أغلب اغتيالات بيروت كانت من تدبير الأردن ثم السعودية
السعودية تنتظر حساباً عسيراً
هيثم الخياط
منذ المبادرة الفرنسية السورية لتسوية الأزمة اللبنانية،
والسعودية تضع كل إمكانياتها الدبلوماسية والمالية والأمنية
لضرب طوق حول دمشق للحيولة دون عودة نشاطها السياسي الإقليمي.
بالنسبة لدمشق، أسقطت الرياض كل المحرمات في الخلاف السعودي
السوري، وليس هناك ما يحول دون ضبطه عند حدود التدابير
الدبلوماسية (تجميد العلاقات، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي،
ووقف الزيارات المتبادلة)، أو حتى مواصلة الحملات الإعلامية
المتبادلة.
منذ إغتيال القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية في
12 فبراير الماضي، كانت دمشق على موعد مع ملف بالغ الخطورة
والتعقيد، حيث فتح الحدث الباب واسعاً على سلسلة ممتدّة
من المفاجئات الأمنية الداخلية والتي تلتقي عند حقيقة
التخطيط لقلب نظام الحكم في سوريا يشارك فيه عدد من الشخصيات
السياسية السورية المعارضة (رفعت الأسد، وعبد الحليم خدام)
وحلفاؤهما في الداخل السوري، بتمويل من السعودية ورئيس
تيار المستقبل سعد الحريري، وبتنسيق أمني مع جهازي المخابرات
الأردنية والإسرائيلية. كان مقرراً أن تعدّ غرفة عمليات
لإعداد مجموعات تقوم بتنفيذ هجمات متزامنة بسيارات مفخّخة
أعدّت في الأردن ولبنان ضد مواقع حيوية داخل دمشق (مبنى
الإذاعة والتلفزيون، وقصر الرئيس، ومركز المخابرات)، واقتحام
مواقع عسكرية تهيء لتمردات جماعية وإحداث فوضى تفضي الى
تصديع النظام الأمني والعسكري بما يسمح بتدخل خارجي.
وبقدر ما شكّل اغتيال مغنية عملية نوعية بالنسبة للجهات
المنفّذة (حيث لا تزال المصادر السورية تلمح بصورة جازمة
الى ضلوع أجهزة استخبارات عربية وخصوصاً سعودية وأردنية
وإماراتية)، فإن العملية ذاتها صعّدت من مستوى التنسيق
الأمني بين سوريا وإيران وحزب الله وحركة حماس، على قاعدة
أن دول الإعتدال (مصر والأردن والسعودية وبقية دول مجلس
التعاون الخليجي إضافة إلى إسرائيل)، باتت تنفّذ مخططاً
مشتركاً في مواجهة دول الممانعة.
ما توصل إليه السوريون من معطيات حول ضلوع السعودية
والأردن بصورة خاصة في المخطط الأمني واسع النطاق داخل
سوريا بهدف إسقاط نظام بشار الأسد، كان كافياً لأن يضيف
عنصر توتير جديد في العلاقات السعودية السورية.
وفيما نجحت دمشق في إحتواء وإحباط تداعيات التحرّكات
التي جرى تمويلها من السعودية بالتنسيق مع عبد الحليم
خدّام ورفعت الأسد، وقامت بتوجيه ضربة قاصمة لحلفائهم
في الداخل أو الذين جرى تجنيدهم لهذه العمليات، حيث لقي
ما يقرب من ألفي عنصر مصرعهم على يد القوات الخاصة التي
يقودها ماهر الأسد، وتم الكشف عن خلايا مرتبطة تمويلياً
واستخبارياً بالسعودية والأردن، وكذلك إيقاف عدد من السيارات
المفخّخة من نوع مرسيدس سوداء اللون، واعتقال عدد كبير
من العناصر المشتبّه في تورّطها في مخطط الإنقلاب، قررت
بعد ذلك دمشق أن تخوض معركة مفتوحة.
