(شكراً قطر) يغضب السعوديين
صانعة الحروب تثأر لنفسها في حكومة السنيورة
عـمر المـالـكي
من يرقب ملامح وجه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود
الفيصل وهو يستمع تحت قبة البرلمان اللبناني الى كلمات
الشكر والثناء التي كانت تنهال على أمير قطر ورئيس وزرائها
تلفته تلك الغصة المكتومه التي حاول الفيصل كبتها ولكنها
تسرّبت الى ابتسامته الغائضة، فقد وجد نفسه في أجواء ليست
مريحة خصوصاً وهو يستمع إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري
الذي تعمّد في إظهار فرحته الغامرة بنجاح الدور القطري
وإطرائه المتكرر على الشيخ حمد، الذي حباه بحفاوة خاصة،
بعد أن ختم حوار الدوحة بعبارة إطراء متميّزة (إذا كان
أول الغيث قطرة، فكيف إذا كان قطر).
لم يرق للمكاينة الإعلامية السعودية هذا المنجز القطري
الذي قدّم إليها على طبق من ذهب، فراحت تبشّر بالفشل بعد
ساعات من إعلان (إتفاق الدوحة)، وصارت تتسقط كل خبر يسيء
للإتفاق أو يهدده من بعيد أو قريب، بل وتعمّد تعظيم الصغائر،
وتصغير العظيم من الحوادث، والحفاظ على وتيرة خطاب إعلامي
تحريضي، كما هو حال قناة (العربية) التي فقدت المهنية
والحرفية وتحوّلت الى قناة تنضح بالإنحيازية والإنفعالية.
فما إن حقق إتفاق الدوحة خطوته الأولى بانتخاب ميشال
سليمان رئيساً للجمهورية في لبنان، حتى بدأت التحرّكات
السعودية مع فريق 14 آذار لجهة (تعقيد) تشكيل حكومة الوحدة
الوطنية بما تتضمن ثلثاً للمعارضة، بما يحقق ما بشّر به
الجانب السعودي بأنه سيدفع نصف ثروته للحيلولة دون حصول
المعارضة (وخصوصاً حزب الله) على الثلث الضامن.
لعبة (التوزير) كانت إبتكاراً سعودياً بالتنسيق مع
أقطاب الموالاة، سيما بعد أن بدأ الخلاف حول الحقائب الوزارية
يتنامى بين فرق الموالاة، وبروز مؤشرات على تصدّع التحالف
الموالاتي، على قاعدة إختيار رئيس الحكومة أولاً والتردد
كان بين ثلاث شخصيات: فؤاد السنيورة، سعد الحريري، محمد
الصفدي، حيث مارست الرياض ضغوطات على الأخير من أجل سحب
إسمه من بورصة الأسماء المرشّحة لرئاسة الحكومة، ليمهّد
السبيل الى عودة السنيورة الى رئاسة الحكومة ليضمن أمرين
أساسيين: أولاً، أن يحمل بقاء السنيورة في رئاسة الحكومة
رسالة واضحة للمعارضة بأن هذا الموقع غير قابل للمساومة،
وأن التنازل عنه بمثابة هزيمة أخرى أمام المعارضة، وثانياً،
أن دخول سعد الحريري الى رئاسة الحكومة في هذه المرحلة
قد يؤدي الى (إحراقه) سياسياً، ولذلك فإن المطلوب حالياً
هو الإحتفاظ به كورقة تسوية سياسية شاملة مع الأقطاب الكبرى
في المعارضة. وهذا ما تم فعلياً، فقد صدر قرار الرياض
بالتنسيق مع واشنطن في 27 مايو بإعادة ترشيح فؤاد السنيورة
لتأليف حكومة الوحدة الوطنية، ليحسم الجدل الدائر داخل
(تيار المستقبل) أولاً والموالاة ثانياً بشأن تولي سعد
الحريري هذه المهمة. هذا القرار تطلب عودة السفير السعودي
في بيروت عبد العزيز خوجة الى بلاده حيث زار جدة (العاصمة
الصيفية للحكومة السعودية)، وأجرى مشاورات مع الأمير سعود
الفيصل ورئيس الاستخبارات العامة الأمير مقرن بن عبد العزيز
إلى جانب بطبيعة الحال الأمير بندر بن سلطان (الذي اختفى
هذه الفترة نتيجة خلافات داخل العائلة المالكة وغضب الملك
عبد الله على تجاوزاته)، فيما كانت القائمة بالإعمال الأميركية
ميشال سيسون تطوف على أقطاب الموالاة لإقناعهم بفكرة بقاء
السنيورة في رئاسة الحكومة.
