لقاءات متواصلة بين الرياض وتل أبيب
ترتيبات السرّ تفوق التطبيع العلني
محمد السباعي
منذ سبتمبر 2006، بدأت قصة العلاقة السعودية الإسرائيلية
تكشف عن معالمها الأولية والتي ماكان لغير حرب تموز على
لبنان أن تميط لثاماً كثيفاً عنها رغم ما قدّر لعمق تلك
العلاقة من سرية كبيرة، كما كشفت عنها وثيقة صادرة عن
لجنة أميركية مشتركة مؤلفة من موظفين متخصّصين في وزارة
الخارجية الأميركية والكونغرس في بداية عهد الرئس بيل
كلينتون سنة 1993. الوثيقة تحدّثت عن روابط غير اعتيادية
بين تل أبيب والرياض، ولم يقدّر لغير حرب تموز 2006 أن
ترفع الغطاء جزئياً عن ذلك التنسيق الفريد بين الدولتين
خلال الحرب بحيث تقدّم الرياض غطاءً سياسياً وإعلامياً
وتالياً مالياً لعدوان إسرائيلي على لبنان.
في سبتمبر 2006، بدأ المراقبون للشأن السعودي وللعلاقات
بين الرياض وتل أبيب يتابعون بقدر كبير من الإهتمام ما
يحاول الجانب السعودي إخفاءه، فيما يسعى الإسرائيلي إلى
البوح به ما أمكنه ذلك، إعتقاداً منه بأن العلاقه معه
لا يجب أن تتخذ شكل العار الذي يهرب ويبرأ منه الآخرون.
بعد أسابيع من وقف الأعمال العدائية بين لبنان والدولة
العبرية في 14 أغسطس 2006، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية
وغربية أنباء عن لقاءات سريّة جمعت بين رئيس مجلس الأمن
الوطني الأمير بندر بن سلطان مع مسؤولين إسرائيليين كبار
تم تحديد هوية إثنين منهم وهما رئيس الوزراء الإسرائيلي
إيهود أولمرت ورئيس جهاز الموساد مائير داغان، فيما تمت
تسمية أماكن اللقاء منها: عمان وشرم الشيخ.
نتف الأخبار التي ظهرت لاحقاً ألمحت إلى أن أجواء جديدة
تسود علاقات الدولتين، ولم يكن ظهور مندوبة صحيفة (يديعوت
أحرونوت) الإسرائيلية أورلي أزولاي في العاصمة السعودية
بمرافقة بان كي مون وخلال القمة العربية التي انعقدت في
الرياض في مارس 2007، ثم إنضمامها الى فريق الإعلاميين
المصاحب للرئيس الأميركي جورج بوش في يناير الماضي، وكان
الإستقبال في كليهما حاراً، عبّرت عنه المندوبة الإسرائيلية
في الرابع عشر من يناير الماضي بالقول (وجدت نفسي في الفرع
المؤقت ليديعوت أحرونوت في الرياض). v
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد حصلت المندوبة الإسرائيلية
على بطاقة صحافة سعودية رسمية صادرة من وزارة الإعلام
السعودية، وأن ثلاثة مقدّمين في التلفزيون السعودي طلبوا
مقابلتها في بث حي، إضافة إلى أحاديث وديّة جرت داخل قاعات
مغلقة.
لم تكن هذه الوقائع تجري بهذه الوتيرة السريعة لو لم
تسبقها وقائع أخرى كثيرة وبالغة الأهمية تقضي السماح لمندوبة
إسرائيلية بالقدوم الى الرياض، ولو لم يكن قد جرى شيء
كبير بين المسؤولين في الدولتين العبرية والسعودية.
وما إن أطلّ شهر سبتمبر برأسه حتى جاء بمعطيات جديدة
حول لقاءات بين مسؤولين إسرائيليين وسعوديين في بلد ثالث.
وكما في المرات السابقة، فإن الصحافة الإسرائيلية (تتبرع)
بإذاعة خبر اللقاءات، بإيحاء من المسؤولين الإسرائيليين
الذين يصرّون على لقاءات علنية، كجزء من عملية التطبيع
المطلوبة إسرائيلياً.
