نار الفتنة في (طرابلس)
السعودية تحرق يديها وأنصارها بالنار
محمد فلالي
استخدام الطائفية كسلاح من قبل السعودية ليس دائماً
يأتي في صالحها.
هي تعتقد أنه ذخيرتها الكبرى، وسلاحها الأعظم، وحصنها
الذي تلجأ إليه إذا ما ألمّت بها الأنواء، وإذا ما فقدت
خياراتها.
الدين عموماً ـ وبنسخته الوهابية ـ كان سلاحاً سعودياً
ضد الخصوم.
لا ننس أن عبدالناصر كان (كافراً) حسب الفتاوى السعودية
لأنه يدعو الى القومية العربية. فجيء بالحلف الإسلامي
لمواجهة الرئيس المصري ولحماية السعودية ونفوذها. ولكن
السعودية ـ كما تشاء الأقدار ـ تعود الى استخدام مفردات
الخطاب القومي مرّة أخرى ولكن لتواجه فيه إيران (الفارسية
الصفوية المجوسية، الخ).
والدين استخدم ضد القذافي أيضاً، وضد البعثيين في العراق
(صدام وقبله البكر)، وضد السوفيات، ولم تكن السعودية بحاجة
الى استخدام اللغة (الطائفية) حينها لأن الشاه (الشيعي)
كان حليفاً للغرب، وكان معادياً لعبدالناصر والتوجّه القومي
الذي اكتسح مواقع الإستعمار في جنوب الجزيرة العربية وشرقها
كما في شمال أفريقيا (ثورة الجزائر).
لكن بمجرد أن ظهرت عمامة دينية في طهران، صار الموضوع
طائفياً، وتذكّر صدام حسين والسعودية ومصر السادات كما
مصر مبارك، أن هناك ثلاث جزر احتلها الفرس المجوس! وهي
جزر استولى عليها الشاه ولكن لا أحد طرحها يومئذ طالما
أنه حليف لأميركا والغرب. أما اليوم فيراد من النظام الديني
في طهران، أن يظهر أمام شعبه (مفرطاً) بما يعتقد أنه حقّه،
وأن يتنازل عن الجزر، التي صارت مثل مسمار جحا، لكي يثبت
أنه يختلف عن اسرائيل (لا يحتل اراض عربية). بل أن السعوديين
تجاوزوا المسألة هذه الأيام، وعيّنوا أميراً سعودياً لهم
ينسّق مع الوهابيين لإثارة العرب الإيرانيين ضد نظام الحكم
الفارسي في طهران، ولإدخالهم في المذهب (الوهابي). وهناك
أموال كثيرة تصبّ على هذا الطريق، الذي صارت فيه المفارقة
عرباً مقابل فرس، حتى وإن كان العرب الإيرانيون شيعة!
اللعبة الطائفية التي تعمل عليها السعودية نجحت ـ بلا
شك ـ في فترة الثمانينيات الميلادية أثناء الحرب العراقية
الإيرانية، فقد تعاضدت البعثية العراقية مع الطائفية الوهابية
لتسوير إيران بدرع طائفي/ قومي، يجيز حربها واحتلال أراضيها،
بحجة الدفاع عن البوابة الشرقية، وفعلاً نجح السعوديون
في تشويه صورة النظام في إيران من خلال اللعب على وتري
الطائفية والقومية.
تحولت في تلك الفترة لجان مكافحة التنصير في رابطة
العالم الإسلامي، الى لجان مكافحة التشيّع، فكراً وسياسة،
وشنّت الحملات ضارية على الشيعة في السعودية والخليج وغيرها.
وهذا نجاح باهر بلا شك، ولكن الى حين. لقد انقلب صدّام
على مموليه الخليجيين واحتلّ الكويت، فسلّ سيف الإسلام
السعودي (الصدئ) هذه المرة ليحارب الى جانبهم، جنباً الى
جنب القوات الأميركية والغربية التي أخرجته من الكويت.
لكن هذا تمّ بدون عاطفة ودعم شعبي عربي أو إسلامي، فقد
وقفت معظم الحركات الإسلامية والجماعات المذهبية التي
ناصرتها السعودية ومولتها طيلة عقود الى جانب صدّام وليس
الى جانب السعودية. لم يكن الأمر حباً في صدام، ولكن بغضاً
للإميركيين.