كل ذلك كان في ظل وصول أخبار عن تحرّك سوري ـ قطري
مدعوم من قبل المعارضة بترشيح محمد الصفدي الذي يعتبر
شخصية توافقية من وجهة نظر الأخيرة، وقد وصلته رسائل عدة
بأنه مرشح مقبول لرئاسة الحكومة، وأبدى استعداده لخوص
المنافسة في حال قرر الحريري عدم ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة.
بعد عودة السنيورة الى بيروت وإعلانه بحضور أقطاب الموالاة،
بأن السعودية لا تمانع في ترشيح أي من السنيورة أو الحريري،
ثم وضع الجميع أمام حيثيات بقاء الأول في رئاسة الحكومة،
وفهم الصفدي ذلك بأن إسمه غير مطروح في معادلة المفاضلة
السعودية. وبعد أن تم الإعلان عن السنيورة كمرشح لهذا
المنصب، تفجّرت بعض جوانب الخلاف بين التكتل الطرابلسي
الذي يقوده الصفدي وبعض أقطاب (المستقبل)، ما يخفي بداخله
حقيقة الخلاف على رئاسة الحكومة، حين وجّه النائب مصباح
الأحدب إتهامات غير مباشرة للصفدي بأنه يسعى للتغريد خارج
السرب، في إشارة إلى تطلّعه السياسي سواء على مستوى رئاسة
الحكومة أو الحقائب الوزارية.
وفيما اختفى العنصر القطري من معادلة تشكيل الحكومة
الوطنية، بات العنصر السعودي هو الأبرز في هذا الشأن،
فيما يشبه استدراكاً متأخراً وتعويضاً لما خسره من (سلة
الدوحة) التي حصدت ثمار جهود كان يمكن للرياض أن تحصل
عليها فيما لو قررت أن تجسّد زعمها غير الواقعي بكونها
(تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف في لبنان)، تولّت
المعارضة مهمة تأكيد الحضور القطري في المعادلة، وكانت
تميل الى ترشيح شخصية سنية محايدة وإن لم يكن ذلك الطرح
جدّياً حيث بدا السعوديون وكأنهم يخوضون معركة (كرامة)
في لبنان، للرد على الطريقة الاستفزازية التي عبّرت فيها
قيادات المعارضة عن امتنانها للدور القطري، وتثمينها الكبير
لنجاح قيادة قطر في إنجاز الإتفاق. مصادر قطرية مقرّبة
من رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم ذكرت بأن السعوديين
ساءهم إعلان الأخير عن نيته زيارة بيروت لتسهيل مهمة تشكيل
حكومة الوحدة الوطنية فمارسوا ضغوطات كبيرة عليه من أجل
ثنيه عن القيام بزيارة في هذا الوقت قبل أن تنضج خطة السعودية
وحلفائها في لبنان من أجل إرغام المعارضة على القبول بتسوية
يكون فيها للموالاة قدم السبق والقول الفصل. وقد اختار
الجانب القطري الابتعاد قليلاً عن الأضواء بعد أن تكفّلت
المعارضة حملة الإشادة بالمنجز القطري، وكيما لا تغضب
الجانب السعودي الذي لا ترغب المواجهة معه بعد أن دخلت
في مصالحة معه.
وبالرغم من رغبة الحريري في تولي رئاسة الحكومة، إلا
أن أقطاب في فريق الموالاة مثل وليد جنبلاط وأمين الجميل
وسمير جعجع كانوا يميلون بقوة الى بقاء السنيورة بدعم
من السفير السعودي عبد العزيز خوجه، الذي أبلغ الحريري
بأن له دوراً قادماً، وأن المملكة متمسّكة به كمرشح قادم.
