاً على السخط
الشعبي.
تبدو السعودية عاجزة عن تقديم صورة لافتة وريادية في
سياساتها الإقليمية والدولية، وحتى تحالفاتها المثيرة
للغرابة أحياناً، كونها تقوم على رهانات حافة الهاوية،
دون هدف واضح، وكذلك الحال بالنسبة لعداواتها الحقيقية
والمفتعلة التي انبنت على قاعدة قطيعة تامة مع كل من يخالفها
الرأي والموقف، بل بلغ الحال بالعداوة إلى مستوى التآمر
على إطاحة خصومها ولو بالقوة العسكرية، وهو أمر لم يعد
تخفيه كما كانت تقوم بذلك في الحقبة الذهبية الأولى، فهي
تقوم بكل ذلك تلبية لغرائزية غير مؤسسة على قوة حقيقية،
وإنما لاستشعارها بالدعم الأميركي. والأخطر من ذلك، أنها
تخلّت في خصومتها عن المواربة والمرونة المفتعلة واختارت
العلنية في شكلها المتغطرس كموقف لا ترجو غيره، كما تنبىء
عن ذلك قرارات إنفعالية صارمة برفض استقبال عدد من القيادات
السياسية العربية في بلادها، وكذلك تبنيها مواقف سياسية
راديكالية بشأن قضايا بالغة الحساسية وكان أبرزها العدوان
الإسرائيلي على لبنان في يوليو 2006، وكذلك قيادتها حملة
تعبوية سافرة ضد القمة العربية المنعقدة في سوريا في مارس
الماضي، فضلاً عن تبنيّ موقف ممالىء للدولة العبرية في
موضوع السلام في الشرق الأوسط، ورواج تقارير إقليمية ودولية
عن استعداد الرياض للمضي بعيداً في عملية السلام بما فيها
التخلي عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم، وتطبيع
شامل مع إسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
يبوح، بمرارة، المثقفون في المملكة لانحدار السياسة
السعودية الى درجة تقترب من الشخصنة منها الى الرؤية الإستراتيجية.
يتساءل كثيرون في الدوائر القريبة من العائلة المالكة
عن سر دعم الأخيرة للشاب اللبناني سعد الحريري بطريقة
صارخة وصاخبة في المعركة السياسية المفتوحة مع سوريا..يندرج
هذا التساؤل في سياق آخر: لماذا نجحت سوريا في مناكفة
الإدارة الأميركية وإصرارها على عقد القمة العربية، فيما
فشلت جهود الرياض في تخريب قمة دمشق. فهل باتت الرياض
إلى هذه الدرجة من التبعيّة لواشنطن الأمر الذي يجعلها
ذيلاً تابعاً بدلاً من أن تكون مالكة لمبادرة إستيعابية.
ولماذا لم تحقق السعودية خرقاً سياسياً في أي من الملفات
الإقليمية بدءً من أفغانستان، والعراق، وفلسطين، ولبنان،
وكلها علامات بارزة على إخفاق شامل في سياستها الخارجية.
مصدر سياسي مقرّب من العائلة المالكة رصد الإخفاق السعودي
في سياق تشخيص أزمة النظام، وفي الوقت نفسه يتعارض مع
إمكانية (حوقبة) سعودية جديدة. يذكر المصدر أربع أسباب
رئيسية وهي:
ـ الإنتشارية المفرطة في الداخل والخارج: حين تتفشى
الدولة الى حدود غير قابلة للسيطرة تنسج قصة إنهيارها،
كما حصل للدولة العثمانية والإمبراطوريات الكبرى في التاريخ
وآخرها الإمبرطورية البريطانية التي أصبحت مترهّلة عاجزة
عن الإضطلاع بأعباء كبرى، ولم تفلح سوى في تقديم إرشيفها
الإستعماري لقوى دولية جديدة ناشئة مثل الولايات المتحدة،
وخصوصاً حين يكون التفشي غير منسجم مع إمكانياتها الإدارية،
وغياب طاقم مؤهّل بدرجة كافية لتطبيق الخطط وتحقيق الأهداف
الخاصة بالدولة.