وجاءت اللحظة المناسبة كيما ترّد على السعودية والأردن،
حيث كان السابع من أيار/مايو الماضي ساعة الصفر لزوال
الأمبراطورية الأمنية التي شيّدتها السعودية والأردن في
بيروت الغربية والجبل، وقامت قوى المعارضة اللبنانية بعمل
أمنية وعسكرية شديدة الإتقان، والتي تكبّدت فيها السعودية
خسارة فادحة عبّر عنها مسؤول إسرائيلي استخباري كبير بأن
النشاط الأمني الذي دام لمدة سنتين وكلّف 12 مليار دولار
تبدّد في يومين. فقد عثر الجهاز الأمني التابع لحزب الله
على وثائق بالغة الخطورة تدين أجهزة استخبارية عربية أردنية
وسعودية ومصرية. وبحسب مصادر لبنانية مقرّبة من الحزب
فإن ثمة معطيات قوية تفيد بتورّط الإستخبارات الأردنية
في أغلب، إن لم يكن جميع، الاغتيالات التي وقعت في لبنان
على مدار الثلاث سنوات الماضية.
رفعت الأسد وخدام: أدوات انقلابية سعودية
|
خسرت السعودية دولتها الأمنية في بيروت الغربية، والتي
اضطلع سعد الحريري بالتعبير عن تلك الخسارة بطريقة إنتحابية،
فيما تولّى الإعلام السعودي محلياً وخارجياً بتصعيد حملته
ضد حزب الله، حين وصف العملية بأنها (اجتياح بيروت)، ليغطي
على ما فقده من حضور أمني كثيف.
وجاءت الخسارة الثانية بانعقاد مؤتمر الدوحة الذي جاء
نتيجة التحرّك الأمني الذي قامت به المعارضة اللبنانية،
وقطفت القيادة القطرية ثمرة سياسية جاهزة حين وفّرت المعارضة
اللبنانية والقيادتان السورية والإيرانية غطاءً سياسياً
للمؤتمر، عزّزه توافق أميركي ـ إيراني في الموضوع العراقي،
فيما بقيت الرياض ترقب من بعيد أنباء المداولات الجارية
في الدوحة والذي انتهى بتحقق مطالب المعارضة اللبنانية
بانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وقيام حكومة وحدة
وطنية يكون فيها للمعارضة الثلث الضامن، وإعلان قانون
إنتخابي جديد.
وبالرغم من التهويل السعودي والموالاتي باحتمال فشل
اتفاق الدوحة، وتنفيذ بعض المشاغبات الأمنية في المناطق
المختلطة بين السنة والشيعة، إلا أن ذلك لم يؤثّر جوهرياً
في مسيرة تنفيذ الإتفاق. شعرت الرياض حينذاك بأن ضربة
معلم قد تعرّضت لها من دمشق مرة أخرى، وأن مجرد (التشويش
والتطبيش) لن يعيد عقارب الساعة للوراء، فبعد أن كانت
السعودية دولة في بيروت الغربية عادت لتجد مكانها ضمن
حجم تيار المستقبل، وأن لغة (التهويش الطائفي) لا تؤدي
سوى غرض وقتي، ولا تؤسس لتغيير معادلة أو صنع أخرى، فقد
احتلت قطر السنيّة مكانة متمثّزة في المناطق الشيعية،
أكبر بكثير مما هي عليه في المناطق السنيّة، بفعل حنكة
القيادة القطرية وقدرتها على اقتناص الفرص، فصارت عبارة
(شكراً قطر) في شوارع الضاحية، وعلى زجاج السيارات، وصولاً
الى قرى الجنوب اللبناني تبطن نكاية بالموقف الكيدي السعودي
الذي لم يجن سوى الوهم بأن المال النفطي قادر على فرض
واقع جديد أو حتى تجنيد مقاتلين يدافعون عن قضية خاسرة.