اللقاء الأخير، بحسب مصادر سياسية إسرائيلية، لم يتطرق
لطبيعة العلاقات بين الدلوتين، بل تركّز في بحث التطوّرات
في المنطقة. المسؤول الإسرائيلي الذي كان يتحدث لصحيفة
(هآرتس) في سياق تعقيب على مشاركة الحاخام اليهودي الإسرائيلي
دافيد روزين من القدس في مؤتمر حوار الأديان الذي انعقد
في مدريد في يوليو الماضي. وكان الحاخام الإسرائيلي قد
صافح الملك عبد الله وعرّف نفسه بأنه (حاخام من القدس
الشريف). وقال الحاخام لصحيفة (هآرتس) في 23 يوليو الماضي
بأن (السعوديين معنيون بالهدوء في المنطقة إلا أنهم كعادتهم
يتحركون ببطء). وتوقّع الحاخام الإسرائيلي أن (تتضح معاني
المؤتمر أكثر مع تواصل اللقاءات).
وكان الحاخام روزين قد تلقى دعوة مباشرة من السعودية،
وبحسب صحيفة جيروزالين بوست في 3 يوليو الماضي فإن روزين
هو الحاخام الوحيد الذي يسكن في إسرائيل الذي يتم دعوته
من جانب الملك عبد الله ورابطة العالم الإسلامي لحضور
مؤتمر حوار الأديان في مدريد بين 16 ـ 18 يوليو الماضي.
وقال روزين بأن السعوديين (يستعدون للقمة الكبيرة على
مراحل. وفي ما يبدو، فان توجيه الدعوة الى احد الحاخامين
الاسرائيليين الرئيسيين سيكون خطوة كبيرة جدا بالنسبة
الى السعوديين. ولكنني آمل بانهم سيصلون الى تلك الخطوة
في النهاية).
نشير الى أن روزين يشغل مناصب عليا في الدولة العبرية،
منها ترؤّسه اللجنة اليهودية الدولية للمشاورات بين الاديان
هي ائتلاف واسع من منظمات وجهات تمثل يهود العالم في علاقاتهم
مع اديان اخرى. ويرأس روزين ايضا العلاقات بين الاديان
للجنة اليهودية الاميركية ويحتل منصب مستشار للحاخامية
الكبرى في إسرائيل لشؤون الحوار مع الأديان ورئيس المجلس
اليهودي العالمي للعلاقات بين الأديان، وقد تم توجيه الدعوة
السعودية إليه بالإسم وعن سابق معرفة بدوره ومنصبه. وقد
تحدّث الحاخام في لقائه مع الملك بالعربية بوصفه حاخاماً
من (القدس)، مشيراً الى أن وزير الخارجية السعودي سعود
الفيصل قال له إنه كان من المهم أن يحضر المؤتمر بل إنه
أوصى التلفزيون الرسمي السعودي بإجراء مقابلة معه.
وفي وقفة تأمل مع أغراض مؤتمر مدريد لحوار الأديان،
أمكن القول بأنه لو كان هناك مبرر قوي وشديد الإلحاح بشأن
عقد مؤتمر لحوار الأديان تموّله وتشرف عليه السعودية فإنه
الحضور اليهودي، وتهيئة الأجواء لقبول الحوار الممهّد
للتطبيع مع الدولة العبرية. لم يكن هناك من مشكلة واجهت
الحوار الإسلامي المسيحي، فقد انعقدت عشرات بل مئات الحوارات
الضيّقة والموسّعة بين علماء الديانتين، ولكن ثمة من تنبّه
إلى أن التطبيع السياسي والثقافي والإقتصادي بين الدولة
العبرية والدول العربية يبدأ من المسؤولين عن إنتاج المشروعية
الدينية للدول، وهم العلماء الذين بدورهم يضطلعوا بمهمة
توفير الغطاء الديني للتطبيع مع الدولة العبرية عبر عناوين
مورد قبول وشائع مثل الحوار.
عودة الى سياق الموضوع حول اللقاء السعودي الإسرائيلي،
فقد كشفت صحيفة هآرتس في 20 يوليو الماضي عن اقتراح سعودي
إسرائيلي لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين يلغي حق العودة
من أجندة التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني. وقال الصحيفة
بأن لقاءً جرى بين رجل الأعمال اليهودي الأمريكي دانيال
أبرامس المقرب من أولمرت مع الملك السعودي قبل خمس سنوات
عندما كان ولياً للعهد قام فيه بدور الوسيط بين الرياض
وتل أبيب وتوصلوا عبر هذه الوساطة إلى اتفاق يشكل حلاً
يعتمد المال كحل لمشكلة اللاجئين!.