ـ الركود الإداري: وهذا الركود يعود في جزء أساسي منه
إلى الفساد العمودي المفضي إلى أشكال فساد أفقي، فقد تحوّلت
الطبقة الحاكمة إلى مجرد متنافسين، مفعمين بالشراهة والشراسة،
على مصادر الثروة والسلطة، الأمر الذي جعل الدولة غنيمة
كبرى يراد الإنقضاض عليه قبل وقوعه في أيدٍ قوى أخرى.
بكلمات أخرى، غابت الدولة كياناً لإدارة الشؤون العامة،
وحضرت بسطوة النزوعات الفردية لجهة تعطيل المصالح العمومية.
يضاف إلى ذلك، حرم الإنشغال اللحظوي بالغنيمة من التفكير
في القضايا الإستراتيجية أو بلورة رؤية عميقة لسياسة خارجية
تأخذ في حسابها عوامل القوة الذاتية والمصالح الوطنية
والقومية.
ـ عدم المراجعة والتقويم: صرّح الملك عبد الله بأنه
يحب النقد من صغره، ولعله كان يشير الى النقد بمعنى المال
وليس المحاسبة. فمن يراقب سيرورة الدولة منذ نشأتها، كان
ثمة إصرار على رفض أي محاولة لمراجعة سياسات الدولة سواء
من أشخاص داخل الجهاز الدولتي، أو من قوى سياسية وطنية
ترنو إلى تصحيح الإختلالات العميقة في الدولة، فقد صدرت
قرارات إقالة من ملوك سعوديين ضد وزراء سابقين لمجرّد
تقدّمهم بمقترحات تنطوي على تصحيح لمسار سياسات أو أجهزة
دولتية مثل محمد عبده يماني، وزير الإعلام الأسبق، واحمد
زكي يماني، وزير البترول والمعادن الأسبق، وغازي القصيبي،
وزير الصحة الأسبق ووزير العمل الحالي. أما في المستوى
الشعبي، فقد نال كثير من الناشطين السياسيين والحقوقيين
أحكاماً بالاعتقال التعسفي والتعذيب والتدابير غير القانونية
من قبيل المنع من السفر، والحرمان من الوظيفة، والمراقبة
الدائمة على حركة المستهدفين من الإصلاحيين.
وعلى مستوى أعلى، فإن الإحساس المتضخم بالقدرة على
التأثير في معادلات سياسية قائمة وتغييرها، والإعتداد
الفارط بأنها تحوز على أدوات في النفوذ القابلة للتوظيف
في إملاء إرادتها على الآخرين، جعلها ترفض أي دعوة للمراجعة،
وتصحيح الأخطاء. ومن يراقب تاريخ الدولة، يجد بأنه حين
تواجه العائلة المالكة تحديّات خطيرة تهدد وجودها السياسي،
فإنها تلجأ إلى (مناورة) المراجعة، وتبدأ نغمات الإصلاح
والتغيير تعزف من قبل الأمراء، ولكن تتوقف النغمات بصورة
مفاجئة ما إن تتبدّل موازين القوى، وتحصل العائلة المالكة
على مصادر قوة تستعيد بها دورها التسلطي، وكان المال النفطي
يسدي في كل الأحوال تقريباً خدمة جليلة لتماسك السلطة.
ـ التشرذم الأحادي: ويبدو أن الأحادية والواحدية قد
حكمت سياسة الدولة والذهنية الحاكمة، بحيث لم تعد ترى
سوى خياراً واحدياً في تفكيرها وسلطتها وعلاقاتها الدولية..
التنوع ليس سمة في الإستراتيجية السعودية بل هو نقيض للعقل
السياسي السعودي. لها في الداخل حليف واحد، ونهج واحد،
وفلسلفة حكم واحدة، ولها في الخارج حليف واحد: أميركا،
والحريرية في لبنان، وقوات مسلّحة متمردة في العراق، والدحلانية
في فلسطين، بخلاف غريمتها ايران التي فتحت خيارات تحالفاتها
على مروحة واسعة من التيارات والحكومات والقوى السياسية
في كل البلدان التي تنشب فيها أزمات.