ولهذا السبب، تسعى السعودية إلى تحريك حلفائها في لبنان
من أجل توسيع مجال نفوذها، عبر اختراق الطائفة الشيعية،
للحد من نفوذ حزب الله. زيارة سعد الحريري، رئيس تيار
المستقبل المتوافق مع يوم تبادل الأسرى في السادس عشر
من يوليو الماضي للعراق، كانت تنفيذاً لقراءة سعودية لبنانية
مشتركة، قدّمها بعض الشخصيات الشيعية المستقلة. فإضافة
الى البعد الإقتصادي لزيارة الحريري للعراق، فإن ثمة من
أوعز له بزيارة المرجعية الشيعية في النجف الممثلة في
السيستاني، من أجل دعم الخط الشيعي المستقل في لبنان،
يمكن له أن يؤسس لعلاقة مستقرة بين السنة والشيعة، فيما
يحد من نفوذ حزب الله داخل العراق، بوصفه خطاً إيرانياً
يتعارض مع مصلحة العراق ومرجعية السيستاني التي تميل للإعتدال
وتشجّع عليه.
ما يلفت الإنتباه، أن تطورات ما بعد اتفاق الدوحة جاءت
دائماً لصالح دمشق، فقد تكسّرت تدريجياً القيود المفروضة
عليها من الغرب، وكانت باريس الذي واجهت ضغوطات سعودية
كثيفة قبل انعقاد القمة العربية في دمشق في مارس الماضي،
والتي جاءت بعد ضغوطات مماثلة بوقف الرياض لصفقة طائرات
رافال الفرنسية ما لم توقف المبادرة الفرنسية ـ السورية
لتسوية الملف اللبناني، تصبح باريس هذه البوابة التي تعبر
منها القيادة السورية الى العالم الغربي.
كانت أنباء مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في (الإتحاد
من أجل المتوسط) والتي تم تداولها في الإعلام على مدار
شهر ونصف تبعث على الحنق لدى الأمراء السعوديين. وكمن
يتجرّع آلام بلع الموسى بعد السابع من مايو، بات الأمراء
غير قادرين على إخفاء معارضتهم لخروج دمشق من الطوق الدولي،
خصوصاً حين يكون هذا الخروج بلا ثمن تدفعه دمشق لخصومها،
ولا الإخراج المناسب الذي يجعل الرياض في موضع آمن وغير
محرج.
اغتيال مغنية: فتّش عن الدور السعودي
|
بالنسبة للقيادة السورية، أن لقاء باريس ليس سوى نتيجة
لمقدّمات ساهمت في تثبيتها وفرضها، وأن مشاركتها في فعاليات
(الإتحاد من أجل المتوسط) ليس منّة فرنسية بقدر ما هي
إقرار ضمني بدور سوري رئيسي نجح في فتح الإنسداد السياسي
في الجدار اللبناني، خصوصاً بعد أن تجاوزت دمشق تحديات
أمنية داخلية ودخلت على خط التسويات الإقليمية والدولية
وبات على الغرب قبل عرب الإعتدال الإذعان لدور سوريا في
ملفات المنطقة التي عجزت السعودية وبقية المعتدلين العرب
عن حسمها على طريقتهم.
لم يرق للأمراء أن يروا خصمهم وقد وضع أقدامه في باريس
جنباً إلى جنب بقية قادة دول المتوسط، الأمر الذي يجعله
منتصراً بعد أن راهنت السعودية ودول أخرى على هزيمته الماحقة.
بدا الرئيس السوري بشار الأسد واثقاً بما يكفي لتصعيد
مستوى الغضب لدى الأمراء، فقد تجاهل حسني مبارك رغم المصافحة
الدبلوماسية المعتادة، ومرّ من أمام جناحه ليستقر في جناح
الرئيس اللبناني المنتخب ميشال سليمان، والذي مثّل لقاءهما
محطّة لافتة في العلاقات السورية اللبنانية ومهّد للقاءات
متبادلة بين مسؤولي البلدين.