بدأ السنيورة مشاوراته غير الملزمة لتشكيل حكومة الوحدة
الوطنية، وبدأت الخلافات تطفو على سطح الموالاة أولاً
ثم استوعبت الفريقين على قاعدة توزيع الحقائب السيادية
والمقايضات، وتصعّدت نبرة التجاذبات داخل الفريق المسيحي
بعد حسم حصة تكتل التغيير والإصلاح بقيادة ميشال عون بخمس
حقائب وزارية، الأمر الذي دفع بالفريقين المسيحيين في
معسكر الموالاة (الكتائب والقوات) للمطالبة بوزارات فسّرتها
المعارضة بأنها تندرج في باب المناكفة قبل أي شيء آخر.
لعبة التوزير تواصلت فيما بدت المعارضة مرتاحة لتوزيع
حقائبها على حلفائها، الأمر الذي كاد أن يضع الموالاة
في خانة (المعطّل) وبالتأكيد سيكون لذلك انعكاسات مباشرة
على دور سعودي مدفوع بالإحساس بالخسارة من عملية التسوية.
لا شك أن السعودية خرجت من إتفاق الدوحة بصورة مختلفة
غير تلك التي كانت عليها قبل إنتقال الفرقاء اللبنانيين
الى الدوحة، وبدت منذاك طرفاً سياسياً يتحدد وزنه السياسي
من خلال قدرته على تدعيم موقف حليفه في الموالاة، وكان
ذلك نهاية حاسمة لمقولة الحياد والرعاية والمسافة الوازنة.
بكلمات أخرى، إن أول ما حمله (حوار الدوحة) من دلالات،
أن النظرة الى السعودية ليست متطابقة مع مزاعمها، فقد
رفضت المعارضة اللبنانية أن تضطلع الرياض بدور الدوحة
في إدارة حوار حول الأزمة اللبنانية، لسبب بسيط أنها ليست
طرفاً محايداً، وهذه أول خسارة علنية لدورها، وأعقبت ذلك
خسائر سياسية متلاحقة كما أفصحت عنها محتويات (إتفاق الدوحة)،
وهذا يفسّر تمسّكها بالسنيورة كرمز لمرحلة كانت فيها السعودية
تمارس الدور الأساسي في إدارة دفة السلطة في لبنان.
ومنذ دخلت المشاورات غير الملزمة بخصوص تشكيل الحكومة
حيز التنفيذ، بدأت تباشير التعطيل تنطلق من تصريحات أقطاب
الموالاة، حيث تم استغلال بعض الحوادث الأمنية الصغيرة
لإثارة موضوعات كبيرة غير مدرجة في اتفاق الدوحة، أو ليست
مصنّفة في مرتبة متقدمة فيه، من قبيل الوضع الأمني قبل
البحث في تشكيل الحكومة، وكان ذلك أول مؤشر على نية تعديل
الإتفاق قبل أن ينتقل الأمر الى مرحلة مواجهات متنقّلة
في بيروت والبقاع، والتي نظرت إليها المعارضة بأنها محاولة
للهروب من تنفيذ البند الثاني من إتفاق الدوحة، أي تشكيل
الحكومة.