لبنانياً، على سبيل المثال، حيث تضع السعودية جهوداً
ضخمة من أجل دعم حلفائها الممثلين في فريق 14 آذار، الى
درجة أن كثيراً من اللبنانيين وخصوصاً المناصرين للمعارضة
لم تعد تنظر الى هذا الفريق سوى الوجه السعودي في لبنان،
وقد صرّح أحد أقطاب الموالاة في أبريل الماضي بأن (السعودية
على استعداد لأن تدفع نصف ثروتها لئلا تسمح للمعارضة بالحصول
على الثلث الضامن في الحكم). الأمر الذي يثير سؤالاً عن
سر هذا السخاء السعودي، والاستفادة المباشرة لها وما ستجنيه
من بذل هذه الاموال الطائلة؟ وكيف سيكون شكل الحل المقترح
والمدفوع الثمن من قبل السعودية؟ وتأتي الأجوبة المستهجنة:
هل يراد سيطرة المنهج السعودي الوهابي بحيث تصبح سيدات
لبنان الرائدات في مجالات العلوم والسياسة والإعلام والطب
وغيره عرضة للملاحقة من قبل الوهابيين الذي يعتبرون المرأة
(عورة)، واستبدال قانون العقوبات اللبناني ليصبح شبيهاً
بما يجري في السعودية من تقطيع الرؤوس في الساحات العامة؟
وبلغت الشكوك في الدور السعودي في لبنان حدّ تشجيع ظواهر
(فتح الإسلام) وغيرها بهدف السيطرة على لبنان كبديل للنفوذ
الذي خسره في العراق، والذي كان يُمني النفس به بعد الإحتلال
الأميركي، لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر إذ لم
تستطع قوات الإحتلال الأميركية أن تستأصل النفوذ الايراني
المتمادي في العراق بسبب التركيبة السكانية المذهبية،
لذلك تحوّلوا إلى تهجير المسيحيين.
على المستوى العربي، لا تملك السعودية هامشاً كبيراً
في علاقاتها فليس لها حلفاء جدّيون نافذون في الواقع العربي
باستثناء مصر، أما الدول العربية الأخرى فليس للسعودية
سوى نفوذ طارىء ووقتي مرتبط بكمية المال المدفوع لقاء
مواقف سياسية. هذا يأتي في سياق تجربة استثنائية جديد
تخوضها السعودية بقدر كبير من المجازفة وكسر عظم، بالرغم
من أن التجربة ثبت فشلها في أكثر من موقع سواء في العراق
أو فلسطين أو لبنان أو حتى في أفغانستان، والسبب في ذلك
ببساطة أنها تتوسّل بإستراتيجية واحدية وقهرية في سياستها
وتحالفاتها، الأمر الذي يجعل رهاناتها مقفلة كونها تقطع
السبيل عليها في تجنّب خسارة فادحة، فضلاً عن تحقيق مكاسب
من نوع ما.
الملك المحنّط أنهى الحقبة
|
نهاية الحقبة السعودية
طائفة كتابات نشرت مؤخراً تدور حول فشل السياسة الخارجية
السعودية. ففي مقالة بعنوان (نهاية الحقبة السعوديّة)،
كتب ناهض حتر في الأول من أبريل الماضي، أن الضغوطات التي
مارستها السعودية لإفشال القمة العربية في دمشق هي نفسها
المسمار الأخير في نعش الحقبة السعودية المستمرة منذ 1973.
يقول (فالرياض لم تستطع إبتزاز سوريا سياسياً بالتهديد
بإفشال القمة، ولم تستطع منع انعقادها أو تأجيلها. وبالمحصلة،
ظهر جلياً مدى تراجع النفوذ السعودي حتى في دول مجلس التعاون
الخليجي، التي لم تتبنَّ السياسة السعودية إزاء دمشق.
ويمكننا أن نرسم لوحة قلقة لحلفاء الرياض العرب: جبهة
14 آذار في لبنان، العاجزة عن الحسم وربما الصمود في الصراع
الداخلي، والنظام المصري المعزول شعبياً، والمرجّح، حسب
تقديرات محمد حسنين هيكل، ألاّ يستمر في السلطة أكثر من
سنة واحدة، والقصر الأردني المشدود موضوعياً إلى علاقات
خاصة مع سوريا، تحكمها المصالح الثنائية والمخاوف من المشاريع
الإسرائيلية، ولا تكبحها سوى الضغوط السعودية المعززة
بالمساعدات المالية الضرورية لإنعاش الاقتصاد الأردني
المريض). ويضيف (لقد تقلّص مدى الهيمنة السعودية، إذن،
إلى حدود مأزومة ومتغيرة ومنحسرة. وإذا ما قررت الرياض
مواصلة الصراع مع سوريا والمعارضة اللبنانية إلى الحد
الأقصى، فلن يبقى لها حلفاء في المنطقة سوى أمراء الحرب
الأهلية اللبنانيين... وإسرائيل. فالشعبان المصري والأردني
لن يسمحا بأيّ مواجهة مع سوريا، ولا النظامان في البلدين
لهما المصلحة أو القدرة على الإشتباك مع سوريا أو الانضمام
إلى حلف مع إسرائيل ضدها).