وينص الاقتراح، بحسب الصحيفة، على أن يتخلى الفلسطينيون
نهائياً عن أراضيهم مقابل أن تعطى لهم أراضي بديلة داخل
الأرض المحتلة، وهذا ما بدأ أولمرت بالتلميح إليه في مفاوضاته
مع عباس عارضاً عليه جزءاً كبيراً من صحراء النقب مقابل
التخلي تماماً عن أي حق في أراضي المستوطنات الكبرى وكان
رئيس المكتب السياسي في حركة حماس خالد مشعل قد أكد أن
حق العودة هو ملك للشعب الفلسطيني ولا يحق لأي زعيم التصرف
فيه لأنه ليس ملكا له وليس ملكا لأبيه على حد تعبير مشعل.
اللافت في التطوّرات المتسارعة في العلاقة بين الرياض
وتل أبيب، برز في تساؤل صحيفة (هآرتس) في 20 يوليو الماضي:
هل قررت المملكة العربية السعودية تغيير علاقتها بإسرائيل،
وذلك في ضوء عدد من الإشارات حول تصدع العداء الرسمي بين
الدولتين؟
هذا السؤال لم يعتمد فحسب على مشاركة حاخام إسرائيلي
في مؤتمر حوار الأديان فحسب، بل يستدعي جملة اللقاءات
السرية التي جرت بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين وبصورة
منتظمة منذ سبتمبر 2006 وحتى اللحظة. وذكرت (هآرتس) عن
لقاء سري عقد في دولة ثالثة فضّلت عدم تسميتها بين مسؤولين
سعوديين وإسرائيليين نوقشت خلاله سيناريوهات الأحداث في
المنطقة.
من جهة ثانية، ذكرت (هآرتس) عن إشارة لافتة تمثّلت
في قيام موقع (إيلاف) الالكتروني الذي يديره عثمان العمير
المقرّب من العائلة المالكة، قبل أسابيع بإرسال طلب رسمي
إلى مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي، لمنح بطاقة صحافي
لمراسله في إسرائيل نضال وتد.
ونقلت الصحيفة عن رئيس المكتب الصحافي الحكومي أن (إيلاف)
ليس وسيلة الإعلام السعودية الوحيدة التي تقدمت بطلبات
مماثلة، مشيرة الى أن العديد من وسائل الإعلام السعودية
وبينها صحيفة (الشرق الأوسط)، تجري مقابلات مع مسؤولين
إسرائيليين. وأجرت مقابلة مماثلة عبر مراسلها في إسرائيل
نظير مجلي، مع رئيس الوزراء إيهود أولمرت مطلع يوليو الماضي.
يذكر أن صحيفة (هآرتس) كانت قد نشرت أنباء عن لقاءات
تنسيقية بين مسؤولين إسرائيليين وسعوديين فيما يتصل بمواجهة
إيران وإحتمال قيام الدولة العبرية بتوجيه ضربة عسكرية
ضد المنشآت النووية الإيرانية. وكان مسؤولون إسرائيليون
ذكروا في ديسمبر 2007 بأن السعودية تشجّع إسرائيل على
الضغط داخل الولايات المتحدة من أجل القيام بعمل عسكري
ضد إيران من أجل كسر نفوذها في المنطقة، وتخريب ما حققه
حزب الله في لبنان من صد للعدوان الإسرائيلي، بما يسمح
بإعادة ترتيب لأوضاع إقليمية كبرى في العراق ولبنان وفلسطين
وحتى سوريا التي كانت الرياض تخطط مع تل أبيب من أجل إطاحة
النظام الحاكم فيها.
من جهة ثانية، كشفت صحيفة (المنار) الفلسطينية في 13
أغسطس الماضي عن اجتماعات سرية مكثفة عقدتها قيادات سياسية
وأمنية سعودية مع قيادات يهودية في الولايات المتحدة خلال
الأسابيع الثلاثة الاخيرة تناولت الصراع العربي الاسرائيلي
والدور السعودي في التأثير على الموقف الفلسطيني من افكار
طرحتها هذه القيادات اليهودية.
واشارت المصادر الى ان مبعوثين إسرائيليين تواجدوا
في تلك الفترة في الولايات المتحدة، والتقوا إثنين من
المسؤولين السعوديين يشغلان مناصب أمنية رفيعة، وأحدهما
عضو في هيئة التنسيق الأمني السرية التي شكلتها الولايات
المتحدة في المنطقة.