النجاح الذي تحقّق للسعودية في محاصرة إيران في الثمانينيات،
لا يبدو أنه قابل للنجاح هذه المرّة لا في العراق ولا
في لبنان.
والسبب أن السعودية ابتداءً استهلكت سمعتها الدينية
خلال العقدين الماضيين، وأصبح النظام السعودي في عين أكثرية
المسلمين، نظاماً فاسداً وعميلاً، ولا يمثّل حكم الإسلام.
وقد انعكس الموقف على المؤسسة الدينية الوهابية الرسمية،
التي فقدت الكثير من مكانتها لوقوفها مع النظام السعودي
الداعم لأميركا في احتلال أفغانستان والعراق، وصار المشايخ
الوهابيون المعادون للنظام مثل ابن لادن والقاعدة ومن
يتبعهم من المشايخ، أو المشايخ الذين وضعوا حدوداً بينهم
وبين النظام، هم من يمثل (الوهابية) بنظر أكثرية الوهابيين
في خارج المملكة. ولذا لم تعد السعودية قادرة على إشعال
المعارك حسبما تريد وفي أي وقت تريد، أي أن معاركها الطائفية
لم تلق اجماعاً مثلما كان في الماضي.
والسبب الثاني هو أن السعودية اليوم غيرها في أواخر
السبعينيات الميلادية الماضية، فالنظام العربي مفكك، والسعودية
مصنّفة ضمن خانة المعتدلين الموالين لأميركا، وهناك دول
وجماعات عديدة لا تتفق والموقف السياسي السعودي، وهي تنظر
الى معارك السعودية الطائفية بعين سياسية لا تقبل بها
أو لا تشجعها أو لا تمضي فيها، رغم إلحاح السعودية. إن
غياب الإجماع العربي، وغياب الدور السعودي انعكس على قدرة
السعودية على الحشد، فهناك أكثر من نظام عربي لا يأبه
لآل سعود، ولا يدعمهم، بل يعتبرهم خصماً. ولا يمكن والحال
هذه أن تستطيع السعودية بمؤسستها الدينية وإعلامها الرديء
الذي فتح أكثر من معركة مع أكثر من نظام عربي أن تنجح
في حربها الطائفية.
والسبب الثالث، ان مكانة الوهابية في العالم الإسلامي
تقلّصت الى حدود بعيدة. فأكثر الدول صنعت لها مرجعياتها
الدينية المحلية، ولم تعد ترى في الوهابية والسعودية قبلتها،
ولم تعد تقبل حتى بآرائها في مواضيع الهلال والعيد! زد
على ذلك، فإن الوهابية ـ وحسب تجربة السنوات الماضية ـ
انطوت على قدر هائل من العنف صار مخيفاً لأي بلد ومجتمع
عربي أو إسلامي. بحيث صارت الوهابية غير مرحب بها لعنفها،
ولتخلّفها وتخلف رموزها الفكري والثقافي وتحجرهما بشكل
بات مزعجاً للجميع.
والسبب الرابع، هو أن المعركة التي يراها المواطن العادي
في العالمين العربي والإسلامي هي مع أميركا، خاصة بعد
أحداث سبتمبر 2001، وبعد احتلال أفغانستان والعراق، وبعد
حرب اسرائيل على لبنان في تموز 2006، وبعد حصار غزة وحماس.
العدو في المخيال العربي/ الإسلامي هو أميركا والغرب واسرائيل.
وتحويل المعركة طائفياً، ضد إيران وحزب الله والقيادات
الشيعية في العراق، يحتاج الى جهود جبّارة لا تستطيع السعودية
إيفاءها، وتحتاج الى مناخ غير متوتر مع أميركا واسرائيل
والغرب. والحال هو أن لا عدو أمام العرب والمسلمين اليوم
غير هؤلاء، ولا توجد حماسة كبيرة لدى الشارع العربي والإسلامي
للدخول في معارك أهلية على أسس طائفية، أو معارك سياسية
طائفية يعلم الجميع أن مصلحتها تتجه الى أعداء العرب والمسلمين،
ويقوم عليها نظام لا مانع لديه من التنسيق مع اسرائيل
في الحرب، ولا مانع لديه من تحويل وجهة الصراع من اسرائيل
الى إيران.