لا غنى للرياض، حسب الكاتب، عن إسرائيل في مواجهة مفتوحة
مع سوريا. فأدوات الصراع اللبنانية أعجز من المغامرة بمجابهة
عسكرية مع حلفاء سوريا في لبنان. والطرفان يعوّلان على
تدخل عسكري أميركي، ليس وارداً بالنظر إلى فشل التجربة
العراقية التي تقيّد القوة الأميركية. واقتراح واشنطن
لتجاوز هذا المأزق هو إنشاء حلف عربي ـ إسرائيلي في مواجهة
الحلف الإيراني ـ السوري. وأزمة هذا الحلف تكمن في العقدة
الفلسطينية، إذ لا تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى تقديم
تنازلات على هذا المسار، إنّما تريد الحصول على معظم الضفة
الغربية وشطب قضية اللاجئين والاعتراف بها كـ(دولة يهودية)
لقاء دورها في حلف مع السعودية ضد سوريا.
إسرائيل، في المقابل، ترى أنّ لها مصلحة أساسيّة في
الاستفادة من الضغوط السعوديّة على دمشق، للتوصّل إلى
سلام مع السوريّين يكفل إغلاق الجبهة الشمالية، حيث الحرب
مكلفة وغير مضمونة النتائج، سواء على جبهة الجنوب أو على
جبهة الجولان. وتجد إسرائيل في هذا السلام ـ الممنوع أميركياً
ـ فرصة تاريخية للتفرغ لتصفية القضية الفلسطينية، وتهجيرها
إلى الأردن.
هذه التعقيدات هي التي تضع السعودية في دائرة مغلقة،
تستهلك نفوذها، وتهوي بأدائها إلى حدود التطابق مع أداء
الميليشيات اللبنانية. ويعبّر هذا التطابق، في النهاية،
عن أزمة النظام السعودي في ظل المتغيّرات الإقليمية.
ويخلص الكاتب الى أن الحقبة السعودية كانت موافقة لزمن
الصعود الإسرائيلي الخشن والهيمنة الأميركية الناعمة،
لكنها تتفكك في زمن التراجع الإسرائيلي والسيطرة الأميركية
التي لم تعد ممكنة إلا بقوة السلاح، ما يجعل وجودها مسألة
وقت لا غير. وعلينا أن نلاحظ أن السياقات الإقليمية التي
كانت تكفل للسعودية حضورها القوي قد تلاشت هي أيضاً. فالمقاومة
اللبنانية لم تعد أسيرة التفاهم مع وكلاء السعودية في
لبنان (آل الحريري وشركائهم)، بينما (بتحررهم المتصاعد
من فتح ونهجها)، تحرر الفلسطينيون من الهيمنة السعودية
التقليدية على العمل الفلسطيني، وباءت محاولات الرياض
لاستيعاب المقاومة العراقية مذهبياً بالفشل. فالمقاومة
العراقية تتحول إلى حركة وطنية خارج أي إطار إقليمي. وفي
الوقت نفسه فإن إحكام السيطرة الأميركية على القرار والنفط
السعوديين يجعل أيادي الرياض مغلولة في التحرك للحصول
على حلفاء خارج التعليمات اليومية للإدارة الأميركية.
وخلاصة الأمر، بحسب حتر، كانت الحقبة السعودية، على
بؤسها الشديد، محيرة فعلاً. فليس لدى السعودية ما تقدمه
سوى المال. وهي لا تتوافر على أي عنصر من عناصر القوة
العسكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، سوى
الأنموذج الوهابي البدائي في نتاجيه المتشابكين: الرجعية
الدينية المتأمركة والرجعية الدينية الإرهابية. وقد أظهر
الأمير بندر بن سلطان في تهديداته نصف العلنية باستخدام
الإرهاب عند اللزوم، أن الحبل السري لم ينقطع قطّ بين
النتاجين الأسودين للحقبة السعودية. ومع نهاية تلك الحقبة،
تكون ترويكا النظام العربي قد أصبحت من الماضي البعيد،
بينما تهل ضرورة إنشاء ترويكا المقاومات العربية. ولدى
سوريا الآن فرصة ذهبية لإنشاء حلف المقاومات، جدارها الأخير
ولكن الأقوى.