واكدت المصادر، بحسب الصحيفة، أن السعودية أبدت استعداداً
كاملاً للتأثير على القيادة الفلسطينية والمساهمة بشكل
كبير في حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في حال اتفقت الأطراف
المعنية على حل لهذه المشكلة، وأضافت المصادر أن المسؤولين
السعوديين أبلغوا القيادات اليهودية أن الرياض ستقوم قريباً
بإجراء تعديلات جوهرية على مبادرة السلام العربية وإعادة
طرحها من جديد لكسب تأييد عربي لها.
وكانت الصحيفة قد ذكرت في 28 أغسطس الماضي بان مشاورات
تعقدها الرياض والقاهرة من جهة مع دمشق لتعديل المبادرة
العربية. ونقلت الصحيفة عن مصادر دبلوماسية أوروبية أن
معسكر الاعتدال العربي يخشى من فقدان الأمل بإحداث تقدّم
في عملية السلام وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، ولذلك،
تقوم دول هذا المعسكر وبشكل خاص مصر والسعودية باتصالات
لاعادة تغليف (تعديل) المبادرة العربية للسلام وإعادة
طرحها بشكل يتلاءم مع التطورات والواقع الحالي في المنطقة،
وأشارت المصادر الى أن العلاقات بين القاهرة ودمشق والرياض
سوف تشهد تطورا خلال الأيام القادمة بهدف إشراك سوريا
الرئيسة الحالية للقمة العربية في الجهود التي تبذل لإعادة
طرح المبادرة العربية للسلام بشكلها الجديد، وسوف تحاول
السعودية ومصر الحصول على تأييد غالبية الدول العربية
للمبادرة في شكلها الجديد والتي ستعرض على الإدارة الامريكية
الجديدة فور دخولها البيت الأبيض. ونقلت الصحيفة عن تلك
المصادر قولها بأن الدول العربية المعنية ستعمل على دفع
الإدارة الامريكية القادمة إلى لعب دور كبير في رعاية
عملية السلام في الشرق الاوسط منذ لحظة دخولها البيت الأبيض،
وأنها لن تنتظر حتى تطرح هذه الإدارة مبادرة سلام جديدة.
وكشفت المصادر للصحيفة بأن مستشارين سياسيين كبار من
السعودية ومصر أجروا إتصالات وعقدوا لقاءات مع مسؤولين
كبار مختصين في شؤون الشرق الاوسط من الحزبين الديمقراطي
والجمهوري في الولايات المتحدة، ومع بعض مساعدي المرشحين
للرئاسة في محاولة لجس نبضهما ومعرفة رغباتهما في المرحلة
القادمة اتجاه الأوضاع في المنطقة. وقالت المصادر أن هذه
الإتصالات الأولية لم تنضج عنها بعد رؤية نهائية لطبيعة
التغيرات التي سيتم إدخالها على المبادرة العربية التي
من المتوقع أن تستكمل باشراك القيادة السورية. وحسب المصادر
الدبلوماسية، فإن القيادة السورية تؤيّد الخروج بمبادرة
عربية للسلام تشكل الموقف الرسمي للدول العربية في التفاوض
مع اسرائيل، وأن تعمل الولايات المتحدة وأوروبا على رعاية
ذلك، على أن يكون التفاوض بشكل جماعي دون الإنفراد بالمسارات
المختلفة.
وترى المصادر أن هذا التوجه لدى الدول العربية، يأتي
في أعقاب تأكيدات بفشل المبادرة الأمريكية للسلام التي
انطلقت في انابوليس، إلا أن فكرة إدخال تغييرات وتعديلات
على المبادرة العربية ليس بالأمر الجديد وأن العديد من
الأطراف العربية اقترحت ذلك في السابق.
الجدير بالذكر أن رهاناً إسرائيلياً بقي حاكماً على
المبادرة العربية وكذلك اللقاءات والإتصالات المنتظمة
بين مسؤولين إسرائيليين وقيادات عربية في معسكر الاعتدال،
ويتمثّل هذا الرهان في اعتراف سعودي علني بالدولة العبرية.
وكانت صحيفة (يديعون أحرونوت) ذكرت في أبريل الماضي بأن
مسؤولين إسرائيليين أوضحوا لنظرائهم الأميركيين بأن إسرائيل
معنيّة بأن تعترف السعودية بوجودها قبل المؤتمر المزمع
عقده في الخريف القادم، ذلك أنه من دون اعتراف كهذا لن
يكون من الممكن البحث في المواضيع المرتبطة بالتسوية الدائمة.
|