وإذا أتينا الى نتائج المعركة الطائفية التي أشعلتها
السعودية في العراق، فإننا نجد السعوديين ـ وإن كانوا
أعداءً للقاعدة ـ إلا أنه كان لديهم الكثير من المرونة
لرفدها بالمال والرجال، بل وتصدير عنفيي الوهابية من الداخل
السعودي ليحاربوا الشيعة في العراق، تحت غطاء طائفي واضح،
وليس تحت غطاء مقاومة الإحتلال. وهذا ما أشار إليه رئيس
مجلس القضاء الأعلى في السعودية الشيخ صالح اللحيدان،
وما أشار اليه عدد من القيادات الحركية الوهابية كسفر
الحوالي وعشرات آخرين وقعوا على عرائض تجيز (الجهاد) في
العراق. ولا يحسبن أحدٌ أن الهدف هو مواجهة الإحتلال،
فالسعودية ـ دون غيرها من الدول ـ لم تكن تأبه باحتلال
العراق بل ساعدت عل احتلاله، وإن ما يثير الوهابيين أكثر
من أي أمر آخر هو صعود العامل الشيعي العربي في العراق.
العنف والدم والقتل والتفجيرات وكل مفردات السواد جاءت
من مقاتلين سعوديين (وهابيين) مع ملاحظة أن الوهابية أقليّة
في السعودية نفسها. وأين ما اتجهت رأيت أموالاً سعودية،
ليس غرضها طرد الإحتلال وإنما قلب المعادلة الطائفية في
العراق. والنتيجة أن سالت بحور من الدماء لا تستطيع أن
تستبين المجرم من الضحية، فكلهم مجرمون وضحايا معاً..
والضربة القاصمة كانت على رأس المدنيين الذين فتك بهم
الوهابيون سواء كانوا شيعة ام سنّة.
ماذا حصلت السعودية بتبنيها نهج الحرب الطائفية المفتوحة
الإعلامية والعسكرية والسياسية، والتي لاتزال بقاياها
قائمة حتى الآن؟!
لقد أدّت الحرب الطائفية بين الشيعة والسنّة، الى حربٍ
فتّت السنّة أنفسهم. وإذا كان الجسد الشيعي ـ تاريخياً
وبحكم أكثريته ـ أكثر قدرة على امتصاص الخسائر، فإن السنّة
عانوا اضعاف ما عاناه الشيعة، من تهجير وقتل على يد القاعدة
وعلى يد المتطرفين الشيعة ايضاً، وزيادة على ذلك على يد
قوات الإحتلال الأميركية.
لم تفد الحرب الطائفية السعودية شيئاً. لم تبن السعودية
مكاناً لها في العراق. بل تعتبر السعودية بالنسبة للأكثرية
العراقية شيعية وسنيّة (بما فيها الكردية) العدو الأكبر
لها، ويمكن ملاحظة ذلك حتى في الإعلام العراقي الشعبي
من مختلف توجهاته.
السعودية بعد تلك الحرب لم تصنع لها مركز نفوذ، أو
أصدقاء، لا بين الطبقة السياسية السنيّة، ولا الشيعية
ولا الكردية. كل ما لديها مجرد علاقات عامة وقليلة مع
بعض القيادات التي ينتظر أن تقضي عليها الإنتخابات القادمة.
وهي قيادات استلهمت من السعودية حسّها الطائفية، وسوف
تستقيل بسبب تبعات استخدام العنف والطائفية (عدنان الدليمي
مثالاً) أو حتى حارث الضاري.
وزيادة على هذا، فإن السعودية تراجعت مكانتها حتى في
عين أصدقائها الأميركيين، الذين أدركوا أنها لا تستطيع
ان تفيد العراق في المستقبل، ولم يعد مهماً إن اعترفت
بالوضع القائم وفتحت سفارتها ببغداد أم لا. السعودية اليوم
تغرد خارج السرب، وليت تغريدها خارجه كان بسبب مواجهة
مع الأميركيين، بل كان بسبب لعبها الدور الأكبر في تأجيج
العنف الطائفي في العراق.