مصادر سورية رسمية وإعلامية تحدّثت بعد إنتهاء فعاليات
(الاتحاد من أجل من المتوسط)، عن جهود سعودية مكثّفة بذلت
إلى ما قبل وصول الرئيس بشار الأسد إلى باريس من أجل ثني
الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن استقبال الأسد في قصر
الأليزيه. ونقلت المصادر عن زيارة قام بها وزير الخارجية
الأمير سعود الفيصل الى باريس للتعبير عن وجهة النظر السعودية
حيال التقارب السوري الفرنسي، وأن ذلك من شأنه أن يتسبب
في أضرار سياسية فادحة في المرحلة الراهنة. ونقل المصادر
أيضاً أن معلومات وصلت للقيادة السورية خلال اللقاءات
السورية الفرنسية في الأليزيه وكذلك الإجتماعات الموسّعة
بأن ثمة تحرّكاً سعودياً متصاعداً يقوده الأمير سعود الفيصل
بهدف تخريب زيارة الرئيس الأسد، وتعطيل فرص التقارب السوري
الفرنسي، وقد أفشى الأسد لساركوزي تحفّظه حيال قبول الأخير
بالخضوع تحت تأثير الضغوط السعودية والتي أثّرت على مبادرة
سابقة كادت أن تخرج لبنان من أزمته، لولا (حماقة) وزير
الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير الذي بدا وكأنه أميل إلى
وجهة النظر السعودية.
تجدر الإشارة إلى أن كوشنير غاب عن جميع اللقاءات السورية
الفرنسية في الأليزيه وكذلك الإجتماعات الموسّعة، وكان
قد عبّر عن تحفظه من زيادة وتيرة العلاقات الفرنسية السورية
في هذه المرحلة، ولذلك تم استبعاده من متابعة ملف العلاقات
بين البلدين، وتكليف كلود غيان، الأمين العام للرئاسة
الفرنسية بالمهمة، فيما كلّف ساركوزي أحد الدبلوماسيين
المقرّبين منه بالتفرغ بصورة شبه كاملة للإشراف على الملف
وتسهيل الإتصالات بين القيادتين السورية والفرنسية.
السعودية تتوجس خيفة من أي تقارب سوري فرنسي لأنه يذّكّر
بتفاهمات سابقة بينهما في الملف اللبناني، وهي التي تسعى
للسيطرة على الملف اللبناني من خلال تيار المستقبل في
لبنان. ولذلك، تنظر بريبة لللقاء الرباعي الذي جمع القيادات:
السورية والفرنسية واللبنانية والقطرية، لأن ذلك، مهما
تكن حيثياته ونتائجه، يمثل تجاوزاً لها بوصفها دولة نافذة
في لبنان، وقد يؤدي في مرحلة لاحقة إلى تهميشها وخصوصاً
في مرحلة ترى بأن نفوذها مهدّد بعد السابع من مايو بكل
التطورات اللاحقة التي أعقبت اندحار حضورها الأمني والمالي.
مصادر إعلامية سوريّة مقرّبة من الحكومة ذكرت بأن للسعوديين
عقدة إضافية بعد إتفاق الدوحة، فقد باتوا يخشون من ترتيبات
خفية تضطلع بها قطر وسوريا وفرنسا، بعد أن خلت الساحة
اللبنانية من أدوات ضغط مؤثرة، إذ لم يعد العامل الأمني
قائماً بعد السابع من مايو، وأن المال وحده لا يكفي لتسديد
ضربات موجعة للسوريين وحلفائهم في لبنان. وزاد الطين بلة،
ما حققته المقاومة اللبنانية من مكاسب شعبية بعد عملية
تبادل الأسرى في السابع عشر من يوليو الماضي والتي قفزت
بأسهمها لبنانياً وعربياً وإسلامياً، الأمر الذي يجعل
أي تحرّك ضدها يحمل تفسيرات مشبوهة، وقد يكون التواطؤ
مع إسرائيل تهمة تلصق بها مجدداً.
|