الحقبة السعوديّة الثانية: ألِف...
أميركا. باء... بوش
في مقالة للدكتور أسعد أبو خليل، المحاضر في جامعة
كاليفورنيا الأميركية في الثاني عشر من أبريل الماضي نشرتها
صحيفة (الأخبار) اللبنانية جاء: لم يحن أوان رثاء الحقبة
السعوديّة بعد. مارك تواين قال مرّة تعليقاً على إشاعة
وفاته إنّ نعيه كان سابقاً لأوانه (وتذكر الأدبيات الصهيونية
مارك تواين بكثير من التعاطف، فقط لأنه في زيارته لفلسطين
ــ قبل أن تُحتلّ ــ قال إنّه لم يرَ بشراً. لكنّه، في
الحقيقة، قال إنه لم يرَ بشراً: رأى عرباً فقط، هو أضاف).
ليتوقّف من ظنّ أنّ قمّة دمشق الباهتة كانت كافية لتعليم
حقبة جديدة في العلاقات العربية. على العكس. تتمتّع الحقبة
السعودية الثانية ـ هل نُنكَب بثالثة؟ ـ التي تبلورت بعد
11 أيلول 2001 وتجلّت بعد اجتياح العراق، بمكتسبات وعناصر
قوّة لم تعرفها في المرحلة السابقة. فالصعود السعودي إزداد
شراسة وعناداً بعد اجتياح العراق، إذ إنّ الحكم السعودي
وجد نفسه من دون منافسين حقيقيّين.
الملك عبدالله: أجهل وأعجز من أن يعيد الحقبة
السعودية!
|
الحقبة السعودية الأولى التي تلت وفاة جمال عبد الناصر
(إن لم نقل بعد هزيمة 1967 المروّعة ـ الجريمة التي لا
تُغتفر للنظام السوري والمصري والأردني) وتطوّرت إثر الطفرة
النفطية السبعينية، لم تكن الساحة خالية فيها كلياً للدور
السعودي. كان هناك النظامان السوري والعراقي، بالإضافة
إلى حركة المقاومة الفلسطينية (في ما قبل عصر محمد دحلان)
بالإضافة إلى النظام الليبي. لم تنعم العائلة السعودية
الحاكمة بما تنعم به اليوم من خلوّ الميدان لها ولمخطّطات
واشنطن التي تسهّل هي اليوم مهمّة إمرارها في العالم العربي.
كما أنّ سنوات التبذير التي شهدتها المملكة في عهد
الملك فهد، قلّلت القدرة أو الحاجة إلى الهبات والرشى
السعودية التي لا تطال في ما تطال الأقلام والمطبوعات
فقط، بل دولاً وزعماء بحالهم. والوفرة النفطية الحالية
تُعين الحكم السعودي في دعمه لمشاريع أميركا وإسرائيل
في المنطقة، وفي شراء من يجب شراؤه، ولا منافس.
خلوّ الساحة للحلف الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي
مات عبد الناصر وأُعدم صدام ـ الذي يُظهر الإعلام السعودي
عطفاً مفاجئاً نحوه، وذلك لضرورات حملة التأجيج المذهبي
التي تقودها المملكة لتسهيل حروب أميركا، والمقاومة الفلسطينية
انتهت في أيدٍ دحلانية، والعظيم جورج حبش يوصف بالإرهابي
في الصحافة العربية (الوهابية). كلّ هذه التطورات أنعشت
آل سعود، وأنعشت الحلف الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي.
لكن أميركا تقف حائرة، لأنّ خطة التأجيج المذهبي تنطبق
على العالم العربي، لكنها تعقّد الوضع في العراق، لأن
الولايات المتحدة والسعودية تدعمان فرقاء مختلفين (مذهبيّاً)
هناك. السعودية لا تعمل اليوم على تدعيم معسكرها في المنطقة،
بل على إتمام السيطرة التامة في المنطقة، بالتعاون مع
إسرائيل وأميركا. لا مكان لخلاف أو لاعتراض.