هكذا خسرت السعودية إمكانية أن يكون لها نفوذ في العراق
في المدى المنظور.
أما إذا أتينا الى لبنان، فإن استخدام سلاح الطائفية
أكثر صعوبة. ففي لبنان لا تستطيع أن تتهم الشيعة بأنهم
(عملاء للمحتل الأميركي أو الإسرائيلي) فهم رأس الحربة
في مواجهته. خاصة إذا ما جاء الإتهام من إعلام بلد مثل
السعودية المعروفة بعلاقاتها الحميمة مع الأميركي والإسرائيلي
خاصة بعد حرب تموز. السعودية وجدت نفسها خاسرة بعد مراهنتها
على الحرب الإسرائيلية مقابل (مغامرة) حزب الله. كان لا
بدّ أن تتحرّك العصبية الطائفية لتعوّض النقص السياسي
السعودي، ولم يكن هناك سوى تمويل جهات تقوم بحرب حزب الله.
تعرض نصر الله لأكثر من محاولة اغتيال، وجرى تمويل الوهابيين
في نهر البارد بالمال والسلاح والرجال من السعودية كما
هو معلوم. وبدل ان تفتح المعركة ضد حزب الله انفتحت على
الدولة اللبنانية نفسها، فأضرّت تيار المستقبل المتهم
بتمويلها، وأضرّت بمكانة السعودية في لبنان. لم تكف السعودية
عن لعبتها، فحرّكت طرابلس بعد أحداث 7 أيار، وقد كتبنا
في هذه المجلة أن السعودية ستشعلها حرباً طائفية من الشمال،
ولم نكن نخمّن في الهواء، فالعقل السعودي مكبوس في إطار
طائفي، ومن لا سلاح له إلا المال والتطييف، فإنه سيستخدمه،
وهذا ما حصل.
لكن مشكلة طرابلس أنها بعيدة عن حزب الله في بيروت
والجنوب. إذن لتكن الحرب ضد العلويين وعلى يد الوهابيين
الذين تعلموا في السعودية من أمثال الشيخ الشهال. لكن
الحرب وبدل أن تضعف العدو السوري أو الحزب اللهي، أشعلت
فتنة سنية ـ سنية داخل طرابلس نفسها. الأمر الذي أدى الى
زيارة وزير الخارجية المصري وتحذيره من نار الأصولية الوهابية،
ثم تبع ذلك تصريحات في ذات الإتجاه لوليد جنبلاط، وحتى
الإتحاد الأوروبي نصح الحريري والسعودية بأن اعتماد الحرب
الطائفية استناداً الى الوهابيين في طرابلس تعني تهديداً
لموقعه وموقع السعودية.
ولما خرجت الحرب عن إطارها، بادر الحريري بضغط أوروبي
أميركي عليه وعلى حلفائه السعوديين لجمع الرماد قبل أن
يصب عليه الماء. فعقد اتفاق لا يعلم إن كان سينجح أم لا.
إذ من السهل أن تستثير عواطف الوهابيين في حروب كهذه،
لأن الوهابية لا تحتاج الى تهييج طائفي، فهي مهيّجة وجاهزة
للإستعمال. لكن الصعب هو تبريدها، ولا نظن أن الحريري
ولا السعودية قادران على ضبط الإنفلات الوهابي بعد أن
جرى تحشيده ودعمه بالسلاح والمال حتى الأسنان.
ماذا كسبت السعودية من لبنان؟ هل تغير موقعها ومكانتها
الى الأحسن؟ لقد خسرت السعودية أكثر وأكثر من مواقعها
وسمعتها، كما خسر حليفها المستقبل/ الحريري الكثير من
مواقعه حتى بين حلفائه المسيحيين والدروز. الحرب الطائفية
التي أشعلتها السعودية في لبنان خاصة في طرابلس أحرقت
أيدي السعوديين وستحرقهم أكثر كما ستحرق كل من يستخدم
الوهابية في حروب طائفية كأداة في العمل السياسي.
فليس كل مرّة تسلم الجرّة.
|