كل ذلك يجري والإعلام السعودي وإعلام تيار المستقبل
محافظ على نبرته التصعيدية والتحريضية بنكهة مذهبية فاقعة،
وكأن لا شيء قد تغيّر، أو أن لا مرحلة جديدة قد بدأت بعد
(اتفاق الدوحة)، وقد ساهم الخطاب الإعلامي السائد في ضخ
كمية هائلة من التحريض غذّت التوتّرات الفردية أولاً قبل
ان تأخذ شكل مواجهات جماعية، وكان بيان الجيش اللبناني
في التاسع من يونيو واضحاً حول دور وسائل إعلام لبنانية
في عملية التحريض والتوتير الأمني، ووعد البيان بأنه لن
يتهاون في هذا الأمر. من المثير للسخرية والأسى أن تتصاعد
اللهجة المذهبية في الإعلام السعودي خلال وبعد أيام من
إنعقاد (مؤتمر مكة) للحوار الإسلامي. فإضافة الى بيان
22 رجل دين سلفي متطرف يطفح بالعبارات الطائفية ويكفر
الشيعة، خصصت جرائد سعودية مساحة لأقلام طائفية لتشيع
جواً طائفياً تحريضياً ليس في لبنان فحسب بل وحتى في الداخل
السعودي. نشرت صحيفة (الوطن) السعودية في 10 يونيو مقالاً
للكاتب السلفي خالد آل هميل بعنوان (فخامة الرئيس حسن
نصر الله!) جاء فيه (إنني أنبه إلى خطورة ترك إخواننا
السنة في لبنان يواجهون مصيرهم وحدهم، حيث يسعى حزب الله
وحركة أمل حالياً إلى قلب التحالفات المتمثلة في 14 مارس
لسحب بعض أطرافها بقوة الترهيب والترغيب للتحالف معهما
ضد تيار المستقبل الممثل للطائفة السنية بهدف الاستفراد
بها وتهميشها، فهل الأنظمة العربية واعية لذلك؟). ويختم
مقاله بتوجيه رسالة الى الحكومات العربية بقوله (لا بد
من التأكيد على إدراك خطورة ذلك بالعمل الجاد على لجم
هذا الخطر الذي لا يهدد لبنان فحسب، إنما يهدد معظم الدول
العربية ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية على وجه
التحديد، فالمسألة لا تقبل الانتظار أو الاسترخاء أو حسن
النوايا أو القراءات السياسية الخاطئة). اللافت أن هذه
المقالة تأتي في سياق رسالة صوتية منسوبة لقائد (فتح الإسلام)
شاكر العبسي الذي قيل بأنه\هرب من المعركة تاركاً عناصره
يواجهون الموت بمفردهم ليبدأ دوراً جديداً في التحريض
المذهبي، الأمر الذي يعيد إحياء التهديدات السعودية السابقة
بإقحام القاعدة أو التنظيمات السلفية في الساحة اللبنانية
من أجل الثأر لما خسرته في الدوحة.
مصادر مقرّبة من رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان
اعتبر ما يجري بأنه موجّه ضده، وأن هناك من أراد استغلال
وجوده في قصر بعبدا كمطلب وحيد سابق للسعودية وحليفها
في لبنان، ليجعله غطاءً لشرعنة المواجهة ضد قسم كبير من
اللبنانيين، وإملاء شروط خارجية على لبنان، والأخطر أن
يفتتح عهده بمواجهات أمنية وإفشال للتوافق الذي أراد أن
يكون سمة عهد جديد يكون هو أحد رموزه.
الجانب القطري أدرك في مرحلة مبكّرة بأن السعودية لن
تقبل باتفاق تخرج منه خاسرة حتى ولو تطلب الأمر إشعال
حرب أهلية في لبنان، طالما أن ذلك سيحرم المعارضة من مجرد
الشعور بالإنتصار. المعارضة هي الأخرى باتت على علم بما
تضمره السعودية وحليفها في لبنان من نوايا لإجهاض إتفاق
الدوحة إذا كان ذلك سيضعف موقعها في الساحة اللبنانية.
مشكلة السعودية في لبنان أنها باتت (مصنّعة) للخصوم،
فهي لم تعد تكتفي بسوريا والمعارضة اللبنانية وتحديداً
حزب الله كعقبة أمام هيمنتها في لبنان، بل دخلت أطراف
أخرى جديدة مثل قطر والجيش اللبناني. فالجانب القطري يعتبر
التحرّكات المضادة لإتفاق الدوحة رسالة سعودية موجّهة
له، حتى وإن حاولت الإيحاء بغير ذلك.
وهناك من يخشى الآن بصورة جديّة بأن الرياض قد تجهّز
لمعركة مفتوحة داخل لبنان يكون السلاح فيه أداة الحوار
في المرحلة المقبلة، وهو ما تستعد بعض قوى المعارضة إلى
مواجهته في حال تمسّكت السعودية بقرارها ذاك، في عودة
غير حميدة لما تكبّدت نتائجه في مرات سابقة، فهل جبلت
السعودية على اقتراف الأخطاء القاتلة!
|