والحقبة السعودية الثانية يشوبها تنافس (حادّ أحياناً)
بين الدول العربية، مثل الخلاف الأردني ـ القطري أو السعودي
ـ القطري أو حتى الخلاف السعودي ـ الكويتي الصامت والخافت.
والنظام السوري يقف حجر عثرة، لكنه ليّن، إذ إنّ سوريا،
وإن لم تنخرط بعد في إطار المعسكر الأميركي، لا تجرؤ أو
لا تريد أن تجرؤ على التصدي للمشروع السعودي. هي لا تعترف
بالخلاف السعودي ـ السوري بالرغم من الحملة الشعواء على
كل ما هو سوري في الإعلام السعودي، وليبراليو العالم العربي
يتعاملون مع الحكم الشخبوطي كمثال جون ستيوارت ميل المُحتذى.
وهذا الإعلام يقود حملة يومية على سوريا ونظامها، وحتى
على ثقافتها وفنّها(...) أمّا الإعلام السوري الذي ـ مثله
مثل الإعلام السعودي ـ ينتقد بأمر ويهادن بأمر ويمدح بأمر،
فيتمنّع حتى الساعة عن نقد الحكم السعودي. وهناك في النظام
السوري من يستغبي الجمهور العربي عبر نفي وجود خلافات
بين سوريا والسعودية..
النظام السعودي يوظّف الهجوم والحروب الأميركية لمصلحته.
لا يود أن تبقى معارضة واحدة ضدّه. والخلافات العربية
ـ العربية تغيّرت عن الزمن السابق. كان العرب يختلفون
وينقسمون حول معارضة أو مماشاة الحلف الغربي في المنطقة،
أمّا اليوم، فهم يختلفون على درجة الطاعة، أو على درجة
الإنحناء أمام بوش، أو على طريقة الرقص بالسيف أمامه.
يختلفون ويتنافسون في ما بينهم على دور القيادة في الانصياع.
تجد أنّ قطر والأردن لا يختلفان، مثلاً، على السياسة،
بل على المنافسة في خدمة الحليف الأميركي. وهم يختلفون
على الريادة في التطبيع، وهذا ما يفسّر بعض التوتّرات
في العلاقات العربية ـ العربية. والحكم السعودي يؤمن باحتكار
الانصياع المطلق للمشيئة الأميركية. السعودية اليوم لا
تعاني من خصوم يختلفون معها على توجهاتها في السياسية
الخارجية، بل من حلفاء يودّون لو يسمح لهم الملك السعودي
بتملّق وانصياع أكبر..
والكلام على الحقبة السعودية الثانية مرتبط بما تلى
اندثار الحرب الباردة من عوارض في العلاقات الدولية. تخلّصت
مملكة الرجم السعودية من أعداء كثيرين: الشيوعيّة، وعبد
الناصر، والبعث، وكل الحركات العلمانية. وتزامن الصعود
الثاني للحكم السعودي مع تغيرات هامة تضمنت الوصول الأميركي
الأهوج إلى منطقة الشرق الأوسط والحرص، لا بل الهوس، السعودي
على إرضاء الولايات المتحدة بعد 11 أيلول لما أحدثته من
تصدّعات في العلاقات الأميركية ـ السعودية.
ولترميم العلاقات أحكامها الصهيونية. عندها، زال الخلاف
بين جناح الملك عبد الله (الذي يعاني في علاقاته داخل
العائلة المالكة من عدم وجود أشقاء له) وجناح السديريّين
السبعة الذين عقدوا أمرهم على التحالف الوثيق مع الولايات
المتحدة منذ السبعينيات، إن لم يكن من قبل. زال الخلاف
بين الجناحين في أمور السياسة الخارجية ولم يعد يتحدّث
أحد عن قومية الملك عبد الله. هذا لا يعني أن الخلاف بين
الجناحين لن ينعكس في أمور الحكم، لكن من المرجح أنّ الخلاف
سينحصر في أمور داخلية. وأعدّ الملك عبد الله مبادرته
(استقاها من اقتراحات لتوماس فريدمان في جلسة معه) وذلك
لتوثيق العلاقة مع أميركا.
لكن الصعود الثاني للحقبة السعودية أتى مختلفاً تماماً.
لم تعد العائلة السعودية الحاكمة تتصرف بنفس القلق والتردد
وعدم الثقة الذي وسم الحقبة الأولى ـ هنا، في هذا المجال
تحديداً، تستطيع أن تذكر جمال عبد الناصر بالخير لما كان
يفعله بأنظمة الشخبوطية قبل هزيمة 67.
وكان الملك فهد يزعم أنّه يدعم الإجماع العربي ضدّ
مبادرة أنور السادات الذليلة، في الوقت الذي نعلم فيه
اليوم أنّه كان يرسل له رسائل دعم سريّة. ولم تعد السعودية
تشعر بأنها بحاجة إلى إغداق الأموال على أنظمة تختلف معها
عقائدياً.
وشروط النظام العربي الجديد تتوضح باستمرار. هي لا
تقبل معارضة أو حتى مشاركة في دفة القيادة، وهذا يفسر
سبب إصرار السعودية على السيطرة الاحتكارية التامة والكاملة
على كلّ وسائل الإعلام والتعبير في العالم العربي، ويساعدها
في ذلك أقلام الليبراليين والليبراليات العرب. هذا يفسر
الانزعاج المصري المتكرر من الإهمال السعودي للدور المصري
الذي أصبح هامشياً. أمّا النظام الأردني فهو عريق في الهامشية
وفي القبول بصغر الدور ما دام قد توافق دوره مع المصلحة
الإسرائيلية التي أدت دوراً أساسياً في إبقاء هذا النظام
على قيد الحياة.
وتحت عنوان (مستقبل الحقبة السعوديّة الثانية) كتب
أبو خليل: الصعود السعودي الثاني لن يموت بانتهاء ولاية
بوش. قد يصاب بالدوار والاهتزاز. لكن توقّع أن تهتم الإدارة
الأميركية الجديدة بخروق حقوق الإنسان الدورية في المملكة
لا يستند إلى قراءة دقيقة للتاريخ المعاصر للسياسة الأميركية
الخارجية نحو الشرق الأوسط (شهدت المملكة السعودية في
هذه السنة وحدها أكثر من 33 عملية قطع رأس في الساحات
العامة، ويبدو أنّ المملكة ستتخطى رقم 137 عملية قطع الرأس
في السنة الماضية، حتى لا نتحدث عن عمليات الرجم والجلد
التي لا ترد حتى عرضاً في الصحافة العربية..).
وتظهر في الإعلام العربي السعودي بوادر تبرّم من أية
أصوات نقدية لا تتماشى مع مصلحة المملكة...لكن المرحلة
الجديدة تتطلب إسكات كل الاصوات المعارضة. تطمح العائلة
المالكة إلى أن تنقل إلى العالم العربي ما تمارسه من خنق
الأصوات وقمعها داخل المملكة.
ستفتقد الحقبة السعودية حكم بوش. كان التدخّل الأميركي
المباشر عبر الجيوش الجرّارة من أعمدة الصعود السعودي
الثاني. لهذا، فإنّ الحكم السعودي يبدو ملحاحاً في تطبيق
إرادته في إعادة تكوين النظام العربي قبل نهاية حقبة بوش،
وقبل انسحاب الجيوش الأميركية من العراق.
تبدو المهمة عاجلة وملحاحة. والحقبة السعودية الثانية
متحالفة جهاراً مع الدولة اليهودية، ويتعاون الاثنان في
لبنان وفلسطين، وضدّ النظام السوري الذي لا يزال يحاول
أن ينفي الخلاف السعودي ـ السوري. يحاول النظام السوري
الإيحاء بأنّ غيمة عابرة تشوب العلاقات بين الطرفين. لا
يبدو أنّ السعودية ستكفّ عن محاولاتها لتطويع كل المنطقة
العربية، بنظامها الإقليمي، وثقافتها، تحت إرادة العائلة
الحاكمة. ومهرجان الجنادرية الذكوري بات يحظى بتغطية ...
والقمة العربية في دمشق قرّرت إيلاء إحياء اللغة العربية
أهمية كبرى، وهي أوكلت لكارلوس إدة مهمة تلقين أصول اللغة
العربية لملك السعودية ولسعد الحريري. فليبدأ الدرس: ألف.
أميركا. باء. بوش...
|